البناء والتقدم، بين تعظيم الدنيا وتعظيم الآخرة

في بيان منزلة الدنيا من الآخرة قال قائل: لما حقّر المسلمون أمر الدنيا أهملوها فتأخروا، والغرب لما عظّمها عمل لأجلها فتقدم، لذا ينبغي على المسلمين أن يَعدِلوا عن النظرة السلبية للدنيا، التي تؤدي إلى إهمالها وإهمال القيام بعمارتها، وأن يبحثوا في أسباب التقدم، لأن الله تعالى خلقنا لنستعمرها ونمشي في مناكبها. لكن هذا قول مغلوط، لأن المشكلة ليست في عمارة الأرض، بل المشكلة في الإقبال على الدنيا بدرجة العبادة؛ فالذين فقدوا الإيمان عظموا الدنيا لأنها رأس مالهم، والمؤمنون أخروها لتعظيمهم الآخرة، وهذان التعظيمان لا يجتمعان.

ثم إن هذا الرأي لم يصدق في تصوير هذه المشكلة، فهو مفتقر إلى الدقة، ذلك لأنه لا وجود اليوم لمسلمين يهوّنون من شأن الدنيا، حتى قرن مضى إلى قرنين، ليس ظاهرًا في المسلمين تعظيم الآخرة كما عظمها السلف إلا ما كان من أحاديث دون أن يكون لها أثر في الواقع. فمنذ مضي قرن الصحابة -عليه السلام- والمسلمون في انتقال مستمر من تعظيم الآخرة إلى تعظيم الدنيا… في إقبال على الدنيا وإدبار عن الآخرة… حتى تكامل اليوم أو كاد، وهذا يَعرِفه مَن درَس التاريخ ووقف على ما طرأ على المسلمين بعد الفتوحات وشيوع الأموال.
فالحقيقة أن المسلمين اليوم وغيرهم -في الإقبال على الدنيا- سواء؛ محبة وتعظيمًا واهتمامًا بالغًا… وإذا نظرنا إلى المترفين واللاهثين وراء الدنيا اليوم فسنرى الفرق بينهما، وهو أن المسلمين في حالة تلقٍّ وقبول لكل ما يغرقهم في الدنيا ويجعل منهم أمة تابعة مقلدة لغيرها، وأن الغرب في حالة تصدير وتأثير في العالم وفي المسلمين.. أيْ الغرب معظِّم للدنيا مؤثر في غيره، والمسلمون معظِّمون للدنيا متأثرون فيها بغيرهم.

أما ذلك القول المغالط، فإنه يصور المشكلة وكأن المسلمين رهبان أعرضوا عن زخرف الدنيا بالكلية ولم يقوموا بأي عمل دنيوي! ولكن ما يبدو لنا أن صاحب هذا الرأي يريد أن يرجع باللائمة على الشريعة بأنها كرست تهوين الدنيا وإهمالها، ولكن عندما فشل في ذلك رجع وألقى اللائمة على المسلمين، أي عندما استعصى عليه فهم الواقع قام بالنظر في طريقة الغرب في التقدم فرجع إلى المسلمين ليحملهم عليها.

أيًّا كان، فهو رأي خاطئ وتشخيص قاصر، وسبب الداء معروف غير مجهول، وما كان الله تعالى ليبهم ويعمي عن وسيلة علو الإسلام والنهوض بالأمة فلا يدركه إلا آحاد الناس.

كلا.. فهذه قضية كبرى. وعادة الشريعة، بيان وإيضاحُ القضايا الكبرى التي تهم الأمة. فأمر تعظيم الآخرة والتهوين من الدنيا في النصوص الشرعية أوضح من الشمس. أما سبب تأخر المسلمين، فلا يعرف إلا بعد معرفة سبب تقدمهم.

ففي المئة الأولى تمت الفتوحات، وبسط الإسلام سلطانه شرقًا إلى الصين، وغربًا إلى المحيط الأطلسي، وشمالاً إلى أوربا، وجنوبًا إلى إفريقيا. في قرن واحد هزم الإسلام إمبراطوريات كبرى ذات حضارات مؤثرة، وذات قوة عسكرية واقتصادية وثقافة وكثافة سكانية على رأسها فارس والروم. فبأي شيء تقدّموا عليهم؟ هل كان ذلك بحضارة مثيلة؟

كلا، لم يكن شيء من ذلك أبدًا -والتاريخ لا يمكن تزويره- بل لم يكن لديهم سوى إيمان عميق بالله واليوم الآخر أعطاهم اليقين والثقة والثبات والهدف الصحيح، وعمل صالح كان وقودًا لإيمانهم، وزهد في الدنيا أورثهم قوة القلب والتوكل على الله تعالى، وقوة أعدّوها قدْر المستطاع، لا مضاهية ولا مماثلة.

هذه هي أدوات العلو والنصر والتمكين التي كانت، وبها انتصر المسلمون في معارك غير متكافئة مع قريش ثم العرب ثم فارس والروم، كانوا فيها الأقل في العُدّة والعتاد والحضارة.

وقد بان لهم أسباب الهزيمة في معركة حنين، فبعدما كانوا هم الأقل عددًا وعُدّة في غزوات بَدْر وأُحُد والخندق ومؤتة وتبوك، هم اليوم في حنين الأكثر، فكان ما لم يحتسبوا، قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(التوبة:25).

مع الكثرة تنتفي الحاجة ويحل الغرور بالاعتماد على النفس وترك التوكل فتكون الهزيمة. والمؤمنون إنما ينتصرون بالله لا بأنفسهم، وبقوة الله لا بقوتهم: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى)(الأنفال:17).
وقد بين الله تعالى جليًّا في كتابه شروط التمكين في الأرض فقال: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور:55)؛ فذكر التوحيد وترْك الشرك، والإيمان بالله، والعمل الصالح، يضاف إليها ما ذُكر في النصوص الأخرى: إعداد القوة، والزهد مع التوكل.

ولم يذكر الأسباب المادية كعمارة الأرض، لأن حب البناء مركوز في الفطر، وإنما يذكر في العادة بما قد يهمل أو ينسى، لا ما كان حاضرًا في الذهن والواقع، فالناس في سعي مستمر لا يكفون، هذا خلقهم وديدنهم. فظهرت بهذا أسباب الهزيمة، وليس منها الضعف في العدد أو العتاد أو الاقتصاد أو الحضارة أو الصناعة، بل ضعف الإيمان وتعظيم الدنيا.

لكن هل المعنى أن لا نتخذ الأسباب للتقدم الاقتصادي والصناعي؟ اتخاذ الأسباب في كل شيء مطلوب، وكل ما يحقق للأمة تقدّمًا فهو مطلوب. وغير مطلوب محاكاة الذين فقدوا الإيمان لنكون صورة لهم في كافة أنواع التقدم… فبما أن ديننا غير دينهم وكذا شريعتنا، فيجب أن تختلف أهدافنا ووسائلنا وحدودنا وضوابطنا. وأبرز خلاف بيننا وبينهم في التقدم، هو أنّ تقدّمنا ينبني على تعظيم الآخرة، وتقدمهم ينبني على تعظيم الدنيا. فيتقدمون لأجل الدنيا، ونحن نتقدم لأجل الآخرة، وفارق الهدفين كبير.

في التقدّم المبني على تعظيم الدنيا، مغالاة وإفراط كبير في اتخاذ المتاع المادي بما يوصل إلى الترف والفجور والعدوان وسلب الناس أقواتهم وكرامتهم… وهو يصل إلى عبادة الدنيا.

وفي التقدم المبني على تعظيم الآخرة، حدود لا تُتَخطى، تقوم لخدمة الإنسان أولاً؛ بكفايته وأمنه قبل لهوه وملاعبه، يكفيه مشكلة القوت والسكن قبل المضاهاة ببناء ناطحات السحاب، ويصون كرامته عن المسألة بدل تشريده وحرمانه، ويقف بالرفاهية والبذخ عند حد، ولا يقبل بما هو محرم وضار، ولا بما يشير إلى نسيان الآخرة أو يفضي إلى ذلك.

ومن أراد تعظيم الآخرة من خلال تعظيم الدنيا، فقد أتى بمعادلة محالة. فإن الله تعالى لم يجعل تعظيم الدنيا طريقًا إلى تعظيم الآخرة بل بازدراء الدنيا. فمن رام ذلك فإما أن يهوّن من مقام الآخرة فيجعل الآخرة مطيته إلى الدنيا، أو يكتشف بعد عنت أنه محال. لكن عدم تعظيم الدنيا لا يلزم عنه إهمالها، كلا، بل المطلوب عدم المبالغة في العناية بها، وأن لا تكون هدفًا بذاتها، وأن لا تكون في القلوب.

وإذا أردنا أن ننتصر على الكافرين فبالدعوة إلى الالتزام بمبادئ الإسلام، ندعوهم بثقتنا بالإسلام، ويقيننا بالإيمان، والعزة والقوة في الحق، والجهر به والصدع، ندعوهم بالمبادئ الإيمانية والأخلاقية قبل التفوق المادي فيما لو تفوقنا.

فالتفوق المادي لا يجدي كثيرًا في دعوتهم، لأن عندهم منه وزيادة، ومهما صنعنا “ماديًّا” فلن نبلغ تفوقهم، لأننا مقيَّدون وهم منفلتون، والمنفلت يأتي بما لا يأتي به المقيَّد.

فكيف نطمع أن نهديهم بشيء هم فيه أحسن منا، ولا يلزم أن نكون أحسن منهم فيه في الصناعة والاقتصاد، يكفي أن نتقدم بما يسدّ حاجتنا فلا يتركنا محتاجين عالة معوزين، يكفينا من التقدم ما يردع عنا ويصون ديارنا وأعراضنا وأموالنا. هذا يكفينا… فلدينا مهمة عظمى هي بناء الآخرة بإصلاح أنفسنا، واستصلاح غيرنا، ودعوة العالمين إلى عبادة رب العالمين وحده. فلو استفرغنا جهدنا في بناء الدنيا فما يبقى للآخرة؟!

والصحابة -عليه السلام- دعوا فارس والروم بما ليس عندهم؛ بالإيمان بالله واليوم الآخر، ولا سبيل لنا إلا أن ندعوهم بما هم فقراء فيه، لا بما هم أغنياء فيه. هم فارغون، علينا أن نملأ أرواحهم بالإيمان. متخبطون فكريًّا، علينا أن نهديهم بإذن الله.

ميدان الروح والفكر هم فيهما ضائعون محتارون، ونحن فيهما نملك مصادر الهداية. وميدان المادة هم فيه أسياد وكهنة، ونحن مهما صنعنا لن نكون كمثلهم. فالعقل والمنطق يقول: نعطيهم ما عندنا مما اختصصنا به. ومن عدم البصيرة أن نترك هذه الغنيمة والطريق المفتوح، لنجتهد في فتح طرق مغلقة أمامنا فيها عوائق جمة تعوقنا أن نكون “مثلهم” في التقدم المادي لما سبق أنهم منفلتون، والمنفلت يفعل ما لا يفعله المقيَّد.

(*) جامعة أم القرى، مكة المكرمة / المملكة العربية السعودية.