الأصل أن نُجمِّع طاقتنا ونبذلها في مشاريع صالحة نافعة. وحذار من التشتت والتبعثر. فالإنسان محدود الطاقة والمقدرة، محدود التفكير والفهم، محدود المنطق والاستيعاب… فإذا ما تناثرت همّته هنا وهناك، يصاب بالإرهاق ويتعثّر في القيام بمهامه الضرورية، وربما يفشل في القيام بها تمامًا. ومن ثم اعملوا وسدِّدوا.. أُعجِب الناس بصنيعكم أم لا. رَحَّبوا بكم أم عَبَسوا في وجوهكم… ينبغي ألاّ نلتفت إلى ذلك. لِنَكُن ماء في الصحارى القاحلة… ولنتدفق سلسبيلاً كالأنهار… وإنْ عدّها بعضهم سُمًّا وأعرض عن شربها، لا نيأس.
لِنَكُن ترابًا تحت الأقدام دائمًا؛ كنْ ترابًا، كنْ ترابًا حتى تُنبت الورودَ… لِنَكُن ترابًا، ترابًا خصبًا معطاء…
لِنَكُن ترابًا تحت الأقدام دائمًا؛ كنْ ترابًا، كنْ ترابًا حتى تُنبت الورودَ… لِنَكُن ترابًا، ترابًا خصبًا معطاء… بعضهم قد يُعِدّ ذلك التراب قاحلاً فيُحجم عن نثر البذور، لا ضير… لننثُر كل ما نملك في تلك الأرض الطيبة، ولا يعنينا أَرَعاها من بعدنا أحد أم لا. لِنَكُن غمامًا يشمل الناس بظلاله، ثم يتقاطر غيثًا منهمرًا على رؤوسهم، ولا علينا أن ننشغل، أَقاموا سدودًا للاستفادة من ذلك الغيث أم لم يقيموا؟ لِنصدح بأقوى الألفاظ وأعذب الألحان، ولو سدّوا آذانهم أو أغمضوا عيونهم إعراضًا، لا نبالي… لِنَسْع دون ملل إلى إسماعهم أعذب الألحان بأعذب العبارات وأرق الألفاظ.
لِنَرْفع القلمَ ونكتبْ به عبارات مصبوغةً بالإخلاص، ملونة بالإخلاص، مزخرفة بالإخلاص، مطبوعة بالإخلاص… ولْتَكُن مرضاة الله روح تلك العبارات… ولا يعنينا أَأثْنى بعضهم عليها أم لا. فإنْ لم يُقبل عليها اليوم أحدٌ فسوف يحتضنها أجيال الغد المنصفون. لِنَكُن نحن ترابًا تطؤه الأقدام… لِنَبْق نُعفِّر وجوهنا بالتراب… ولا نبالي، أَعَرَفوا قَدْرَنا أم لم يعرفوا. لِنَنْثر البذور، ولا نبالي حتى لو زعموا أنهم هُمْ الزارعون… لِنُنْشئ سدودًا تَسقي أراضيهم، ولا نبالي ولو قالوا عن أنفسهم “نحن المنشئون”. فالقول لا يَعنينا، لأنّ المهم هو القيام بما ينبغي إكرامًا للإنسانية.
لِنَرْفع القلمَ ونكتبْ به عبارات مصبوغةً بالإخلاص، ملونة بالإخلاص، مزخرفة بالإخلاص، مطبوعة بالإخلاص…
قد تبدو هذه المعاني -لأني تفوَّهتُ بها- متعثِّرة شاحبة متهافتة، مِثْلي تمامًا، لكنها في أصلها نداء الأنبياء وأنفاسهم في كل زمان: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)… لا نريد منكم جزاء… فَعَلْنا، أَنْجَزْنا، أَقَمْنا، قُلْنا، مَهَّدْنا، كنا ترابًا، بلَّغْنا رسالة، نَشَرنا الحق، خَدَمنا الحقيقة… لا نريد منكم مقابل ذلك ولو مثقال ذرة.
الأستاذ بديع الزمان يذكر قصة حبيب النجار في سورة يس، والتي قيل إنها وقعت في أنطاكيا، والروايات تقول إنهم رسُلُ عيسى -عليه السلام-… يأتي رسولان ثم يلحق بهما ثالث. يقول حبيب النجار: (اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ). هؤلاء وجدوا الطريق، إنهم على هدى، وهم لا يطلبون منكم أجرًا.. إن كان لابد من الاتباع فاتبعوا هؤلاء… اتبعوا من لا ينتظر منكم شيئًا، لا يطمع في شيء عندكم. ولا تتبعوا من يحدِّق فيكم طمعًا في ثناء أو تصفيق أو تملّق مقابل معروف أسداه إليكم… أو يسعى إلى ملء أكياسه وخزائنه بأموالكم لقاء إحساناته إليكم… ولكن اتبعوا هؤلاء… اتبعوا الأنبياء العظام… اتبعوا ورثتَهم المخلَصين كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين آلاف المرات… اتبِعوا من سار على دربهم كالجيلاني، والشاذلي، ومصطفى الصديق البكري، ومحمد بهاء الدين النقشبندي، والإمام الرباني، وخالد البغدادي، والشاه ولي الله الدهلوي، وبديع الزمان النورسي، ومَن تبعهم بإحسان من نجوم الهدى… هؤلاء فارقوا الدنيا كما جاؤوا إليها؛ ليس معهم سوى الكفن. ولم يورِّثوا من متاع الدنيا ولو مثقال ذرة. هؤلاء هم من يُقتدى بهم… هؤلاء عدّوا الدنيا محطة عابرة… قال سيد المرسلين: “ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها”؛ لا علاقة لي بهذه الدنيا، إن صلتي بها صلة مسافر جلس تحت شجرة ريثما يلتقط بعض أنفاسه ثم غادرها.
قيمة العمل مرتبطة بخلوه من المنّ.
اتبعوا من كان على هذه الشاكلة، اتبعوا من يعيش عيشة كهذه… من اقتدى بهم لا يخسر أبدًا… لِنُكُثِر من العمل الطيب، ولِنَنْشر الخير والصلاح… ثم لا ننتظر مقابل ما بذلناه. ذَكَرْنا في أحد الدروس إذا صنعتَ معروفًا أو تصدّقتَ، أو زكّيتَ، أو أحسنتَ إلى أحد، أو وهبتَ أحدًا منزلاً، أو مهّدتَ طريقًا… فلا تُبطل هذا بالمنّ قولاً أو فعلاً أو إشارة أو حتى بتعبيرات وجهك وأنت تنظر إليه وكأنك تقول: ألم أُمَهِّد لك طريقًا؟ ألم أؤسس لك بيتًا؟.. إن فعلتَ، فقد صيّرت عملك رديئًا بلا قيمة.
قيمة العمل مرتبطة بخلوه من المنّ. يقول تعالى: (لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ)؛ لا تبطلوا ما تقدِّمونه رمزًا لصدقكم، وبوضوح أكثر، لا تبطلوا ما يعبّر عن شهامتكم ويرمز إلى صِدْقكم جهرًا أو تلميحًا على سبيل المنّة والإحراج. وكذلك التبليغ لا تعرّضوه لمصيبة المنّة، ولا انطلاقكم بهذه الرسالة إلى أنحاء العالم، ولا انفتاحكم إلى أكثر من 150 دولة، أو تأسيسكم لأكثر من ألف مدرسة… بل كلما انهمرتْ عليكم النِعَم الربانية كالغيث، وبلّلتكم من أعلى رؤوسكم إلى أخمص أقدامكم انحنوا كالغصن تواضعًا. هذا هو مقتضى الشعور بِنِعَم الله ومقتضى إدراك مواهبه الواسعة؛ أيْ الانحناء والسجود تواضعًا… هذا الانحناء اعترافٌ بأن هذه النِعَم ليست مِنَّا، إنما هي منه سبحانه. هذه الروح، روح النذر، هي المحرّك الأكبر لأولئك الذين نذروا أنفسهم لخدمة القرآن. ويجب على هؤلاء الناذرين ألاّ يتخلوا عنها أبدًا. شخصيًّا لم أستطع أن أكون كذلك، ولا أملك الهمَّة لذلك، ولكنكم بإذن الله وعنايته ولطفه ورعايته ستحققون ذلك.
اللهم أَفِضْ علينا من عَوارف المعارف… أفض علينا نعمك المشرقة الوجوه ومواهبك النضرة الملامح غيثًا مدرارًا يغشانا من رؤوسنا إلى أقدامنا. صُبَّه اللهم علينا صبًّا، فنحن فقراء لا يشبعون، وإزاء كل لطف من لدنك “هل من مزيد” يهتفون.
(*) الترجمة عن التركية: نور الدين صواش. هذا النص مفرَّغ ومترجم من دروس الأستاذ الشفوية.