الذكاء هو القدرة على إدراك المعلومات وفهمها واستنتاجها، وتطبيقها في حل المشكلات، والتكيف مع البيئة المحيطة.. ويشمل ذلك القدرة على التفكير المنطقي، والتفكير النقدي، وحل المشكلات، والتعلم، والإبداع، بالإضافة إلى القدرة على فهم الذات وفهم الآخرين، وهو نشاط يقوم به العقل.
يُعد الذكاء مفهومًا غامضًا حتى إن كُتُب علم النفس حوله مليئة بالأساطير والأخطاء، ومع ذلك فإن البحوث الحديثة تشير إلى أنه تم التوصل أخيرًا إلى إجابات عن بعض الأسئلة الرئيسة حول الذكاء. وليس شرطًا أن يرتبط الذكاء بالتحصيل الأكاديمي أو المنهجي كما هو معروف عند البعض، فقد يتعداه إلى أنواع أخرى متعددة، منها الذكاء الاجتماعي، واللغوي، والرياضي، حيث يتميز كل شخص بنوع أو أكثر من أنواع الذكاء.
يقول “يون” في كتابه “معجم الحقيقة”: “إن الحقيقة حول الذكاء هي أن الذكاء لا يتحرك أبدًا.. بل إنه ترقُّب لكل حركة، وبالتالي فهو خالٍ من أي حركة، ولا يمكن أبدًا أن يتحرك، ولا يحتاج إلى التحرك. الأفكار والمشاعر والعواطف تتحرك دائمًا، وبالتالي هي ليست ذكية”.
وقد تعددت النظريات حول التكوين العقلي لدى الإنسان، حيث بيّنت هذه النظريات رؤية العلماء للتكوين العقلي، وأهم أساليب القياس والتقويم لذكاء الإنسان، حيث أكد “جاردنر” عالم النفس، أنه لا يوجد هناك ما يُسمى ذكاءً واحدًا، وإنما يوجد لدى الإنسان ذكاءات متعددة، وأن جميع الأشخاص لديهم سبعة أنواع من الذكاءات، تختلف درجتها من شخص إلى آخر، وقد ذكر أهمية النظرية القائمة على الذكاءات المتعددة.
وينظر بعض العلماء إلى أنه لا يوجد اختلاف أو فروق في مستوى الذكاء بين الذكور والإناث، بينما يؤكد البعض الآخر وجود هذا الاختلاف؛ فيرى “إيزتك” أن الرجال والنساء يتساوون في متوسط درجاتهم في جميع اختبارات الذكاء الشائعة الاستخدام تقريبًا، ولكنه يؤكد تفوق الرجال عمومًا على النساء في القدرة البصرية المكانية، أي القدرة على تنظيم المعلومات البصرية في سياقها المكاني والتحكم بها، كما يتفوق الرجال أيضًا في المهارات العلمية، كقراءة الخرائط والأعمال الميكانيكية، بينما تتفوق النساء في المسائل اللفظية، فالإناث يبدأْن بالكلام قبل الذكور، وينطقْن بوضوح أكثر، ولهن مفردات أوسع في جميع الأعمار، كما أن قواعد اللغة لديهن أفضل من الأولاد. وفي دراسة “لبرت” وُجد أن البنات من بين 3000 من أطفال مدينة لندن يتفوقن على البنين في الأعمار من الثالثة حتى الرابعة عشرة تقريبًا.
ولا شك أن للذكاء علاقة قوية بالتعليم، فالذكاء هو الأساس الأول الذي يُبنى عليه مستوى تعليم الفرد. وتظهر العلاقة الواضحة بين الذكاء والتعليم في المراحل الدراسية الأولى (الابتدائية)، بينما تقل العلاقة تدريجيًّا في مراحل الدراسة (الثانوية والجامعية). وإن ارتباط الذكاء بالتعليم الدراسي لدى تلاميذ المرحلة الأساسية يصل إلى 75%، بينما أثبتت الدراسات الأمريكية أيضًا أن الارتباط يتراوح بين 60 إلى 65% بين طلاب المدارس الثانوية، في حين يهبط إلى 50% بين طلاب الجامعات. ويُعلَّل ذلك الانخفاض بأنه يعود إلى أن التعليم في الجامعة يتوقف -إلى حد كبير- على الاستعدادات الخاصة والميول والاهتمامات والاتزان الانفعالي للطالب، أو لأن الأذكياء الممتازين ينصرفون عن التعليم إلى نواحٍ أخرى.
كما يرتبط الذكاء بالمهنة، فقد دلت الدراسات التي أُجريت بين الفئات المهنية المختلفة أثناء الحربين العالميتين، على أن نسب ذكاء أصحاب الأراضي وعمال الزراعة كانت منخفضة بين قائمة المهن الأخرى، حيث إن الأفراد المجندين في الجيش الأمريكي أُخذوا من المشتغلين بعدة مهن، فقد اتضح عن طريق الاختبارات التي عُرضت عليهم أثناء التجنيد، مراتب مختلفة من الذكاء، حيث أظهرت النتائج أن أصحاب المهن الراقية كانوا في القمة (ونعني بها الطب والهندسة والصيدلة)، في حين كان أصحاب المهن اليدوية مثل الزراعة والحلاقة، التي لا تحتاج إلى مهارات، منخفضة. من هذا، تدلنا الأبحاث على أن الذكاء له علاقة قوية بالمهنة، وأن المهنة لها تأثير في رفع مستوى ذكاء الفرد أو خفضه.
أما عن علاقة الذكاء بالوراثة -أي بالصفات والسمات والمميزات التي تنتقل من جيل إلى آخر عن طريق التكاثر- فمن الضروري أن نشير أولاً إلى أنه لا يمكن فصل الوراثة عن البيئة، إذ إنهما عنصران هامان متفاعلان. فالقدرات الوراثية -مثل الاستعداد الفطري للكلام أو للمرض الجسمي- لا يمكن أن تتم بمعزل عن البيئة المحيطة. ولذلك فإن هذه الاستعدادات تتأثر بما يحيط بالفرد من مؤثرات خارجية يتفاعل معها الفرد فيؤثر بها وتؤثر به. كما أن هناك اتفاقًا شبه تام وعام حول نسبة تأثير كل من العوامل الوراثية والبيئية في الذكاء، بحيث يتراوح بين 70 إلى 80% للعوامل الأولى، وبين 20 إلى 30% للعوامل الثانية.
ولا شك أن للذكاء علاقة بعمر الإنسان، وهذه العلاقة إما أن تكون سالبة أو موجبة، بمعنى أن يكون الذكاء في مستوى العمر الزمني أو العكس. إذ ينظر “بينيه” إلى أن الذكاء يقف نموه عند سن الخامسة عشرة، بينما “ركس” ينظر إلى أنه يقف عند سن السادسة عشرة تقريبًا، أما العالمان “أوتس” و”مترو” فيجعلان الذكاء يقف في سن الثانية عشرة. ولكن معظم الذين استخدموا مقياس الذكاء، متفقون على أن الذكاء يتضح في سن السادسة عشرة تقريبًا، أما السن التي يقف عندها نمو الذكاء فما زالت موضع خلاف بين العلماء المعنيين بالأمر؛ فبعضهم يجعل هذا التوقف في الرابعة عشرة، والبعض -مثل “بينيه” و”ترمان” و”ميريل”- يجعلونه في الخامسة عشرة، ولكن معظم الباحثين يتفقون على أن نضوج الذكاء إنما يحدث في طوال السادسة عشرة.
وعن الذكاء والإبداع
يقول “بيرت”: إن 80% من المجرمين الآثمين، ضعافُ العقول، وهذا دليل على أن الذكاء يرتبط ارتباطًا وثيقًا بخُلُق الفرد، وأن هناك علاقة بين الذكاء والإبداع”. وقد وجد أن الشخص الذكي يكون أكثر ميلاً إلى التزعُّم، وأكثر استعدادًا للكلام. كما دلّت بحوثه على أن الأحداث الجانحين الذين تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 15 سنة، نسبة ضعاف العقول بينهم تساوي خمسة أضعاف أمثالها بين الطلاب.
المعروف طبيًّا أن التخلف العقلي، أو الضعف العقلي، أو التأخر العقلي، أو القصور العقلي، هو تأخر أو عدم تكامل نمو ونضج العقل المعرفي، مما يؤدي إلى نقص في ذكاء الفرد بدرجة لا تسمح له بحياة مستقلة أو حماية نفسه ضد مخاطر الحياة، إلا أن الفرد المتخلف عقليًّا قد يفكر كما يفكر غيره، وقد يفهم كما يفهم الآخرون، ولكن على مستوى أقل وببطء أيضًا. وبذلك يمكننا أن نُعرِّف الطفل المتخلف عقليًّا، بأنه أقل قدرة على الفهم والتفكير من الأطفال العاديين، وأقل إدراكًا وأقل استعدادًا للتعلم، كما أن قدرته على التذكر وعلى التركيز محدودتان.
والواقع أن آثار الضعف العقلي تتضح في ضعف مستوى أداء الفرد، سواء كان هذا الأداء في المدرسة أو في عمل يدوي يحتاج إلى مهارة، كما تتضح أيضًا في قدرته على التوافق النفسي والاجتماعي، وفي قدرته على الأخذ والعطاء.
كما يمكن تعريف الذكاء بأنه القدرة على القيام بعمل على درجة من الصعوبة أو التعقيد، أو يحتاج إلى درجة من التجديد أو الخلق أو الابتكار. والنظرة السائدة علميًّا أن الذكاء قدرة أو قدرات، لها أساس بيولوجي، وأن اختلاف الأفراد في معدلات ذكائهم يرجع إلى اختلافهم في التكوين الجُسماني. بمعنى آخر، أن الذكاء موروث وراثة بيولوجية. ولكن هل الذكاء كله منحة جسمانية؟
الإجابة هي أن الذكاء ليس مجرد منحة جسمانية لا تتأثر بالبيئة التي يعيش فيها الفرد، فمعدل ذكاء الفرد يتأثر بدرجة انتشار الثقافة في البيئة التي يعيش فيها. ولذلك، فإن ذكاء أهل الجبال والصحارى والواحات وأهل الريف، يختلف عن ذكاء أهل المدن عندما يُقاس بمقاييس الذكاء، وذلك لاختلاف الثقافة والبيئة.
ولا تختلف الشعوب والأجناس المختلفة من حيث توزيع نسب الذكاء الفطري بين أفرادها، ولكنها تختلف في البيئة والثقافة، فلا الذكاء أو العبقرية احتكار أو وصفة لأفراد شعب من الشعوب، ولا الغباء وضعف العقل صفة لأفراد شعب أكثر من شعب آخر. بل ليس هناك فروق بين الملوّنين والبِيض، أو الذكور والإناث، من حيث توزيع معدلات الذكاء الفطري بين الأفراد في الشعوب المختلفة، وكل ما يُقال عكس ذلك، يخدم سياسة لا صلة لها بالعلم والعدل.
ولاختلاف ثقافات الشعوب والبيئات في المجتمعات المختلفة، فإن مقاييس الذكاء في مجتمع ما، لا تصلح للاستعمال في مجتمع آخر، بل يجب تقنين الاختبارات محليًّا في كل بيئة. وهذه الاختبارات لها أهمية كبرى في تشخيص وتوجيه ضعاف العقول، ذلك لأن الاتجاه العالمي لمفهوم الذكاء، ينحو نحوًا نفسيًّا وظيفيًّا يتلخّص في أنه القدرة على الأداء، والقدرة على التعلُّم والتكيُّف.
من هنا، كان تقنين اختبارات ذكاء محلية في كل مجتمع، أمرًا له أهمية قصوى في سياسة رعاية ضعاف العقول في أي دولة، وإن كانت للخبرة السريرية (الإكلينيكية) أهميتها أيضًا في تشخيص حالات الضعف العقلي، خصوصًا في حالات غياب الاختبارات المُقنّنة تقنينًا علميًّا على البيئة المحلية، وحالات الشك في نتائج الاختبارات أو تضاربها. إذ إنه في العادة يُعطى للفرد عدة اختبارات، فإن لم تتوافق نتائجها جميعًا -أو على الأقل تتقارب- فإن الشك يتطرّق إليها.
يقول “روبرت بولمن” من “كينغز كوليدج” في بحثه المنشور بمجلة “بحوث التوائم والوراثة”: “إن الناس يعتقدون مع تقدم العمر بمفهوم فظيع، وهو أن الاختلافات البيئية تصبح أكثر أهمية، لاعتقادهم أن الجينات تؤثر فقط على ما يحدث أثناء الحمل، وهذا غير صحيح بالطبع. وفي الحقيقة، تشير مئات الدراسات إلى الاتجاه نفسه، وهو أن خمسين بالمائة من الفرق بين الناس، هو بسبب الوراثة”.
(*) كاتبة وباحثة مغربية.
المراجع
(1) نظرية الذكاءات المتعددة، د. مها إبراهيم الكلثم، ط١، ج1، 2024م، بتصرف.
(٢) محاور الذكاء السبع، د. وليم كرامز، ط١، العتبة: دار الخاود للتراث، القاهرة ٢٠٢٣م.
(٣) Education et personnes âgées en France, Rapport de la Conférence internationale pour l’éducation des adultes (UNESCO), publié par le Centre international de gérontologie sociale, Paris, 2024.
(٤) La Santé dans le tiers-monde, in Prévenir, Cahiers d’édition de Vie mutualiste, Marseille, 2024.


