اهتم المسلمون الأوائل بصناعة الأجهزة والآلات التي تساعدهم في أعمالهم العلمية، ومن أهم هذه المجالات “علم الفلك”، الذي تطور في عهدهم تطورًا كبيرًا جدًّا، فاخترعوا له العديد من الآلات، وطوروا ما كان موجودًا منها، و”البوصلة” كانت من أشهر تلك الآلات.
ويُعدّ البحث في أصل البوصلة الملاحية أو “بيت الإبرة” بحثًا طويلاً شيقًا، وبخاصة أن الرأي السائد في أوروبا في أوائل القرن الماضي، كان أن الأوروبيين هم الذين ابتكروا البوصلة الملاحية. وقد استرعى هذا الرأي نظر باحثٍ مدقق هو العالم الألماني البارون “ألكسندر فون هبولت” (Alexander Von Humboldt)، الذي اشتهر برحلاته البعيدة، وكشوفه الجغرافية في أمريكا الجنوبية. فكتب خطابًا إلى عالم الصينيات “كلابروت” (J. Klaproth) في يناير عام 1834م، ليطلب منه توضيح الحقيقة حول تاريخ البوصلة الملاحية. فأعدّ الأخير بحثًا في 138 صفحة نشره في باريس، وأجاب فيه عن استفسارات البارون الألماني. ويُعتبر هذا البحث فريدًا في بابه؛ إذ رجع فيه “كلابروت” إلى عدد كبير من المصادر الأصلية الأوروبية والصينية القديمة.
والقول بأن تقسيم البوصلة الملاحية -أو دائرة الأفق- يرجع إلى أصل صيني، قولٌ مردود عليه؛ لأن وردة الرياح الصينية القديمة كانت تنقسم إلى 28 خانة، وتقسيمها نهاري يعتمد على حركات الشمس في فصول السنة المختلفة، وهو تقسيم يختلف اختلافًا جوهريًّا عن التقسيم العربي الملاحي لدائرة الأفق إلى 32 خانة. وهذا التقسيم العربي هو نفسه المستخدم حاليًّا في بوصلة الملاحة الحديثة.
أما كلمة “بوصلة” (Bussola)، فكلمة إيطالية تعني “الصندوق” أو “الحُقّ”، وقد شاع استعمالها بمعنى الآلة التي توضّح الاتجاه في البحر بخاصية انجذاب الإبرة المغناطيسية نحو الشمال. ولا يعني ذلك أن الإيطاليين هم أول من ابتكرها، وإنما أُطلقت هذه الكلمة الإيطالية التي تعني “الحُقّ” على أول آلة من نوعها عُرفت في أوروبا، وقد صنعها ربّان إيطالي يُدعى “فلافيو جيويا” (Flavio Giola) من بلدة “أمالفي” (Amalfi)، حيث وازن هذا الملاح الإبرة الممغنطة على طرف محور دقيق في حُقّ أو صندوق، وذلك في السنوات الأولى من القرن السادس عشر الميلادي.
وقبل ذلك بنصف قرن من الزمان، نجد في كتاب “ابن ماجد” و”المهري” إشارات إلى شيوع استعمال هذه الآلة عند الملاحين العرب في المحيط الهندي، وهم يشيرون إليها تارة باسم “بيت الإبرة” وتارة باسم “الحُقّة” أو “الدِّيرة”. ومن ذلك قول ابن ماجد في “حاوية الاختصار”:
| وجــدد الآلــةَ قـــبـل الســــــــــــفرْ | كحُـــقٍّ او قـــياسٍ او حجــــــــــرْ |
| والبِلْدِ والفانوسِ والرهمانجا | وإن تكـن سافرت كمن حجّا |
ومعنى هذين البيتين أن الربّان العربي يوصي بفحص وتجهيز الآلات الملاحية قبل السفر، مثل “بيت الإبرة” أو “الحُقّة”، وآلة القياس (وهي الخشبات)، وآلة سبر الأعماق (البِلد)، والمصباح (الفانوس)، والمرشد الملاحي (الرُّهمانج). ومن ثم، لم يكن الربّان الإيطالي “فلافيو جيويا” أول من ابتكر تعليق الإبرة الممغنطة على محور لتتحرك حركة حرّة، بل سبقه في ذلك ابن ماجد الذي يقول أيضًا في كتاب “الفوائد” عام 1475م: “ومِن اختراعنا في علم البحر تركيبُ المغناطيس على الحُقّة بنفسه، ولنا فيه حكمة كبيرة لم تُودَع في كتاب”.
ومن كل ذلك يتضح أن ابتكار الملاح الإيطالي ليس سوى نقل لآلة ابن ماجد، وهي “الحُقّة العربية” التي كانت مستعملة في المحيط الهندي في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. كما أن لـ”ابن ماجد” آراء في اختيار المكان المناسب لتثبيت “بيت الإبرة” أثناء صنع السفينة نفسها، الأمر الذي يدل على أن “بيت الإبرة” كان له مكان ثابت معلوم يُوضع فيه، ويُحدَّد هذا المكان في هيكل السفينة قبل أن تُنزل إلى الماء.
وجدير بالذكر أن العرب كانوا على علم تام بخاصية الجذب المغناطيسي، وبخاصية المغنطة للحديد بالدلك. يقول ابن الفقيه (903م) في كتاب “البلدان” عن جبل آمد: “ومن عجائب الجبل الذي بـ”آمد”، أنه متى يُحكّ بذلك الجبل سكين أو حديد أو سيف، حُمِيَ ذلك السيف والسكين والحديد، وجذب الإبر والمال بأكثر من جذب المغناطيس. وأعجوبة أخرى أن ذلك الحجر نفسه لا يجذب الحديد، فإن حُكّ عليه سكين أو سيف جذب الحديد. وفيه أعجوبة أخرى، وذلك أنه لو بقي مائة سنة لكانت تلك القوة قائمة فيه”.
ويرجع تاريخ هذا النص إلى قرن سابق على القرن الذي وصف فيه الصينيون خاصية المغنطة. وينحصر ابتكار البوصلة الملاحية بين العرب والفرس المسلمين والصينيين. ولكن، أين ومتى التقى العرب والفرس بالصينيين أول مرة؟ وأيهما كان له التفوق الملاحي في البحر؟ وما مدى قوة العلاقات التجارية بين الشعبين؟
الثابت من الوجهة التاريخية، أن العرب قد دخلوا بسفنهم للتجارة إلى موانئ الصين في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، بينما لم تصل السفن الصينية إلى موانئ بحر فارس إلا بعد ذلك الزمن بوقت طويل. وقد ظل العرب يتاجرون بنشاط كبير مع الصين حتى القرن العاشر الميلادي، بل إن تجارة الصين الخارجية كان أغلبها في أيدي الربابنة العرب. ثم انقطعت هذه العلاقات التجارية بين الشعبين لفترة من الزمن، فلم تصل السفن العربية إلى الصين بعد القرن العاشر مرة أخرى، إلا في القرن الثاني عشر الميلادي.وبذلك تكون الفترة فيما بين القرنين السابع والعاشر الميلادي، من أهم الفترات في تاريخ اكتشاف البوصلة الملاحية.
والمراكب الصينية لم تصل إلى الخليج الفارسي قبل القرن التاسع الميلادي، بينما المراكب العربية والفارسية طرقت هذا الطريق ودخلت موانئ “كانتون” منذ القرن السابع الميلادي. أما السفراء العرب والتجار والعساكر والفرس المسلمون، فكانوا يسافرون إلى الصين منذ عام 651م، وقد وُجدت نقود عربية ومنشآت عربية وفارسية ومساجد في الصين منذ ذلك العصر (من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي)، وبخاصة على جزيرة “هايتان”، كما كانت المراكب العربية والفارسية تدخل نهر كانتون. ويؤيد ذلك ما نجده في رحلة التاجر “سليمان” في القرن التاسع الميلادي، وفي كتب البلدان العربية من وصف الطريق الملاحي إلى الصين ومراحله.
وأقدم نص معروف في المصادر العربية لاستخدام البوصلة في الملاحة، يرجع إلى مخطوط كُتب في القاهرة عام 1282م، ومحفوظ الآن في المكتبة الأهلية بـ”باريس”، لمؤلف يُدعى “بيلق القبجاقي”، بعنوان “كتاب كنز التجار في معرفة الأحجار”، ومؤرَّخ بعام 681 هـ/1282م، وفيه يُروى ما يتعلق بخواص الحجر المغناطيسي.
ويذكر “المقريزي” في كتاب “الخطط”، الذي كتبه في القاهرة بين عامي 1410-1430م، نصًّا مماثلاً لنص “القبجاقي”، ويقول فيه: “إن السمكة من الحديد المطروق يستقر فيها نحو الجنوب، وإذا عُرف الشمال والجنوب عُرف الشرق والغرب، وإذا عُرفت الجهات الأربع الأصلية، أمكن معرفة مواقع البلدان”. ويضيف “المقريزي” نصًّا مماثلاً لنص “القبجاقي” أيضًا عن طفو المعادن المطروقة، وإمكان تحميلها بأثقال توازي الفرق بين وزن الماء المزاح ووزن الوعاء المطروق.
ومن هذه النصوص يمكن استنتاج أن العرب عرفوا خاصية مغنطة الإبرة وقطع الحديد وما إليها منذ القرن التاسع الميلادي على الأقل. وأن البوصلة الملاحية التي ظهرت في المحيط الهندي لأول مرة، كانت على شكل إبرة ممغنطة تطفو فوق حلقة من خشب السنط أو النخاع الخفيف، ثم تطورت إلى قطعة من الحديد الرقيق المطروق على شكل سمكة تطفو لتستقر في وضع الشمال أو الجنوب فوق الماء. بينما ظلت الإبرة -في نفس الوقت- في البحر المتوسط على حالها كإبرة ممغنطة تُغرس في حلقة من الخشب الخفيف أو في عود رقيق، لتطفو فوق الماء.
أما التطور الثالث والهام للبوصلة فكان على يد “ابن ماجد” في النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، وذلك أيضًا في المحيط الهندي، وذلك بتجليس الإبرة الممغنطة على محور لتدور أفقيًّا فوق قرص دائرة الرياح، ويُثبّت الجميع في حُقّة أو صندوق. ثم انتقلت فكرة الإبرة الممغنطة التي تطفو فوق الماء، إلى أوروبا عن طريق العرب خلال الحروب الصليبية الأولى. وتطورت البوصلة إلى ما يشبه حُقّة ابن ماجد على أيدي الإيطاليين في أوائل القرن السادس عشر الميلادي.
ومما يؤيد ذلك، تفوق ملاحِي المحيط الهندي على ملاحِي البحر المتوسط في القرون الوسطى وحتى قبل عصر الاستكشافات الملاحية الكبرى، التي تمت على أيدي البرتغال والإسبان في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، سواء في أدوات الملاحة أو في قياسات النجوم ومعرفة الانحراف وقياس المراحل والدوائر الملاحية. كما يتضح أيضًا من كلام المؤرخين البرتغال، الذين أرّخوا لرحلة “فاسكو دي جاما” إلى الهند، كيف دهش البرتغال عندما وقفوا في المحيط الهندي على آلات الرصد العربية وخرائط العرب الملاحية والبوصلة التي كانوا يستعملونها.
بينما نجد الصين، في نفس الفترة، فيما بين القرنين السابع والعاشر الميلادي، تحت حكم أسرة “تانج” (Tang)، دولة ضعيفة تغلب عليها الثورات والاضطرابات الداخلية، مما جعلها مطمعًا لحكم المغول. وفي مثل هذه الظروف تكون الحالة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد على قدر من التأخر، الذي جعل التجارة الخارجية للصين كلها تقريبًا في أيدي الربابنة العرب والفرس، الذين كانت لهم جالية قوية في “كانتون”. ومثل هذه الظروف -بطبيعة الحال- لا تساعد على الابتكار. ولم تستعد الصين عظمتها إلا تحت حكم أسرة “منج” (Ming) الصينية، التي استولت على الحكم من المغول بعد ثورة قام بها الفلاحون. وبعد فترة من الهدوء والاستقرار الداخلي، بدأ العصر الذهبي للصين يشرق مرة أخرى، وفي منتصف القرن الرابع عشر، بدأت سفن “الجنك” الصينية تُقلع مرة أخرى إلى “عدن” والموانئ العربية بعد أن كانت قد انقطعت عنها مدة طويلة. ثم بدأ عصر الكشوف الصينية في البحار الغربية في أوائل القرن الخامس عشر، فوصلت مراكبهم إلى “هرمز” و”مقديشو” وموانئ البحر الأحمر. ثم لاقت البوصلة الملاحية تطورًا كبيرًا بعد ذلك على أيدي الغربيين، وتم اكتشاف ظاهرة الانحراف المغناطيسي في القرن السادس عشر، وإن لم يُعرف سببه على وجه الدقة قبل القرن التاسع عشر.
كما أدخل الملاحون الغربيون تحسينات كبيرة على البوصلة المغناطيسية التي تعتمد على المجال المغناطيسي للأرض في حركتها، كما ابتُكرت بوصلة الجيرو التي تعتمد في حركتها على دوران الأرض.
(*) أستاذ جغرافيا الأديان، وكيل كلية الآداب، جامعة دمنهور / مصر.
المراجع
(1) الملاحة وعلوم البحار عند العرب، أنور عبد العليم، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1979م.
(٢) مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، طاش كبرى زادة، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1985م.
(٣) تاريخ علم الفلك في العراق، عباس العزاوي، المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1958م.
(٤) الكشوف الجغرافية، عبد العظيم أحمد عبد العظيم، مكتبة الإسراء، الإسكندرية، 2021م.
(٥) الفكر الجغرافي، عبد العظيم أحمد عبد العظيم، مكتبة الإسراء، الإسكندرية، 2022م.
(٦) مادة أسطرلاب، كرلو نلينو، دائرة المعارف الإسلامية، دار المعرفة، بيروت، 1933م.
(٧) تاريخ علم الفلك منذ أقدم العصور حتى العصر الحاضر، مخلص عبد الحليم الريس، ط1، دار دمشق، دمشق، 1984م.


