شكّلت القصة في الخطاب القرآني جزءًا مهمًّا من تركيبته اللغوية، لما تكتسيه من قدرات تبليغية وتأثيرية تنسجم مع الفطرة البشرية التي تنزع نحو السرد؛ فقد جبل الله تعالى الإنسان -باعتباره كائنًا لغويًّا- على حبّ الحكي والميل إليه، حتى إن بعض المناطقة عدّوا الإنسان كائنًا سارِدًا، واعتبرت الأنساق البنيوية الحديثة السرد خطابًا ممتدًّا في كل شيء. فقد ذكر البنيوي الفرنسي “رولان بارت” بأن السرد يتواجد في الأسطورة، والحكاية، والملحمة، واللوحة التشكيلية، والصورة.. إنه يوجد في كل شيء؛ مما يؤكد أن لجوء الخطاب القرآني إلى تبنّي إستراتيجية السرد، لم يكن لمجرد تبليغ فحوى القصة بأحداثها وما فيها من حكم وقيم، وإنما كان تمريرًا جماليًّا يستحضر فعل التلقّي، الذي عبّرت عنه الآية بقوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)(يوسف:3)، فتوصيف القصص المحكي بالحُسن، مرَده إلى ما يزخر به من جماليات تسمو به عن ألوان السرد البشري، ومهما بلغت براعته مبلغها الكبير، فإنها لن تستطيع مضاهـاة القصص القرآني. فكان تصدّرها للسورة قبل البدء في حكي الأحداث، إعلانًا صريحًا عن تفوّق القصة على سائر المنتج السردي البشري على امتداد التاريخ.
إن القصة القرآنية، وهي تشيّد معمارها السردي في الخطاب القرآني، شيدته بتلاوين وأبنية متعددة، وفق ما يقتضيه المقام؛ فجاءت القصة تارة مطوّلة مفصّلة للأحداث، وتارة أخرى موجزة مقتضبة، فتكررت بأنساق سردية وأبنية لغوية مختلفة، تناسبت مع السياق القرآني الذي استدعاها. كما نجد في قصة موسى عليه السلام التي ترددت في سور كثيرة، ناقلة إلينا مجموعة من الأحداث المختلفة؛ تبتدئ من لحظة الإلقاء في اليمّ، وما يكتنفها من جوّ نفسي شديد التوتر، يستشعره القارئ لحظة الأمر الإلهي لأمّ موسى عليه السلام، وتنتهي بلحظة النصر على فرعون غرَقًا في البحر، وما بينهما من أحداث مشوّقة تحبس الأنفاس، كلحظة الذهاب لإحضار قَبَس من نار، وتكليم الله تعالى له بجبل الطور، ولحظة خرّ موسى عليه السلام صعقًا عندما أراد رؤية الله تعالى، ولحظة الفرار بعدما قتل نفسًا بغير قصد.
وقد ترد القصة في موضع واحد يتلاءم مع موضوع السورة، كما في سورة مريم التي جاءت فيها قصة مريم وعيسى عليهما السلام (قصة الولادة)، نفيًا لتأليه عيسى عليه السلام، مع ما أعقبها من ومضات قصصية تشبه ما يقوم به القصّاصون اليوم في إطار ما يسمونه بجنس القصة القصيرة جدًّا، حيث وردت في السيدة مريم ومضات قصصية خاطفة عن عدد من الأنبياء، هم إبراهيم، وموسى، وهارون، وإسماعيل، وإدريس عليهم السلام. قد يبدو أن ذكرها لا يعدو أن يكون تنويعًا قصصيًّا وعرضًا لأسماء الأنبياء، غير أنها في حقيقتها خيوط متناسقة تشكّل الإطار القصصي الذي وُضع أساسًا لإصلاح العقيدة. لذلك، كان إيراد تلك الومضات شديدَ التلاؤم مع موضوع السورة. في تقرير الألوهية، وترسيخ مبدأ العقيدة الصافية، عقيدة التوحيد في القلوب.
وقد تأتي القصة في السورة الواحدة -كسورة يوسف عليه السلام- لتحكي كل الأحداث من البداية إلى النهاية، ناقلةً كل تفاصيلها وأحداثها، منسجمة البدء والانتهاء، شديدة التناسق والتناغم، تحمل القارئ على التشوّق لمعرفة تأويل الرؤيا التي شكّلت البداية الفريدة والجميلة؛ ليجد الجواب في نهاية القصة، حيث تأخذه الأحداث هنا وهناك، مسافرة به في الزمان والمكان، مما يُظهر أن الخطاب القرآني تعامل مع القَصّ بفنيات عالية وجماليات متعددة، فاقت ما يمكن أن يأتي به عباقرة السرد وكبار مبدعيه من البشر في العالم عبر التاريخ كله.
إن السارد في الرواية أو القصة أو الحكاية الشعبية، أو غيرها من أنماط السرود التي حفَل بها المحضن الثقافي العالمي، لا يمكنه أن ينقل الأحداث إلا في إطارات زمنية ومكانية، وبحضور قوى فاعلة تمثلها الشخوص، أو كائنات أخرى أو جمادات أحيانًا، أو قوى طبيعية تكون فاعلة في الحبكة الحكائية. ولا بد للسارد من أن يجتهد في إيجاد الصراعات والتوترات من شتى الأصناف الفكرية والنفسية والاجتماعية وغيرها، من أجل حمْل المتلقي على التشوّق لقراءة أو سماع المتن المسرود. ولا بد أن ينتهي السرد إلى لحظة انفراج تُفَكّ فيها العقد.
هذه المقوّمات الفنية لا غنى عنها للسرد البشري في أبنيته المختلفة، ولا يمكن تصور سرد دونها؛ لأن إقصاء بعضها سيُخرج النص من دائرة تجنيسه السردي إلى دائرة أخرى.
كما أن استدعاء هذه المقومات الفنية يكون إحقاقًا لدلالات ومقصدية من التسريد، لا تتجاوز حدود التحديد الزماني والمكاني للأحداث في ارتباط بالتاريخ، وما تُحيل عليه الشخوص من أيديولوجيات وأفكار ورؤى أفرزتها مرحلة تاريخية. لكن حينما نتأمل القصص القرآني نجد توظيف هذه المقومات بشكل فني وجمالي، مختلف عن السرود البشرية.
إن التوظيف الجمالي للمقومات الفنية، وتحديدًا مكونَي الزمان والمكان في القصص القرآني، يكتسي بُعدًا فريدًا من نوعه يجعله مثيرًا للانتباه والتذوّق؛ ذلك أن القصة القرآنية -بغضّ النظر عن تفصيلها أو إيجازها- قد تستخدم المكونين معًا في بنية السرد، وقد تستغني عن أحدهما أو كليهما، مكتفيةً بالعلامات المرجعية الدالة عليهما، أو دون اللجوء إلى أيَّة علامة من العلامات. ويظهر هذا الأمر في القصص القرآني المقتضب، الناقل لأحداث متفرقة يستدعيها السياق القرآني، وفي القصص المفصّل الناقل للقصة كاملة.
وكما في سورة يوسف حين أُشير إلى الزمن الليلي في قوله تعالى: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ)(يوسف:16)، إذ يحضر وقت العشاء منسجمًا مع سياق القصة التي تنقل إلينا رجوع الإخوة باكين، لإخبار أبيهم بخبر الذئب وما افتروه حول يوسف، ومعهم القميص الملطّخ بالدم الكاذب. فكان لزامًا عليهم التأخر، دلالةً على بحثهم عن يوسف عليه السلام، وإخفاءً لأمارات الكذب من وجوههم، فيكون العشاء بظلمته قناعًا يستر علامات الكذب الفاضحة أثناء المحاورة.
ولننظر أيضًا إلى هذا الجزء من قصة موسى عليه السلام مع فرعون، حيث تم تحديد اللقاء بين موسى عليه السلام والسحرة يوم الزينة، ليكون اجتماع كل الناس ليشهدوا الحدث الكبير: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)(طه:59).
فيحضر الزمن النهاري، محدَّدًا في الضحى الذي يتميز بطلوع الشمس مقدار رُمح، وهو وقت بدء النشاط وزمن الحركة والوضوح، حتى إن الكلمة نفسها -من حيث الاشتقاق- مأخوذة من مادة (و – ض – ح)؛ للدلالة على أن الفترة ستكون لحظة وضوح للحقيقة أمام مرأى العيون.
فكان التعبير عن أن الحقيقة لا محالة ظاهرة بغلبة موسى عليه السلام على السحرة، بلفظ دالٍّ على زمن الضحى، ليتحقق انسجام جمالي فريد من نوعه، معجز في بلاغته، للزمان في القصة القرآنية، لما يحمله من مقصدية دالة، ويضيفه من جمالية للسرد القصصي.
أما المكان في القصة القرآنية فيتم توظيفه بنفس المنطلق الجمالي، ويتم تغييبه حين لا تكون ضرورة السرد تستدعيه لانعدام وظيفيّته الدلالية، فيكون إقصاؤه من السياق القرآني جزءًا من جمالية القصة. فقد جاء في معرض الحديث عن قصة سليمان عليه السلام وملكة سبأ قول الله تعالى: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِله رَبِّ الْعَالَمِينَ)(النمل:44).
يأتي حضور المكان في هذا الموضع بدلالة جلية، فرضها السياق القرآني الذي تجلّى فيه تباهي حاشية بلقيس بالقوة، ومحاولتهم المساومة بالمال لصرف سليمان وردِّه عن دعوته. قال تعالى: (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(النمل:33-35).
ليكون رد سليمان عليه السلام حاسمًا بعد العرض، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ)(النمل:36-37).
فكان هذا السياق المشحون بالصراع طريقًا ملائمًا لإظهار ملامح القوة والملك، إثباتًا من سليمان عليه السلام بعد إحضار عرش بلقيس من مملكتها إلى قصر سليمان عليه السلام، ليكون تجلي المكان ضرورة يحتمها السياق الفني والدلالي معًا لإظهار عظمة الملك، التي جلتها اللغة الواصفة لنواحي الإعجاز في المعمار، فهو صرح ممرد من قوارير، شفاف لامع يجري تحته الماء، مما جعلها تكشف عن ساقَيها حتى لا تبتلّ، ظنًّا منها أنها تسير فوق الماء، ليُعلِمها سليمان عليه السلام أنه صرح مُمرد من قوارير، ليظهر عظمة ملكه الخارق والفائق لملك بلقيس، ويتحقق المراد من المكان، وهو إظهار عظمة الملك الدال على عطاء الله تعالى لنبيِّه سليمان عليه السلام، فيكون ذلك مدعاة لإسلام بلقيس وقومها وتوحيدهم لله تعالى.
وفي مقابل هذا الاستحضار الجمالي للمكان، تكون القصة أحيانًا غير محتاجة لذكره، لعدم فائدته وعدم خدمته لمقصدية الخطاب. كما نجد -مثلاً- في قصة إبراهيم عليه السلام مع والده، حيث يغيب الفضاء المكاني كما يغيب الزمان، وتحضر الشخوص والأحداث والعقدة والحل في محاورة ممسرحة تتبادل فيها الأدوار الحوارية بين النبي إبراهيم عليه السلام وأبيه، قال تعالى: (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)(مريم:42-45)، ليكون الرد القوي الفظ من آزر، قال تعالى: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)(مريم:46).
سرد قصصي اتخذ بنية الحوار، لم يُستحضر فيه رائحة المكان والزمان مطلقًا لانعدام فائدته في سياق الدعوة إلى التوحيد، ومحاولة إبراهيم عليه السلام بالحِجَاج عقلاً وعاطفة استمالة وجدان أبيه وإقناع فكره بالعدول عن عبادة الأصنام، وكأن الخطاب القرآني ينقل رسالة تتعلق بانفتاح الدعوة إلى الله، وعدم ارتباطها بالزمان والمكان. لذا جاء القصص القرآني بدون إشارات إلى المكان والزمان حينما يتعلق بأمور العقيدة، وتحديدًا ما يرتبط بأمر الدعوة إلى الله تعالى، بينما يكون استدعاء المكان والزمان لأغراض دلالية تتلاءم والسياق القرآني وتعمل على تمرير مقصديات الحكي، مع إضفاء المسحة الجمالية التي جعلت من القصص القرآني أحسن القصص وأمتعه على الإطلاق.
ولا أدلّ على ذلك أنها قصصٌ تُقرأ منذ زمن الوحي إلى يومنا هذا، وستظل كذلك إلى يوم القيامة، تُطلعنا بجمالياتها وحسن سبكها وإحكام نسجها الباهر في كل لحظة من لحظات الحكي، دون أن تملّها النفوس أو يصيبها شيء من فتور، كما يحصل مع قراءة السرود البشرية التي سرعان ما يملّ المرء قراءتها، ولو كانت على درجة عالية من الفنية والجمالية.
(*) كاتب وباحث مغربي.


