لا يوجد دين يُقدّر قيمة الوقت مثل الإسلام، حيث أعطى أهمية بالغة للزمن؛ فارتبطت معظم العبادات في التشريع الإسلامي بمواعيد زمنية محددة وثابتة، كالصلاة والصيام والحج وكذلك الزكاة، إذ إن أداءها لا يتحقق إلا بالالتزام بأوقاتها حسب اليوم والشهر والسنة. وقد وردت في القرآن الكريم عدة آيات يقسم فيها الله تعالى بالزمن ومكوّناته، الأمر الذي يشير إلى الأهمية الكبيرة التي أولاها الله سبحانه وتعالى للزمن، وأنه من القضايا المقدسة في الحياة، والتي يجب النظر إليها نظرة واعية متفهمة، باعتبار أن الله تعالى اتخذها عنوانًا يقسم به على أهمية الحقائق التي يُرشد إليها.
فقال تعالى في سورة العصر (الآيتان 1–2): ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، وفي سورة الضحى (الآيتان 1–2): ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾، وفي سورة الليل (الآيات 1–4): ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾، وفي سورة الشمس (الآيات 1–9): ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا…﴾، وقال تعالى في سورة يونس (الآية 5): ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾.
وغيرها من الآيات الدالة على أهمية الوقت، وقد نبّه القرآن الكريم على أهمية الوقت في سياقات وصيغ متعددة؛ فيجيء مرة بصيغة: الدهر، أو الحين، ومرة بصيغة: الآن، والأجل، واليوم، والأمد، والسرمد، والأبد، والخلد، والعصر… إلى غير ذلك من الألفاظ.
وقد اهتم الإسلام بوقت المسلم، وحثّه على اغتنامه وعدم إضاعته، بل حثّه على استثماره فيما يعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع والفائدة. وجعله مسؤولاً عن كل لحظة من عمره: فيما قضاها وفيما أفناها، وهل أمضاها فيما يعود عليه وعلى أمته بالنفع أم بدّدها فيما لا فائدة منه، كما أنه مسؤول عن كل نعمة أنعمها الله عليه: فيما استغلّها، وكيف استفاد بها وأفاد بها الآخرين، وسيحاسَب إذا أهمل فيها، وسيجزى خيرًا إذا أحسن استثمارها.
عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله فيما اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به». (رواه البزّار والطبراني).
هذا الحديث يبيّن أن المسلم سيحاسَب على هذه النعم، وسيُسأل عن عمره وعن شبابه خاصة، رغم أن الشباب جزء من العمر؛ لكنه ذو قيمة باعتباره سنَّ الحيوية الدافقة والعزيمة الماضية، ومرحلة القوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، كما قال تعالى في سورة الروم (آية 54): ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾.
وقد نظم الإسلام للمسلم وقته: نظّم نومه واستيقاظه، ونظّم أداءه للشعائر، ونظّم إشباعه لحاجات ورغبات النفس، ونظّم انطلاقه إلى كافة ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وغيرها؛ ليتسع وقت المسلم ليؤدي كل ما عليه، وكل ما له، دون تقصير أو تسويف. وينبغي للمسلم أن يقسم وقته بين الواجبات والأعمال المختلفة، دينية كانت أو دنيوية، حتى لا يطغى بعضها على بعض، ولا يطغى المهم على الأهم، ولا غير الموقوت على الموقوت؛ فما كان مطلوبًا بصفة عاجلة يجب أن يُبادَر به، وما ليس عاجلًا يُؤخَّر، وما كان له وقت محدود يجب أن يُؤدّى في وقته.
ومما رُوي من صحف إبراهيم عليه السلام: «ينبغي للعاقل، ما لم يكن مغلوبًا على عقله، أن يكون له أربع ساعات: ساعة يُناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب» (رواه ابن حبان).
وعلى المسلم أن يكون شديد الحرص والمحافظة على وقته كحرصه ومحافظته على ماله، فالوقت أنفسُ وأثمنُ ما يملك الإنسان، وترجع نفاسة الوقت إلى أنه وراء كل عمل وإنتاج؛ فهو في الواقع رأس المال الحقيقي للإنسان فردًا ومجتمعًا. وليس الوقت “من ذهب” فقط كما يقول المثل الشائع، بل هو أغلى في حقيقة الأمر من الذهب واللؤلؤ والماس ومن كل جوهر نفيس وحجر كريم؛ إنه – كما قال حسن البنّا – هو الحياة.
فما حياة الإنسان إلا الوقت الذي يقضيه من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة. ومن خصائص الوقت أيضًا: أنه يمضي سريعًا، وإذا ذهب لا يمكن أن يرجع، ولا يمكن تغييره أو تحويله، ولا يمكن تخزينه، واستغلاله يزيد من قيمته، ولا يمكن عمل أي شيء بدونه.
وفي هذا قال الحسن البصري: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك».
وكان السلف الصالح يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم، أو بعض يوم، أو برهة من الزمان – وإن قصرت – دون أن يتزودوا منها بعلم نافع أو عمل صالح أو مجاهدة للنفس أو إسداء نفعٍ للغير؛ حتى لا تتسرب الأعمار سُدى، وتضيع هباء، وتذهب جفاء وهم لا يشعرون.
ويقول الحسن البصري أيضًا: «ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، إني خلق جديد، وعلى عملك شهيد؛ فتزوّد مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة».
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي».
والمسلم لا يشكو من وقت فراغ، ولا يشكو من كيفية تمضية الوقت وإضاعته، بل هو يبحث عن الوقت حتى يقاسم النوم ساعاته ليستفيد بها. فهو ليس من الذين ينفقون أثمن ساعات العمر فيما يضر ولا ينفع، كأن لديهم معينًا لا ينضب من الوقت، بينما الحقيقة الجلية عكس ذلك تمامًا؛ فعمر الإنسان عبارة عن أيام، والأيام ما هي إلا ساعات ودقائق.
وليس من شِيم المسلم المكوثُ أمام التلفاز أو السينما أو المسرح ساعات طويلة يقضي فيها عمره، ولا هو من الذين يزوغون من العمل أو المدرسة ليتسكعوا في الشوارع أو يجلسوا في المقاهي؛ فكل هذه الأعمال من شأنها تثبيط همم الإنسان، وبثّ الكسل والخمول بين الناس، وتدعو إلى الإدمان والانحراف.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إني لأمقت الرجل أن أراه فارغًا، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة».
لهذا؛ على المرء منا أن يتفكر: أين يذهب يومه؟ قبل أن يضيع عمره!


