إذا كانت الشريعة الإسلامية قد حرصت على حقوق الطفل في جانبها المادي، المتمثل في المأكل والمشرب والسكن والرعاية الصحية، فقد حرصت أيضًا على حقوقه في جانبها الروحي؛ إذ إن الروح والمادة قرينان لا ينفصل أحدهما عن الآخر. والجانب الديني في الإسلام يشتمل على عنصرين: العنصر العقدي والجانب التعبدي.
العنصر العقدي
أما الجانب العقدي فيكون عن طريق غرس بذور العقيدة الدينية الصحيحة، فإن نجحت الأسرة في هذا الغرس فقد وضعت اللبنة الأولى في تكوين الشخصية القوية، والأساس المتين في بناء الشخصية المسلمة.
تعليم الطفل أصول الإيمان
وفي الجانب العقدي يجب تعليم الطفل أصول الإيمان، ويُقصد بأصول الإيمان كل ما ثبت عن طريق الخبر الصادق من العقائد الإيمانية الغيبية، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب وجنة ونار، والإيمان بسؤال الملكين وعذاب القبر وغيره. وبهذا يتربى الطفل وينشأ على الربط بين المحسوسات والغيبيات، مما يدفعه إلى أن يعيش حياة سعيدة تجمع بين ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة؛ فيعمل صالحًا يرى جزاء عمله في الدار الآخرة.
وبتعليم الأطفال أمور دينهم يتحقق الربط بين الجانب الروحي والجسدي كحقٍّ من حقوقهم في كتاب الله، فيقرأ ما يدفعه إلى معرفة عقيدته معرفة تامة، قال الله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(البقرة: 285).
غرس بذور العقيدة الدينية الصحيحة
ولن يتحقق ذلك إلا من خلال الأبوين والمدرسة في غرس بذور العقيدة الدينية الصحيحة، فإن المسؤولية تقع على الآباء والمدرسة حتى ينشأ الطفل نشأة عقائدية سليمة، يعيش على أساسها متصلاً بربه، محبًّا لمجتمعه ووطنه. إن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو الطفل نموًّا صحيحًا فكريًّا وسلوكيًّا. كما يجب أن نربيهم على احترام عقائد الآخرين ممن لا يدينون بالإسلام، وقد نصّت المادة العاشرة من إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام على أن: “الإسلام دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه على الإنسان، أو استغلال فقره أو جهله لحمله على تغيير دينه إلى دين آخر، أو إلى الإلحاد”.
إن عقيدة الإسلام يجب أن تكون أول ما يُلقَّن للطفل عند ولادته. يقول ابن القيم في هذا المعنى: “فإذا كان وقت نطقهم، فليُلقَّنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا. وكان بنو إسرائيل كثيرًا ما يسمعون أولادهم كلمة (عمانوئيل)، ومعناها (إلهنا معنا). ولهذا كان أحب الأسماء إلى الله (عبد الله) و(عبد الرحمن)، بحيث إذا دُعي الطفل وعقل، عُلِّم أنه عبد الله، وأن الله هو سيده ومولاه”.
تعليم الطفل القرآن والسنة
إن الطريق الوحيد إلى غرس بذور العقيدة الدينية الصحيحة هو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وذلك بأن يُختار له الشيخ والمعلم الصالح الذي يلقنه صحيح العقيدة، فلا يُؤخذ إلى من يلقنه العقيدة بشكل خاطئ يدفعه إلى التعصب أو التشدد. وقد حرص الآباء والحكماء على أن يعلموا أولادهم القرآن الكريم.
فقد أوصى هشام بن عبد الملك سليمان الكلبي لما اتخذه مؤدبًا لولده، فقال له: “إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني، وقد وليتك تأديبه، فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة فيه بخلال: أولها أنك مؤتمن عليه، والثانية أني إمام ترجوني وتخافني، والثالثة كلما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتقيت معه.
إن أول ما آمرك به أن تأخذه بكتاب الله وتقرئه في كل يوم عشرًا، يحفظ حفظ رجلٍ يريد التكسب به، وروِّه من الشعر أحسنه، ثم تخلّل به في أحياء العرب، فخذ من صالح شعرهم هجاءً ومديحًا، وبصّره طرفًا من الحلال والحرام والخطب والمغازي، ثم أجلسه كل يوم للناس ليتذكر”.
وأوصى عبد الملك بن مروان مؤدب بنيه بقوله: “علِّمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنّبهم السفلة؛ فإنهم أسوأ الناس رِعَةً وأقلهم أدبًا، وجنّبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة، وأحفِ شعورهم فتغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم فيقووا، وعلّمهم الشعر فيمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضًا، ويمصوا الماء مصًّا ولا يعبّوه عبًّا، وإذا احتجت إلى أن تنالهم بأدب فليكن ذلك في ستر لا يعلم به أحدٌ من العامة فيهون عليهم”.
فإذا ما تعلّم أطفالنا القرآن أمكننا أن نربيهم تربية دينية صحيحة. ومن أعظم النماذج في ذلك وصية لقمان لابنه، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ… يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(لقمان: 13–19).
الجانب التعبدي
نقصد بالجانب التعبدي: التربية على العبادات الظاهرة والباطنة.
أما العبادات الظاهرة فمنها إقامة الصلاة، وهي عبادة بدنية، وعبادات مالية كإيتاء الزكاة والصدقة، وعبادات مالية بدنية كالحج.
وأما العبادات الباطنة فكالخشوع، والاستغفار، والتوبة، والتوكل.
فإذا بلغ الطفل سبع سنين، يجب أن نعلّمه الصلاة بأركانها وشروطها، ونضربه عليها لعشر، قال ﷺ: “مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع” (رواه أبو داود).
والعلاقة بين العقيدة والعبادة علاقة تلازم؛ إذ يلزم من الإيمان بالله تعالى عبادته على الوجه الذي يرضيه. فالعبادة تُغذي العقيدة بروحها، فيلتقي الظاهر مع الباطن، فيزداد العبد جمالاً وكمالاً، ويثبت أمام شدائد الحياة وتقلباتها.
تعليم الطفل الصلاة
ويلزم من تعليم الطفل الصلاة من قِبل والديه والمدرسة أن يعلّماه الوضوء الصحيح وآدابه، وذلك بأن يصحب الأب ابنه إلى المسجد ليعلّمه الوضوء والصلاة. واصطحاب الأب ابنه إلى المسجد الجامع يُعوّده على صلاة الجماعة، ويحببه فيها، وعلى حضور الجمعة والأعياد، وإلباسه أحسن الثياب، وتطييبه بأحسن الطيب، وتعليمه السواك، كما كان يفعل الأمراء عندما يذهبون بأبنائهم إلى العلماء ليعلموهم.
يقول العلّامة المفكر محمد فتح الله كولن: “وعلى ذلك، فإن اصطحبنا الطفل إلى المسجد شعر بشوق روّاد المسجد إلى صلاة الجماعة، ومتعتهم عند أدائها، وازداد ارتباطه بالحياة الدينية. ومن ثم يجب أن نقدّم الهدايا للأطفال، وأن نشجعهم على الصلاة، لا أن نطردهم من المسجد أو نعنفهم أو نخيفهم، بل لا بد أن نحببهم في المسجد وفي حديقته، ونحافظ على أن تظل قدسية المسجد حيّةً في مشاعرهم”.
تعليم الطفل الزكاة
وأما الزكاة فهي جانب تعبدي أيضًا، فيجب على الوالد أن يعلّم ابنه الصغير فريضة الزكاة، ويحدثه عن أركان الإسلام الخمسة، ويعلمه أن الزكاة طهارة للمال والنفس، وهي قُربة إلى الله تعالى تُدفع إلى الفقراء والمساكين والأهل والأقارب، وذلك تقوية لروابط المحبة بين أفراد المجتمع.
كما يجب أن يعلّمه آداب الصدقة، فلا يتلفظ بكلمة تجرح مشاعر الفقير، فيعلّمه أن يقول قولاً معروفًا إذا لم يتمكن من التصدق، قال الله تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾(البقرة: 263).
تعليم الطفل الصوم
وأما الصوم فهو عبادة روحية وجسدية، تفيد الروح والجسد معًا، لما لها من فوائد روحية وطبية تنفع المسلم في دنياه وآخرته.
ولهذا كان من الواجب على الآباء أن يُدرّبوا أولادهم على عبادة الصوم. يقول ابن حجر: “يجب أن يُربّى الأطفال على هذه العبادة العظيمة، ولا يعني تدريب الطفل على الصيام افتراضه عليه، فإن جمهور العلماء يفتون بأن الصيام غير واجب على من هو دون البلوغ، ولكن المقصود هو مشروعية تمرين الصبي على الصيام وتعويده عليه”.
وتدريب الطفل على الصيام لا يعني بالضرورة أن يصوم اليوم كاملاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بل يمكن أن نعوده الصيام تدريجيًّا؛ كأن يصوم من طلوع الفجر إلى ما قبل الظهر في اليوم الأول، ثم إلى قرب العصر في اليوم التالي، وهكذا حتى يتم يومه. ولا مانع من أن نشغله بشيء ينسّيه الطعام والشراب.
فعن الربيع بنت معوِّذ قالت: “كنا نصوم ونصوِّم صبياننا الصغار، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن (أي الصوف)، فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار”.
اصطحاب الطفل إلى الحج والعمرة
وأما الحج والعمرة، فلا يجب الحج على الطفل الذي لم يبلغ الحُلُم، وكذلك العمرة. لكن لو حج الطفل وأتى المناسك على وجهها، صح حجه، ولا تسقط عنه حجة الإسلام إذا بلغ واستطاع إلى ذلك سبيلاً.
وقد ثبت أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يحجّون بصبيانهم ويعلّمونهم مناسك الحج، وينوبون عنهم فيما لا يقدرون على فعله. فعن جابر رضي الله عنه قال: “حججنا مع رسول الله ﷺ ومعنا النساء والصبيان، فلبّينا عن الصبيان ورمينا عنهم”.
ولو بلغ الطفل الحُلُم قبل الوقوف بعرفة، أجزأته هذه الحجة عن حجة الإسلام على الراجح من أقوال الفقهاء.
وفي الحديث ما يدل على عظمة ديننا الحنيف في تعامله مع واقع قابل للتغيّر، إذ يعطيه ما يناسبه من أحكام تدفع إلى الرضا والارتياح تجاه قضايا الحياة المختلفة.
فإذا لم تستطع الأسرة الحج أو العمرة، فيمكن أن تُصحب الطفل إلى أحد الأقارب أو الجيران ممن وفقهم الله لأداء الحج أو العمرة، ولا شك أن الطفل سيسمع كلامًا تسعد به نفسه ويتأثر به قلبه، فيود لو رأى الكعبة، وطاف حولها، وشرب من ماء زمزم، وسعى بين الصفا والمروة، ووقف على عرفات، وغير ذلك من المناسك.
وهكذا حفظت الشريعة الإسلامية للطفل حقه في التربية الدينية التعبدية بعد أن حفظت له حقه في التربية العقائدية، ليؤمن بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤًا أحد، ويؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب، فينشأ على الإيمان والعمل الصالح، متوازنًا في روحه وسلوكه، محبًّا لربه، نافعًا لأمته.


