حماية الماء من التلوث في الإسلام

الأصل في الماء الطهارة ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، وقد أشارت النصوص الشرعية إلى هذه الطهارة، ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾(الفرقان: 48).
كما أن الأصل فيه الإسهام المباشر في عملية التطهير، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾(الأنفال: 11).

وقد أكدت نصوص الشريعة المطهرة على أهمية الماء، وحثّت على شكر الخالق المنعِم على هذه النعمة العظيمة. فعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قدم على النبي ﷺ وقد ماتت أمه، يريد أن يصنع لها معروفًا، فقال: يا رسول الله، إن تصدقت عنها أترجو لها شيئًا؟ قال ﷺ: «نعم». قال: يا رسول الله، دلّني على صدقة، قال: «اسقِ الماء». وفي رواية: قال: «فأيُّ الصدقة أفضل؟» قال: «سَقْيُ الماء». قال الحسن البصري: “فما زالت جرار سعد بالمدينة بعدُ”.

وجاءت السنة النبوية الشريفة داعية بمنهجها الوقائي إلى حفظ الماء من الضياع، وحمايته من التلوث. ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما يأتي:

1 ـ إيكاء السقاء للحماية من التلوث

أمر الرسول ﷺ بتخمير الأواني وإيكاء الأسقية. وتخمير الأواني يعني تغطيتها، وإيكاء الأسقية يعني شدَّ رؤوسها وربطها بالوكاء، والوكاء هو ما يُشدّ به الكيس أو نحوه من حبال أو خيوط.
وقد جمع الحديث الشريف بينهما، ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «خَمِّرُوا الآنيةَ، وَأَوْكُوا الأسْقِيَةَ».

يتضمن هذا الحديث جملة من الآداب الشرعية التي أرشدنا إليها النبي ﷺ، وهي بمثابة توجيهات شريفة تهدف إلى سلامة الأرواح من الإصابة، وصحة الأجسام من الأذى.
فهذا الخطاب النبوي يندرج تحت باب الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية، بحيث إن من امتثل أمر النبي ﷺ سلم من الضرر بإذن الله تعالى، ونال بركة اتباع أوامره.
وشرعية التخمير والإيكاء تعود إلى الوقاية من التلوث الذي قد يتسبب في انتشار الأوبئة؛ إذ يمكن أن تنتقل الملوثات إلى الماء عبر الهواء، أو الحشرات الناقلة للجراثيم والطفيليات والزواحف، كالصراصير والفئران والنمل والبعوض. ويُعد التخمير والإيكاء وسيلة بسيطة قليلة التكلفة، عظيمة الفائدة في الوقاية من هذه الأخطار.

2 ـ النهي عن التنفس في الآنية

ثبت عن النبي ﷺ أنه قال في حديث أبي قتادة: «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ».
وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: “كان رسول الله ﷺ يتنفّس في الشراب ثلاثًا، ويقول: «إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ»”.

ومعنى قوله ﷺ: “أروى” أي أشدّ ريًّا وأنفع، و”أبرأ” أي أشفى وأسلم من الضرر، و”أمرأ” أي أهنأ وألذّ وأنفع.

يتضمن هذان الحديثان الشريفان معاني جليلة، منها كراهية التنفس في الإناء أثناء الشرب منه مباشرة، لما في ذلك من احتمال الإفساد للماء أو انتقال الجراثيم إليه. كما أنهما يدلان على الحرص على الانتفاع بالماء بطريقة صحية، وتجنّب ما قد يسبب الأمراض.

وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «لا يَتَنَفَّسْ أَحَدُكُمْ فِي الإِنَاءِ إِذَا كَانَ يَشْرَبُ مِنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّسَ فَلْيُؤَخِّرْهُ عَنْهُ، ثُمَّ يَتَنَفَّسْ».

وفي رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ نهى عن النفخ في الشراب، فقال له رجل: يا رسول الله، إني لا أروى من نفس واحد، فقال له رسول الله ﷺ: «فَأَبِنِ القَدَحَ عَنْ فِيكَ، ثُمَّ تَنَفَّسْ». قال الرجل: فإني أرى القذاة فيه، فقال ﷺ: «فَأَهْرِقْهَا».

وهكذا جاءت توجيهات النبي ﷺ جامعةً بين الأدب والطهارة والوقاية، مؤكدةً أن حفظ الماء من التلوث عبادة وسلوك حضاري شرّفه الإسلام قبل أن تعرفه العلوم الحديثة.

3 ـ النهي عن التبول في الماء

إذا كان النبي ﷺ قد نهى عن الشرب من فم السقاء مباشرة، وعن النفخ في الإناء لما يُتوقّع أن ينتج عن ذلك من فساد الماء ونتنه، فإنه من باب أولى أن ينهى عن التبول في الماء الذي يُراد استعماله، لما يترتب عليه من تلويث وفساد.
ففي حديث أبي هريرة –رضي الله عنه– أن النبي ﷺ قال: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ –أي الراكد– ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ».

وهذا الحديث، برواياته المختلفة، يتضمن نهيًا صريحًا عن التبول والاغتسال في الماء الراكد الذي لا يجري. وإنما نهى عن التبول فيه احترازًا من استقذاره وتنجيسه، كما نهى عن الاغتسال فيه لئلا تُسلب طهارته.
فإذا نجّسه المكلّف ببوله، أو سلبه الطهورية بالاغتسال فيه، فقد يحتاج إليه هو نفسه فيمتنع عليه استعماله، أو يحتاج إليه غيره فيتعذّر عليه الانتفاع به، فيحرم الناس من فائدته.

والماء المنهي عن استعماله في الشرب أو الطهارة هو الذي فقد خواصه الطبيعية المعروفة باللمس والشم والنظر. وما عدا ذلك فالماء طاهر على قاعدة البراءة الأصلية.

وقد ذكر الإمام النووي أن مذهب المحققين من العلماء النهي عن التغوّط في الماء، إذ التغوط فيه كالبول، بل هو أقبح. كما ذهبوا إلى أن البول أو التغوط بقرب النهر كفعلهما فيه سواء، فكل ذلك منهي عنه لعموم نهي النبي ﷺ عن البراز في الموارد، ولما فيه من إيذاء المارين بالماء، وخشية وصول النجاسة إليه.
فالإسهام في إفساد تربة الماء إفساد للماء نفسه، ويلحق بهذا أيضًا أن من بال في إناء ثم صبّه في الماء، فهو كذلك مذموم وقبيح ومنهي عنه شرعًا.

وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن أربعة أخماس الأمراض تصيب الناس عن طريق الماء الملوث، وأنه بتوفير الماء النقي وحمايته من التلوث يمكن القضاء على نحو 50% من الأمراض الخطيرة.
وهذه الخطورة الناتجة عن تلوث المياه وإن لم تكن معروفة بهذه الدقة في عهد النبوة، فإن النبي ﷺ نهى عن التبول في الماء الراكد، وعن الاستحمام فيه مباشرة، وعن كل ما من شأنه أن ينجّس الماء، اتقاءً للأضرار الناجمة عن التلوث، وهو ما كشف العلم الحديث عن إعجازه النبوي، ودقّة توجيهاته الوقائية.

وبالإضافة إلى النهي عن التبول، فقد نهى النبي ﷺ المستيقظ من النوم عن غسل يديه في الإناء مباشرة. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده».
وهو نهي صريح عن مباشرة الإناء باليد قبل غسلها، تجنبًا لما قد تتسبب فيه من تنجيس للماء أو نقلٍ للجراثيم، لما يترتب على ذلك من أضرار صحية خطيرة.

ومن مظاهر هذا الاحتراز أيضًا تشديد النبي ﷺ في الأمر بالتخلص من الماء الذي شرب منه الكلب، حيث قال ﷺ: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات».

وهذه التوجيهات النبوية الحكيمة تمثل ذروة الوعي الوقائي في صيانة الماء من النجاسة والتلوث، بما يحقق سلامة الإنسان ويحافظ على البيئة.

المراجع:

– ابن حجر (أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني الشافعي، 773–852هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.

– البخاري (محمد بن إسماعيل أبو عبد الله الجعفي، 194–256هـ)، صحيح البخاري، شرح وتحقيق: قاسم الشماعي الرفاعي، دار القلم، بيروت، 1987م.

– الحاكم (محمد بن عبد الله النيسابوري، 321–405هـ)، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990م.

– الشوكاني (محمد بن علي بن محمد، 1173–1250هـ)، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، دار الجيل، بيروت، 1973م.

– القرطبي (أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم، ت 656هـ)، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، تحقيق: محي الدين ديب سَتّو وآخرين، دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب، دمشق – بيروت، 1417هـ/1996م.

– مالك (ابن أنس الأصبحي، 93–179هـ)، الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، 1980م.

– مسلم (أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، 206–261هـ)، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 1991م.

– المفوضية الدولية للمياه للقرن الحادي والعشرين، قضايا المياه في العالم: رؤية لقضايا المياه والحياة والبيئة، هلا للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007م.

– النووي (أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري، 631–676هـ)، شرح صحيح مسلم (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)، دار الكتاب العربي، بيروت، 1987م.