إن النهضة ليست شرارة يُطلقها فرد، ولا معجزة يحققها نصف المجتمع، بل هي ثمرة تكامل الطاقات والقدرات البشرية؛ فكما لا ينهض الطائر بجناح واحد، لا تقوم أمة ولا تنهض حضارة بغير امتزاج الخبرة بالحماسة، والعلم بالعمل، والروح بالمادة. فالطاقات التي تهمل تعطل عجلة الحضارة، وكل طاقة تُدمج تُحرّك الخطوات إلى الأمام، فطريق النهوض لا يُبنى على المنافسة بل على التكميل ودمج الطاقات الواسعة، حيث يضيف كل فرد ما أودع الله فيه من قدرات إلى الطاقات العاملة؛ فتنهض الأمة، وتعلو، وترتقي.
كل نهضة في التاريخ لم تولد من فراغ، ولم تُبنَ على جناح واحد أو قدرات متناثرة هنا وهناك، والحضارات العظمى لم تصعد بجهد فردي ولا بتيار منفصل، بل قامت حين تساندت الطاقات وتضافرت القوى: الروح مع العقل، والعلم مع العمل، والفرد مع الأمة. فالأمة إذا تعطّل أحد أعضائها اختلّت وظيفتها كلها، وإذا تناغمت قواها بُعثت الحياة فيها من جديد.
لا يمكن لأمة أن تنهض بلا روح مؤمنة بغايتها، فـالطاقة الروحية هي التي تُحرّك الإرادة، وتُبقي شعلة الأمل متقدة في أحلك الظروف. وبإيمان الأمة برسالتها تتحوّل التضحيات إلى مكاسب، والآلام إلى بدايات جديدة. إن النهوض بلا إيمان كجسد بلا قلب، يتحرك آليًّا لكنه بلا حياة.
وحين ننتقل إلى الطاقة العلمية والفكرية، نجد أن العلم هو النور الذي يكشف الطريق ويرسم المعالم. فأمة بلا علم تظل أسيرة التبعية، وأمة بلا فكر نقدي تعيش على فتات الآخرين. إن الطاقة العلمية ليست حفظًا للتراث فحسب، بل هي قدرة على إنتاج المعرفة وابتكار الحلول الملائمة للحاضر والمستقبل.
أما الطاقة الاقتصادية فهي عصب الحياة، فحين تُستثمر الموارد بحكمة إلى جانب العمل والإبداع تصبح الأمة قادرة على الاعتماد على نفسها لا عالةً على غيرها. والاقتصاد العادل المتوازن هو الذي يحرر القرار السياسي، ويفتح المجال لبقية الطاقات كي تؤتي ثمارها.
وعند تسليط الضوء على الطاقة الاجتماعية نجد أنها نسيج الوحدة والتلاحم؛ فالأسرة المتماسكة والمجتمع المتعاون هما البيئة التي تُزهر فيها النهضة. فلا معنى لقوة الدولة إذا تفتت القاعدة الاجتماعية. إن التعاون والتكافل قيمٌ إسلامية أصيلة، بها يُبنى مجتمع قادر على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل. وهنا تبرز أهمية تمكين المرأة والشباب، فهم ليسوا أطرافًا ثانوية، بل ركائز أساسية في البناء.
ولا تكتمل الطاقات السابقة إلا بـ الطاقة السياسية والإدارية، فالإدارة الرشيدة والعدل في الحكم هما ضمان استمرار أي نهضة. لا قيمة لإنجازٍ اقتصادي أو علمي إذا لم يجد حماية سياسية؛ فالنهضة لا تنبت في تربة القلاقل، بل تحتاج إلى عدالة تُنصف الضعيف من القوي، وشفافية تحمي المال العام، وإدارة تستثمر الطاقات بدل أن تهدرها.
أما الطاقتان الثقافية والإعلامية فهما صورة الأمة ولسان حضارتها، وهما المرآة التي يرى بها العالمُ الأمةَ، والأداة التي تصوغ وعي الأجيال. وذلك حين يُبنى خطابٌ ثقافي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فتتحرر الأمة من عقدة النقص، وتُقدّم نفسها للعالم شريكًا حضاريًّا واعدًا بالخير والسلام.
إن النهوض الحضاري ليس مشروعًا اقتصاديًّا فقط، ولا يقظةً دينية وحدها، ولا صحوةً ثقافيةً منفصلة عنها، بل هو معزوفة تنموية جماعية تتناغم فيها الطاقات الروحية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. فكل طاقة آلة في أوركسترا الحضارة؛ إذا عُزفت منفردة ضاع اللحن، وإذا اجتمعت في تناغم اهتزّ لها العالم.
وحين نرجع إلى تاريخنا الإسلامي نجد أنه حين نزل الوحي اجتمع الإيمان الصادق بالطاقة الروحية مع فقه الواقع وشجاعة القيادة النبوية. لم يكن المسلمون آنذاك أصحاب قوة مادية كبيرة، لكن تكامل الروح والعقل والإرادة جعل من جماعة صغيرة قوة حضارية قلبت موازين التاريخ.
لقد امتد نور هذه الحضارة في العالم فاستفادت منها الأمم الأوروبية بمجاورة العرب والمسلمين في الأندلس، فحدثت لها يقظةٌ ذهنية، واكتسبت علومًا ومعارف كثيرة، فظهرت فيها نهضة أدبية وعلمية واسعة النطاق. إن إضاءة حضارتنا للغرب والعالم أمرٌ لا ينكره عاقل أو مثقف، ولا تزال حضارتنا الإسلامية تملك إسهامات كبرى في مجالات العلوم والفكر الإنساني، بما يُشكّل دورًا محوريًّا في مسار التقدم والعمران البشري.


