مبدأ المسؤولية الذاتية الطريق إلى النصر والعزة

في عالم يضجُّ بالتحديات وتتناوشه الأزمات من كل صوب، يلوذ كثيرون بتعليق أخطائهم على مشجب “العدو”، ويتخذون من الظروف الخارجية ذريعة تبرر الإخفاق والعجز. وهكذا تُخفى الحقيقة خلف سُحب التبرير والانهزام، بينما يظلّ القرآن الكريم يجلّي النور في درب التغيير، بقوله: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(آل عمران:165). إنها ليست مجرد آية، بل قاعدة قرآنية تأسيسية تضع الإنسان أمام مرآة ذاته، وتفتح له باب الإصلاح من الداخل قبل أن يطلب النصر من الخارج. قال الإمام الغزالي: “ابدأ بإصلاح نفسك، فإنك إن اشتغلت بغيرك ضيعت نفسك، وإن اشتغلت بنفسك كُفيت غيرك”، وفي كلماته عمق تربوي بليغ؛ إذ الإصلاح ليس صرخة في وجوه الآخرين، بل همسة في أذن النفس، وعهد يُبرم مع الضمير.

في هذا المقال، لا نرسم خارطة مثالية من شعارات جوفاء، بل نغوص في عمق المبدأ الذي خطه الوحي، وشهدت له وقائع التاريخ، وجسده الرسول صلى الله عليه وسلم  في حياته، لنصوغ رؤيتنا نحو بناء النفس الحرة، القادرة على أن تنهض وتُنهض. إن رحلتك نحو النصر تبدأ من أعماقك.. فافتح هذا الباب بشجاعة، واكتب أولى خطوات التغيير بنفسك.

لماذا يبدأ النصر من الداخل؟

ليس النصر حدثًا خارج الجدران، بل ثمرة نضجت في داخل النفس. ولهذا جاءت القاعدة الربانية المحكمة: (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11)، فالتغيير الخارجي مرآة للتغيير الداخلي. قال ابن القيم في “الفوائد”: “من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس، ومن غفل عنها اشتغل بعيوب الناس”، وفي ذلك دعوة صريحة إلى أن يبدأ الجهاد الحقيقي من ساحة النفس، لا من ساحة الخصم.

فالمعركة الأهم -إذن- ليست مع الخارج، بل مع نوازع النفس وتقصيرها وشهواتها. والإمام الرازي كان تأمله في تفسير قوله تعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) من أعمق ما كُتب، حيث أشار إلى أن البلاء الذي يُصيب الأمة إنما هو نتيجة خلل في الطاعة، لا لقوة الأعداء أو دهائهم.

وقد قدّم الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل في رسالته “قل هو من عند أنفسكم” تحليلاً تربويًّا عميقًا، حين بيّن أن المصائب ليست نابعة من الخارج، بل نتيجة التفريط والخلل في صفوف المؤمنين. وهذا الفهم يُحرك الهمم، ويبعث على الرجاء لا على اليأس، إذ يُعيد البوصلة إلى موقعها في الداخل لا في العدو.

دروس التاريخ تؤكد القاعدة

التاريخ ليس فقط صفحات تُقرأ، بل مرايا تُرى فيها الأمم على حقيقتها. وقد كتب في سطوره أن الحضارات العظيمة لا تسقط بفعل سيوف الأعداء، بل بثقل الفساد في داخلها حين تتآكل القيم وتضيع المسؤولية.

قال ابن خلدون، وهو من أصدق من قرأ حركة المجتمعات: “إن المغلوب مولع دائمًا بتقليد الغالب”، وهذه ليست مجرد ملاحظة سوسيولوجية، بل كشفٌ عن انكسار داخلي في الهوية، وفراغ في الشعور بالكرامة الذاتية. ثم أشار إلى السبب الأعمق للخراب فقال: “الظلم مؤذن بخراب العمران”، والظلم لا يبدأ من قصر الحاكم، بل من غفلة النفس عن تقواها، ومن انحراف الفرد عن استقامة مسؤوليته. أما الشافعي حين قال: “ما ناظرت أحدًا إلا تمنيت أن يُظهر الله الحق على لسانه”؛ فقد عبّر عن طهر داخلي، وتحرر من أسر الانتصار للذات. وهذه إحدى صفات النفوس المسؤولة، التي لا تحارب لأجل الـ”أنا”، بل لأجل الحقيقة.

كيف جسّد النبي صلى الله عليه وسلم  مبدأ المسؤولية الذاتية؟

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم  قائدًا ينتظر أن يتحرك الواقع ليغيره، بل كان يبدأ دائمًا بنفسه ثم بأهل بيته ثم بمن حوله. فالسيرة النبوية ليست حكاية زمنية تروى، بل كما قال فريد الأنصاري: “مشروع تربوي عملي لتخريج الإنسان القرآني”.

في مكة، لم يُصب النبي صلى الله عليه وسلم  بالإحباط من قسوة البيئة، بل بدأ ببناء العقيدة في القلوب، وكان يتحمل الأذى بثبات، لأنه يعرف أن الإصلاح يبدأ من الداخل، لا من تبديل الخارج. وفي الهجرة، لم يترك شيئًا للمصادفة؛ خطّط لكل تفصيل بنفسه؛ الطريق، الدليل، التوقيت، التمويه.. وهذه صورة المسؤول الأول الذي لا يُلقي باللائمة على “الواقع”، بل يُحسن التعامل معه. وفي بدر، لم ينتظر معجزة، بل أخذ بالأسباب، ونظّم الصفوف، واستشار الصحابة، ودعا ربه وهو يعلم أن التغيير لا يهبط من السماء دون إعداد. قال حبنكة الميداني: “ما من نصر إلا وكان وراءه إعداد، وما من خذلان إلا وكان سببه خلل في النفوس”. وهذا هو جوهر السيرة: إعداد النفوس لا تجييش الشعارات.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يربّي أصحابه على تحميل أنفسهم تبعات أفعالهم، وعلى فحص دواخلهم عند كل هزيمة، لا تعليقها على الظروف أو الأعداء.

كيف تؤدي المسؤولية الذاتية إلى النصر؟

المسؤولية الذاتية ليست عبئًا نفسيًّا، بل مفتاح تحرّر وبداية الطريق نحو النصر بمعناه الشامل؛ نصر النفس على أهوائها، ونصر القيم على الفساد، ونصر الأمة على الغفلة. قال بديع الزمان سعيد النورسي: “من عرف نفسه عرف ربه، ومن عرف ربه استقام أمره”، فمعرفة النفس تفتح باب الاستقامة، والاستقامة بوابة النصر. ثم إن النصر لا يُستدام إن بُني على أساس فاسد. وكما قال ابن خلدون: “الظلم مؤذن بخراب العمران”، فإن حماية المجتمع تبدأ من صدق الأفراد وعدلهم لأنفسهم. أما ابن تيمية، فأوجز المعادلة بقوله: “العدل نظام كل شيء، فإذا تحقق في الفرد، انتقل إلى المجتمع، وإذا ساد، تم النصر”. فالمعادلة تبدأ من “أنا” وتنتهي بـ”نحن”، وسلسلة النصر تُصنع من حلقات صادقة من داخل كل نفس.

المسؤولية الذاتية في التربية المعاصرة

ليست التربية أن نلقّن الطفل بعض الأخلاق ثم نتركه في زحام الحياة، بل أن نغرس فيه حس المسؤولية، وأن نُشعره أنه ليس رقمًا في الجماعة، بل نواة في بنائها.

يرى الدكتور عبد الكريم بكار، أن جوهر النهوض يبدأ من هذا الشعور، فيقول: “المجتمعات لا تنهض إلا حين يشعر أبناؤها أنهم مسؤولون عن حالهم ومآلهم”. هذه ليست دعوة للانطواء، بل نداء للانبعاث. ويؤكد ماجد عرسان الكيلاني، أن الحضارات لا تنهار لأن أعداءها أقوياء، بل حين “يفتقد الجندي والشاعر والموظف هذا الإحساس، تبدأ دورة الانحدار”. فكل فرد هو ركيزة، وإن انكسرت إحداها اختل البناء.

المسؤولية الذاتية في عصر الإعلام المفتوح

في زمن الشبكات المفتوحة لا تُسرق العقول بقوة، بل تُعطل بالإهمال. وفي هذا السياق قال عبد الكريم بكار: “نحن لا نُشكّل فقط بما نستهلك، بل بما نُهمل كذلك”. فغياب الوعي مسؤولية، وتفويت الإدراك تقصير لا يقل عن الخطأ. أما فريد الأنصاري فكان بصيرًا حين قال: “حين تُطفئ التقنية نور القلب، يتحول العقل إلى آلة باردة”، وفي هذا وصف دقيق لعصر رقمي استبدل الحضور الروحي بالحركة الميكانيكية. المسؤولية الذاتية هنا، تعني ألا تكون أداةً في يد السوق، بل قائدًا لوعيك، متحكمًا في نافذة ما يدخل إلى عقلك، حارسًا لبوصلة قلبك.

خطوات عملية لبناء المسؤولية الذاتية

الحديث عن المسؤولية لا يكتمل بلا خطوات عملية تترجم المبدأ إلى مسار:

– المحاسبة اليومية: كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا”.

– تزكية النفس باستمرار: كما في قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)(الشمس:9).

– تنمية الإرادة بمواجهة المغريات: فمن ملك زمام شهوته امتلك ناصية مستقبله.

– الوعي بالعواقب: فكل فعل -ولو خفي- يحمل أثرًا لا يُمحى.

– التربية على المبادرة وتحمّل الخطأ: فالخطأ لا يُعيب، إنما العيب في الهروب منه.

قال ابن قدامة: “دواء القلب في فكر دائم، ومحاسبة صارمة، وصدق نية”. ومن هذا الثلاثي تُبنى شخصية مسؤولة، ثابتة، قادرة على خوض معارك الحياة.

وختامًا، فإن المسؤولية الذاتية ليست فكرة نخبوية أو خيارًا تربويًّا تجميليًّا، بل هي جسر العبور نحو النصر والبقاء. إنها الطريق الذي سلكه الأنبياء، وسار عليه الصالحون، وسقط من أنكره في أول منعطف. والتاريخ لا يكتبه المشتكون، ولا يذكر المهزومين داخليًّا، بل يحتفي بالذين حوّلوا النظر من الخارج إلى الداخل، وبنوا في نفوسهم قلاعًا من العزم والإيمان.

—————————————–

(*) كاتب وباحث أكاديمي مصري.

المراجع

(1) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار الفيحاء، دمشق ٢٠١٩م.

(٢) الفوائد، ابن قيم الجوزية، دار الخبر، دمشق، سوريا.

(٣) الفتاوى الكبرى، ابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

(٤) مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الحديث، القاهرة.

(٥) صيد الخاطر، ابن الجوزي، دار الفكر، بيروت، لبنان.

(٦) مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن ابن خلدون، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع.

(٧) ديوان الإمام الشافعي، محمد بن إدريس الشافعي، مكتبة ابن سينا، القاهرة ٢٠٠٩م.

(٨) مفاتيح النور، فريد الأنصاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠١٠م.

(٩) الكلمات (كليات رسائل النور)، سعيد النورسي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ٢٠٠٨م.

(١٠) مشكلات الشباب، عبد الكريم بكار، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.