رحلة عبر أجنحة الفراشة

هي الفراشة تحلِّق في سماء الضوء بمختلف أشكالها وألوانها، بذوقها المميَّز في اختيار الأزاهير التي تحطُّ عليها، فتزورها، لترشف منها عبق رحيقها بكل رقة وانسيابية، هذا الغذاء الوحيد الذي خصه الله سبحانه وتعالى بها. فتشكل في مظهرها آية من الإبداع الجمالي الذي يفرض نفسه على الوجود. وقد تغلغلت الفراشة في عالم الأحلام، فاستبشر الناس بها خيرًا، مما يدل على طول العمر والإبداع والرومانسية والفرح والروحانية.. وقد تشير إلى تغير في نوعية أو طريقة التفكير، أو ربما يتعرض المرء إلى تغير نوعي في حياته.

كما أن وجود رسم الفراشة في الفنجان، لهو مبشِّر طيِّب وفأل حسن لصاحبه على الرغم من عدم تصديق هذه التأويلات إلا أنها تترك أثرًا ممتعًا في النفس مهما حاول صاحب الفنجان عدم تصديق ما يُقال له.

وكذلك لها وقع مختلف في المعتقدات الدينية لبعض الشعوب القديمة؛ حيث كان الإغريق يعتقدون أن الروح تخرج من الجسد على شكل فراشة بعد الموت، لذا كانوا يرمزون للروح بفتاة لها أجنحة فراشة.

من ينظر إلى أشكال خلق الكائنات الحية، يلاحظ أن العديد منها يخضع لتحولات كثيرة في دورة حياته، إلا أن الفراشات -على وجه التحديد- تبدو من أجمل المخلوقات في تبدل أطوار حياتها. فتحول الفراشات من دود الفراش الزاحف أو ما يسمى بـ”دود الربيع”، إلى فراشات رائعة تطير في الهواء، ما هو إلا دليل قاطع على عظمة وجمالية خلق الله سبحانه وتعالى.

لغة الفراشات

أما لغة الفراشات فلها شأن آخر؛ لغة الفراشات لغة خاصة تخاطب الوجدان والمشاعر، وتحمل بين مفرداتها معاني الأمل والتفاؤل والإقبال على الحياة. يستخدمها البعض كوسيلة لتوصيل رسالة ما. فهي تعبر عن معاني الحب وأحواله ودرجاته، ويمكن للمحب أن يفضي بمكنون مشاعره عن طريق اختياره لنوع الفراشات وألوانها، وفي قاموس المحبين للغة الفراشات نجد الرسائل التي يحملها كل لون هي:

الفراشة الحمراء: تمثل الجمال والحب الملتهب، ورسالتها “أحبك من كل قلبي”.

الفراشة الصفراء: تمثل السعادة والغيرة في الحب، ورسالتها “لن تكون لأحد غيري”.

الفراشة البيضاء: تمثل النقاء والخصوصية، ورسالتها “أنت هدية من السماء”.

الفراشة وعالم الشعر

ولا يستغرب أن تدخل الفراشة عوالم الشعر وتثبت وجودها الجمالي في قصائد الشعراء ونفوس المتلقين، وها هو الشاعر “إيليا أبو ماضي” يبثُّ عواطفه الجياشة على أجنحة فراشة طالما هام بها وتغنَّى بحبها. في قصيدته التي عنونها بـ”الفراشة المحتضرة” يقول:

قالـــوا فـــراشة حـــقل لا غـــناء بها ما أفقر الناس في عيني وأغناك!
أليس فيك من العشّاق حيرتهم؟ فكيف لا يفهم العشّاق نجواك؟
فالـزهر في الحقل أشلاء مبعثرة والطير.. لا طائـــر إلاّ جـــناحـاك
فراشة الحقل.. في روحي كآبته مــما عــــــراه ومــما قـــــد تـــــولاّك
مـا أقـــدر الله أن يحــيــيـــك ثانـــية مــع الربــيع كـما مِنْ قَبلُ سوّاك

الرسم على أجنحة الفراشات

من المدهش حقيقة أن تكون أجنحة الفراشات -التي هي غاية في الرقة والحساسية- مرتعًا لريشة الفنان التشكيلي المكسيكي “كريستيم راموس”. فقد أعاد رسم اللوحات الكلاسيكية القديمة، وعلى رأسها لوحة الموناليزا، ولكن بشكل مختلف وأكثر ابتكارًا مما أهَّله لنيل عدة جوائز في هذا المجال. لقد رسم لوحاته على أجنحة الفراشات، وعلى الرغم مما تمتلكه من الرقة والحساسية، إلا أن الفنان المكسيكي استطاع بمهارته وحسِّه المرهف، إتقان الرسومات كما خطط لها.

ألوان الفراشات

إن ملهى الفراشات في الغابات والبساتين والحقول، وفي المرتفعات الجبلية الباردة.. لكن معظمها يعيش في المناطق المدارية. وكما تتعدد مناطق وجودها تتنوع أشكالها وألوانها؛ ليصل عدد أنواعها إلى الآلاف، وأكبر أنواعها فراشة جناح طائر الملكة (الكسندرا) في غينيا، وهي كبيرة لدرجة أن طول جناحيها يصل حوالي ثمانية وعشرين سنتيمترًا، وأصغر فراشة معروفة في العالم هي فراشة “القزمة الزرقاء”، التي توجد بكثرة في دول أمريكا الشمالية، حيث يبلغ أطول مدى لجناحيها سنتيمترًا واحدًا.

وتتلون الفراشات بكل ما يمكن تخيله من الألوان، فقد تكون ذات ألوان زاهية أو باهتة أو براقة، وبزخارف منسقة، وبأنماط خيالية مبهرة. فهي تتباهى بألوانها وحركاتها وحسن اختيارها للأزاهير.

الفراشات لا تحتاج لمن يدافع عنها

الفراشات كغيرها من المخلوقات اللطيفة، تعاني من مهاجمة الكائنات الأخرى التي تهدد حياتها بالخطر كالطيور والحشرات، عندها لا بد من الدفاع عن نفسها، وهنا يكمن سر الخالق في إعطائها هذه الميزات الرائعة، فهي تستخدم الكثير من أسلحتها حفاظًا على حياتها، ومن بين هذه الأسلحة أن تلجأ للحماية بالألوان، كأن تحتمي بأوراق الأشجار، وبين الأزاهير، ويسمى هذا النوع من الدفاع “التلوين الوقائي”.

كما أنها تمتلك عدة دفاعات كيميائية، وذلك بإطلاق رائحة منفرة تنزعج منها الحشرات التي تهاجمها. كما أن للفراشات طعمًا غير مستساغ لتغذي اليرقات على عصارات النباتات المرة، فأي حيوان يفترس فراشة يتجنب افتراس غيرها عندما يجرب طعمها. وهناك أيضًا فراشات سامة، لا يعرف مذاقها إلا من تذوقها من الطيور والحشرات.

غذاء الفراشات وتكاثرها

أي غذاء وهبها الله إياه حتى جعلها تعيش وتتفرد بجمالها؟! إنه رحيق الأزاهير، وسوائل النباتات المتعددة. ومن اللطيف جدًّا والمدهش أيضًا، أن نعرف أن حاسة الذوق لدى الفراشة موجودة في أقدامها، تلك الأقدام الناعمة التي تتحسس حبات الندى وطراوة الأزاهير وروائحها وكرات غبار الطلع.. مما يعطيها ميزة التفرد في الحياة وجمالية البقاء. وكذلك هي تملك عدة حواس، كالنظر والسمع والشم واللمس.. والمدهش أيضًا أنها تتنفس عن طريق ثقوب صغيرة موجودة على جانبي جسمها.

أما تكاثر الفراشات فيتم عادة عندما يقوم زوجي الفراشة بالربط بينهما بواسطة وابل من الشعيرات الذهبية، التي عادة ما تحمل روائح تبدو مثل رائحة الأزاهير، ويمكن أن تكون هناك منافسة في عملية التزاوج.

هجرة الفراشات

كما تهاجر الطيور، تهاجر الفراشات لأنها من ذوات الدم الحار، فتلجأ في البرد للسبات الشتوي أو الهجرة للمناطق الدافئة.

لقد التبس على بعض العلماء أسباب تصرف الفراشات، بل أسرار عاداتها، فمثلاً فراشات “الأورانيا” تنتحر في مياه المحيط الهادئ، فهي تعيش في الغابة، وفي وقت معين من السنة بعد أن تقوم بمرحلة التكاثر، تطير على شكل مجموعات كبيرة بخط مستقيم فوق المحيط وتدخل المياه فتغرق.

هناك من يقول: إن تلك الفراشات تغرق في جزيرتها القديمة التي غمرتها المياه.. إذن، هي تعود إلى موطنها الأصلي، فانتحارها فعل إرادي ظاهري سببه أنها على الرغم من تغيير مكان عيشها، إلا أنها لم تستطع التكيف مع هذا المكان، لذلك تعود إلى موطنها الأصلي في الجزيرة المغمورة تحت المياه.

والجميل أن ألوان أجنحة معظم أنواع الفراشات تتغير مع تغير زاوية نظر مشاهدها، وأن لها بريقًا مميزًا لا يوجد في ألوان الأشياء الأخرى.

الرسومات الموجودة على تلك الأجنحة ليست مرسومة بطريقة عشوائية، بل لتؤدي أغراضًا محددة كالتخفي عن المفترسات أو تخويفهم من خلال أشكال العيون الموجودة عليها، أو لأغراض جلب شركائها للتزاوج. قال تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)(لقمان:11).

(*) كاتبة وصحفية سورية.