البريون.. اعترافات كائن ميت

إنني بحقٍّ مخلوق عجيب وغريب جدًّا وسيدهشك التعرف عليّ؛ فأنا كائن مجهري لا أحمل حمضًا نوويًّا، أو أية مادة جينية بداخلي كباقي الكائنات الحية، ولهذا لا يمكن إدراج اسمي ضمن العائلات البكتيرية، أو الفيروسية، أو حتى عائلة وحيدات الخلية. فجسمي الصغير يتكون من سلسلة من الجزيئات البروتينية متناهية الصغر الناقلة للعدوى. ولهذا وصف علماؤكم أفراد عائلتي بعناصر معدية غريبة، تختلف كل الاختلاف عن أية عناصر أخرى معروفة لدى علماء البيولوجيا.

ونظرًا لأنني أظل كامنًا لسنوات عديدة ولست فيروسًا ولا بكتيريا، فقد حيرتُ العلماء فترة طويلة قبل أن يكتشف حقيقتي العالم الأمريكي “ستانلي بروزينير” طبيب الأعصاب وعالم الكيمياء الحيوية، الذي كنت وجهًا للخير بالنسبة له؛ فقد حصل على جائزة نوبل في الطب سنة 1997م لأبحاثه التي ألقت الضوء على سبب اعتلال المخ إسفنجي الشكل (جنون البقر)، ونظيره “داء كروتزفيلت-جاكوب”، وذلك بعد أن سلط عدسة مجهره عليّ وظل يراقبني ويتجسس عليّ، إلى أن توصل إلى أنني العامل (Agent) المسبب لمرض جنون البقر، الذي حيّر العلماء طويلاً بعد معرفة سبب حدوثه. وهو من منحني اسم “بريون” (Prion) لأول مرة في ذلك البحث، وهو اسم خفيف ظريف اشتقه من كلمتي “بروتيني” (proteinaceous) و”معدٍ” (infectious). وقد أعجبني هذا الاسم، خاصة بعد أن عرفت أنه الاسم المختصر لعبارة إنجليزية طويلة ومعقدة (proteinaceous infectious particle) معناها “الجزيء البروتيني المُعدي”؛ فاسم “بريون” ألطف بالطبع من هذا الاسم الفظيع.

تعود جذور نشأة أجدادي التاريخية إلى القرن الخامس عشر بعد عملية استيراد أغنام المارينو التي كانت مصابة بمرض الحكة أو مرض سكربي (Scarpie) في إسبانيا وتم نقلها إلى إنجلترا. إنه مرض يؤدي إلى حدوث تقلصات حادة وحكة شديدة في الأغنام، تؤدي إلى تآكل الجلد وتهتك الخلايا الدماغية، وإلى وهن، ثم شلل في النهاية. كانت تلك هي البداية الحقيقية لاكتشاف وجود عائلتي في هذا العالم.

لا تحاولوا التخلص مني

من حيث شكلي الخارجي؛ فمظهري خال تمامًا من عوامل الجاذبية المألوفة، فأنا لست أكثر من كتلة صغيرة، بل إنني أقل حجمًا من الفيروسات التي تعتبر أصغر الكائنات الحية. يقول العلماء بأنني أقوى من البكتيريا أو الفيروسات، والسبب أني كائن “غير حي”، ولهذا أستطيع أن أتحمل درجات حرارة تصل إلى 360 مئوية لمدة ساعة.

يعجز الإنسان عن التخلص مني؛ فهو عندما يقوم بحرقي لا أتأثر أبدًا، وأظل محتفظًا بقدرتي على الإصابة. وحتى إن تم دفن الحيوان المصاب لثلاث سنوات، فذلك لا يكفي للقضاء عليّ، إذ أستطيع العيش تحت الأرض لسنوات عديدة. كما أن الإنسان لو حاول -كذلك- قتلي بالمُطهرات التقليدية، أو الأحماض الضعيفة، وبكل الكيماويات المستعملة في التعقيم فلا جدوى. وكذلك لا أتأثر حتى بالأشعة فوق البنفسجية.

جميع الأمراض التي أسببها تؤثر على بنية الدماغ والأنسجة العصبية، ولأنني أظل كامنًا دون أن أُرى لسنوات عديدة، يمكن أن تمتد فترة الحضانة -الفترة بين الإصابة بالعدوى وبين ظهور الأعراض- لأربعة عقود؛ الأمر الذي يجعل من الصعب تتبع مصدر المرض أو معرفة سبب العدوى، كما يجعل من الصعب أيضًا إيقاف المرض مبكرًا إذا ما بدأ في الانتشار بشكل وبائي.. ولهذا، فجميع الأمراض التي أسببها تؤدي إلى أضرار دماغية بالغة وغير قابلة للعلاج.

نُسبت مجموعة الأمراض التي أسببها إلى اسمي، فهي تُدعى “أمراض البريون” أو “الأمراض البريونية”، ويطلق عليها في مجملها “الاعتلالات الدماغية الإسفنجية الشكل القابلة للانتقال بالعدوى” (TSE’s). وتتنوع إلى حد ما وفقًا لنوع الضحية. فعندما أصيب الجهاز العصبي لدى الأبقار يُعرف المرض بـ”جنون البقر” (Mad Cow Disease)، وعندما أصيب الجهاز العصبي للأغنام يسمى بـ”الحكة أو مرض سكربي” (Scrapie)، أما عندما أصيب البشر فإن المرض يسمى بـ”كورو” (Kuru). وفي منتصف التسعينيات من القرن الماضي، اكتشف العلماء نسخة جديدة من أمراض البريون البشري أطلق عليه “كروتزفيلد-جاكوب” (Crutzfeldt–Jakob Disease) وهو الذي ينشأ عن أكل لحوم الأبقار المصابة بعدوى البريونات.

تتميز هذه الأمراض بأنها تسبب الخلل العقلي والاضطرابات العصبية والحركية، وتنتهي بالموت. حيث يتحلل دماغ المصاب، حتى يتحول إلى نسيج إسفنجي مليء بالفجوات وبقع الارتشاح بين الخلايا العصبية، يمكن رؤيتها بالمجهر الإلكتروني.

بعد جهد جهيد توصل الباحثون إلى أنني المسبِّب لكل أمراض الاعتلال الدماغي الإسفنجي في الأبقار وغيرها، وأكدوا أن نوعًا واحدًا فقط من البريون يسبب المرض للقطط والإنسان، وينتقل بسهولة عن طريق الفم أو الحقن، إلى الأغنام والماعز والقرود والفئران. بالطبع هذه المواصفات تنطبق عليّ؛ ولكني ما زلت أحتفظ بجزء كبير من أسراري. فما انكشف حتى الآن عن مسببات أمراض البريون وآليات تكاثرها، يمثل قطرة في محيط حقيقتنا نحن البريونات. بل إن هذه المعلومات زادت اللغز تعقيدًا؛ فكيف لمادة ميتة بلا حمض نووي أن تتكاثر داخل جسم حي، وتنتقل إلى حيوانات أخرى ومنها إلى الإنسان، دون أن تكون قادرة أصلاً على استنساخ نفسها؟

كيف أتكاثر؟

بسبب الغموض الذي يحيط بي، وخطورة الأمراض القاتلة التي أسببها، قام معهد الطب المعتمد من قِبَل الكونجرس الأمريكي، بنشر تقرير عن علم أمراض البريون، يوصي فيه أن تقوم الحكومة الفيدرالية بضخ أموال كافية للإنفاق منها على البحوث المطلوبة، بغرض فهم أساسيات ومبادئ هذا العلم. أرغمتني تلك البحوث المكثفة على الاعتراف بالسرّ الذي احتفظت به طويلاً، وبسببه وقف العلماء لسنوات عاجزين عن معرفة الطريقة التي أتتسبب بها في الإصابة بالأمراض.

حاولت الأبحاث الإجابة عن سؤال: أين تقع المعلومات الوراثية للبريون؟ فأخبرتهم عن السر الذي يفسر موهبتي في نقل العدوى على الرغم من عدم حَمْلي الجينَ المسؤول عن تكاثري، فعرفوا أن الجين المسؤول عن تكاثري، موجود داخل الخلايا الدماغية في الحيوانات المريضة وليس في داخلي أنا. وكما أخبرتكم، أنا مجرد جُسيم ميت لا أملك أي مظهر من مظاهر الحياة، وأستعين فقط بالمادة الوراثية للضحية التي سأصيبها بالمرض.

عائلتي “البريونات”، هي بروتينيات خلوية طبيعية، وإنني في الأصل بروتين طيب القلب، ولا أنوي الإضرار بأحد. ولكن ما حدث؛ أن هناك مجموعة من الظروف القاسية التي ضغطت عليّ، فغيرت من طبيعتي الوديعة، وتحولت من شكلي الوديع إلى شكلي الشاذ المؤذي الذي يجعلني سيئًا.

تحور مفاجئ

عشت حياتي في شكلين: شكلي (الطبيعي) وهو غير مُمرض، وعندما أكون في هذه الحالة، أكون مجرد بروتين مكون من حوالي 208 أحماض أمينية عادية مشفر ضمن المادة الوراثية لمعظم الثدييات. وبالتالي أتواجد بشكل طبيعي ومسالم داخل أنسجة عديدة في الجسم الحي، خاصة الخلايا العصبية (Neurons)، والنسيج الليمفاوي الشبكي (Lymph Reticular Tissue). كما أبرز هويتي (Expressed) على سطوح كل تلك الخلايا، لكي يتعرف عليّ الجهاز المناعي كبروتين صالح غير مُعدٍ، ويشار إليّ -وأنا على شكلي الطبيعي- بـ”البريون الخلوي”.

لم يكتشف العلم حتى الآن وظيفتي التي خُلقت من أجلها، ولا يعرف العلماء ماذا تستطيع البريونات الطبيعية أن تفعل، أو ما هو دورها على وجه التحديد.. وذلك على الرغم من وجود قرائن على أنها تلعب دورًا في نقل مادة النحاس داخل الجسم. وما يمكن قوله لدواعي الدقة العلمية، إنه لم يتسن للعلماء التأكد من ذلك بشكل قاطع ويقيني من خلال التجارب الإكلينيكية حتى لحظتنا هذه.

وفجأة أثناء العملية الروتينية لترجمة بروتيناتي، طرأ تغيير في تكويني الجزيئي (Conformational Change) فأصبحت بروتينًا شاذًّا، لم أَعُد أشبه شكلي الطبيعي. كان هذا هو شكلي الثاني المعدي والمسبب للأمراض. ولكن اكتشفتُ فيما بعدُ أن الشكلين يكادان يتطابقان في كل شيء، وأن شكلي الممرض ما هو إلا تشكيل مناظر للبروتين نفسه المكوِّن لشكلي الأصلي الطبيعي.

أجل، عندما بدأتُ بعدِّ أحماضي الأمينية وأقارن ترتيبها في شكلي الطبيعي وغير الطبيعي، وجدتها متطابقة، ولكن الفرق الوحيد بين الشكلين هو أن أحدهما كان مطويًّا وبنيته أكثر تشابكًا من الآخر. وهنا سجل العالِم “بروسينر” في دفتر ملاحظاته، أن البريون الطبيعي يتحور من تركيبته البروتينية الطبيعية المكونة من نسق متعرج يُعرف بـ”حلزونات ألفا” (a Helices) إلى تركيبة بروتينية أخرى مكونة من “صفائح بيتا” (b Sheets)، وهو النسق المسطح الذي يسبب الأمراض البريونية ويؤدي إلى تدهور وتدمير أنسجة الأعصاب. والعالِم “بروسينر” هو الذي أكد أن هذه التجمعات البروتينية الشاذة، هي البريونات المُحوّرة التي تتسبب في فقدان وظيفة الخلايا العصبية لدى المصاب.

شكل جديد وهوية جديدة

فجأة بدأت جزيئاتي الشاذة في التراكم على هيئة صفيحات يتراوح قطرها بين 4-6 نانوميتر، وما إن تحولتُ إلى “بريون مُحوّر” حتى تغيرت طباعي تمامًا، فصرتُ قاسيًا وعنيدًا للغاية. لم تعد تخيفني الأنزيمات الحالة للبروتينات، أصبحت بريونًا مُقاومًا للهضم، لا تؤثر عليّ أقوى المطهرات والمبيدات الفتاكة. أنا الآن بروتينًا مقاومًا جدًّا للتجميد والتجفيف وللتسخين.. حتى درجات الحرارة المرتفعة المستخدمة في التعقيم لم تفلح في تفكيكي وتدميري. أصبحتُ ثابتًا أمام كل الظروف الفيزيائية والكيميائية التي تحطم أي فيروس أو بكتيريا بسهولة، ويمكنني البقاء تحت الأرض لسنوات عديدة.

والأهم أنني اكتشفت قدرتي على “التكاثر” داخل الخلايا العصبية في غياب أية أحماض نووية أو أية مادة وراثية. لقد أصبحتُ كائنًا مُعديًا مع أنني مجرد كتلة صغيرة من البروتين. ولكن -بخلاف جميع الكائنات المجهرية المعدية- لا أتكاثر من خلال إنتاج واستنساخ أجيال جديدة على صورتي، بل عن طريق تحويل البريونات الطبيعية الموجودة داخل الخلية إلى بريونات ممرضة مثلي.

عاقبة الخروج على الفطرة

لا بد أنكم تتساءلون عن الأسباب التي أدت إلى حدوث هذا التحول الخطير في شكلي وسلوكي. أنا لا أتذكر بالضبط ما الذي حدث قبل أن أتحول؟ لكن أحيانًا يكون الإنسان هو السبب في إفساد بنيتي وتشويه فطرتي، وذلك عن طريق منتجات اللحوم الملوثة التي يقدمها كغذاء للماشية؛ فالبريون المشوه ينتقل إلى الأبقار مع تناولها للأعلاف المصنعة التي يدخل في تركيبها مسحوق الدم أو اللحم أو مسحوق العظام التي تم تجهيزها من مخلفات حيوانية لأغنام مصابة بمرض الحكة (اسكرابي)، أو أبقار مصابة بمرض جنون البقر.

يكمن البروتين المشوه في وجبة اللحوم الملوثة منتظرًا الساعة التي تسمح له ببدء عمله الشرير، وما أن يدخل إلى جسم الحيوان الضحية، يبدأ يبحث عن استضافة لدى أحد معارفه من البريونات الطبيعية. وكنت أنا ذلك البريون الطيب الساذج. والآن أترك الحديث لصديق السوء، ليكمل لكم الحكاية.

كيف تحدث العدوى؟

بمجرد دخولي -أنا البروتين المشوه- إلى جسم الضحية، أقوم بلصق نفسي في البريون الخلوي الموجود بشكل طبيعيي ضمن أنسجته، وكلما كان هناك تشابه بين بروتيناتي وبروتينات الحيوان المصاب، كانت العدوى أسهل، لذلك فإن العدوى بين النوع الواحد من الماشية أسهل وأقوى من غيرها. فبمجرد قبول ذلك الساذج استضافتي، أبدأ العمل على إفساد تركيبته وطبيعته. أقوم بتحسين الشر والأذى في عينيه، بل وإجباره -إن لزم الأمر- على تعديل سلوكه الطبيعي، واتخاذ الهيئة الشاذة مثلي تمامًا، وعندما يحاول مهاجمتي، أتمكن من مقاومة إنزيماته الهاضمة.

بعد ذلك أعمل كقالب (Template) يحفز عملية تحويل الجزيئات البروتينية للبريون الطبيعي المشفر، إلى الجزيئات البروتينية للبريون المتحوّر، ما يؤدي إلى إنتاج المزيد من البريونات المتحورة. وعندما تتسع موجة التحولات البروتينة تلك، فإن البريونات المتحورة تتراكم في جسم الضحية بكميات كبيرة، وتنتشر عبر جهازه العصبي، وتبدأ في إحداث أثرها المدمر داخل الدماغ. وبمرور الزمن تتسبب في تكوّن فراغات وجيوب وسط الأنسجة العصبية التالفة، الأمر الذي يحول أنسجة الدماغ إلى الشكل الإسفنجي، وعندها يهلك الحيوان سريعًا وإن تم التدخل لعلاجه وإنقاذه.

قد تجعل اعترافاتي هذه شريرًا منّي، ولكن يجب أن تعلموا أني بريء من تعمد إلحاق الضرر بالحيوان أو الإنسان، فالجاني الحقيقي هو الإنسان؛ لأن تلاعبه بالمواد التي يقدمها لتسمين الحيوانات، من أهم الأسباب التي تلوث فطرتي المسالمة، وتجعلني أتحول إلى بريون شرير بالغ القسوة. ولو لم يعمد الإنسان إلى مخالفة القوانين الإلهية بتغذية الأبقار على أحشاء ولحوم الأغنام المصابة، لَمَا كان لي وجود في هذا العالم، ولَمَا التقيتم بي عبر هذه الأسطر أبدًا.

(*) طبيبة متخصصة في علم الميكروبيولوجيا الطبية والمناعة / مصر.