منذ سنوات الأطباء والجراحون يعتمدون على مساعدة الروبوت في العمليات الجراحية، ويسمّون ذلك “الجراحة الروبوتية” أو “الجراحة بالأذرع الروبوتية”. وقد مكّنت هذه الروبوتات الجراحين من إجراء عمليات جراحية معقدة بدقة ومهارة، كعمليات القلب، والأوعية الدموية، وعمليات العظام، والعمود الفقري، واستبدال المفاصل، واستئصال الأورام.. وغيرها، دون رعشة أو اهتزاز في يد الجراح، ودون الحاجة إلى وقوف الجرَّاح مدة الجراحة أثناء تعامله اليدوي مع المريض كما هو شأن العمليات الجراحية التقليدية.

ولكن التقدم المذهل في مجال تكنولوجيا النانو (Nano Technology)، جعل المتخصصين في المجال الطبي يفكرون في صنع “روبوتات نانوية” “روبوتات متناهية الصغر (Nano Bots)”، يُمكن حقنها في جسم الإنسان عن طريق الدم، أو ابتلاعها؛ لتقوم بمفردها بأداء المهام الطبية والتشخيصية والعلاجية داخل الجسم البشري، كتصوير خلايا الجسم وأجهزته من الداخل، ومراقبة وظائف أعضاء الجسم، واستكشاف الخلايا المريضة وإيصال الدواء إليها، وإجراء عمليات جراحية على مقاييس نانومترية، أي إجراء عمليات جراحية لمواد داخل جسم الإنسان ذات أبعاد نانومترية محصورة ما بين 1-100 نانومتر.

على سبيل المثال، “الهيموجلوبين” الذي يحمل الأكسجين خلال مجرى الدم إلى أعضاء الجسم، يبلغ قطره تقريبًا خمسة نانومتر. فيمكن من خلال تقنية النانو التعامل مع مثل هذه المواد المتناهية في الصغر وتحسين أدائها، ومن ذلك علاج الجلطات الدموية في مجرى الدم، وفتح الشرايين المسدودة وتنظيفها دون جراحة، وذلك عن طريق دخولها إلى الجسم وتوجُّهها إلى الوعاء الدموي المسدود، وقيامها بإزالة الدهون التي تسدّ هذا الوعاء الدموي، وكذلك اكتشاف وتفتيت حصوات الكلى.. وغير ذلك من الجراحات النانوية التي تتوجه فيها هذه الروبوتات إلى الأنسجة المصابة، وتحدد المشكلة التي تعاني منها وتشخّصها، وتقوم بتصحيح الأضرار جراحيًّا.

تتوقع مراكز البحث أن يساهم النانو تكنولوجي في علاج بعض الأمراض المستعصية، كمرض السرطان؛ حيث تعكف الأبحاث الآن على تطوير روبوتات يمكنها تحديد موقع الخلايا السرطانية وإزالتها بدقة، بدلاً من العلاج الحالي المعتمِد على حقن الأورام بالأدوية، والذي يؤدي إلى تمزق الورم، وانتشار الخلايا المريضة في الأماكن القريبة. لكنه مع اعتماد تقنية “الروبوتات النانوية” سيتمكن الروبوت من اكتشاف الخلايا السرطانية وسيحطمها من منابعها دون تأثير على الخلايا السليمة، ودون معاناة من المريض الذي لن يتأثر بأدنى ألم إلا من جراء غَرْزَة المحقن لإدخال هذا الروبوت؛ ليعمل في جسم المريض دون أن يشعر.

ويكثف الخبراء جهودهم في هذا المجال، وإن لم تعتمد تجاربهم وأبحاثهم إلى الآن كعلاجات رسمية، لكن من المتوقع حصول ذلك في المستقبل القريب، لا سيما وأن إدارة الغذاء والدواء الأميركية قد أعطت موافقتها في عام 2017م على استخدام نوع من الكاميرات يمكن بلعُها على شكلِ حبة دواء لها القدرة على التصوير لتشخيص أمراض الجهاز الهضمي، الأمر الذي ينبئ بمستقبل هذا النوع من الروبوتات.

عوائق عمل النانو تكنولوجي

العائق الأول: مسألة شحن هذه الروبوتات النانوية وتأمين الطاقة اللازمة لها أثناء عملها داخل الجسم.

العائق الثاني: طريقة تحريكها وتوجيهها للأماكن المقصودة داخل جسم الإنسان.

لكن العلماء تمكّنوا مؤخرًا من تطوير روبوتات نانوية مستقلَّة ذاتية التشغيل والقيادة، تعمل بنفسها داخل جسم الإنسان من دون تحكم بشري؛ حيث طور مهندسو البيولوجيا في مستشفى “بوسطن للأطفال” بالولايات المتحدة الأمريكية، قسطرة آلية روبوتية (Robotic catheter) توجِّه نفسَها ذاتيًّا داخل الجسم باتجاه الصِّمَام المتسرب دون توجيه من الجراح، حيث تعمل هذه القسطرة الروبوتية بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، بعد اطلاعها على خريطة تشريح القلب؛ لتستشعر هي بعد ذلك بنفسها المحيط الخارجي لها داخل جسم الإنسان، من خلال الكاميرات والمستشعرات، وتتمكن من معرفة مكان وجودها في القلب وأين يجب أن تتجه. كما أكد الخبراء عدم حاجة هذه الروبوتات للشحن؛ لكونها مبنية على أشباه الموصلات الضوئية التي تحول الضوء إلى طاقة كهربائية، تكفيها لعمل الأنظمة الإلكترونية الدقيقة وتخزين البيانات.

النانو تكنولوجي في مواجهة الشيخوخة

من المتوقع أن تُحْدِث هذه التقنيات ثورة هائلة في عالم الطب والدواء في خلال السنوات المقبلة، الأمر الذي جعل البعض يتوقع أن تُطيل هذه التقنيات المتقدمة معدَّل عمرِ الإنسانِ لعقود عديدة، إن تم الاعتمادُ مستقبلاً على هذا “الطب النانوي” في التشخيص والعلاج، حيث توقَّع البعض أن روبوتات النانو ستكون جزءًا من جسم الإنسان بحلول عام 2030م، وأنه سيتم توجيهها داخل الجسم بأعداد كبيرة بواسطة جهاز كمبيوتر؛ للقيام بوظائفها من الاستكشاف والتشخيص وإصلاح الأعطاب التي قد تطرأ على أجسادنا، ويأمل العلماء في أن تقوم هذه الروبوتات النانوية بالكثير في المجال الطبي، ابتداء من استئصال الأمراض، وانتهاء بإعادة الشباب من خلال علاج الخلايا للتخلص من التجاعيد وهشاشة العظام ومظاهر الشيخوخة الأخرى، على النحو الذي تنبَّأ به “راي كورزويل” (Ray Kurzweil) في كتابه “عصر الآلات الروحية”، حيث ذكر أنه بحلول عام 2039م سيستمر التقدم في فهم آثار الشيخوخة وتحسينها، نتيجة الفهم الشامل لعمليات معالجة المعلومات التي يتم التحكم فيها من خلال الشفرة الوراثية، وأن متوسط العمر المتوقَّع للإنسان سيكون في ازدياد، ومن المتوقَّع أن يكون متوسط الأعمار في 2039م، 120 سنة تقريبًا، بسبب تلك المعالجات المستمرة للخلايا التالفة بواسطة هذه الروبوتات التي ستعمل ككشافة داخل الأجسام البشرية.

الموقف الشرعي منه

بالانتقال إلى الموقف الشرعي من هذه التقنيات، فإنه مما لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية الغرَّاء تقف موقف التأييد لكل تقدم علمي نافع للبشرية، لا سيما في مجال الطب والدواء، ففي الحديث عن أسامة بن شريك رضي الله عنه أنه قال: “قالت الأعراب يا رسول الله، ألا نتداوى؟ قال: نعم، يا عباد الله تداوَوا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد، الهَرم” (رواه أبو داود)، وفي رواية أخرى: “تَدَاوَوْا؛ فإن الله لم ينزل داءً إلا أنزل له شفاءً، علِمَه مَنْ علِمَه، وجهِلَه مَنْ جهِلَه” (رواه الإمام أحمد)، وأمرُ النبي صلى الله عليه وسلم  بالتداوي في هذا الحديث، يدل على استحبابه واستحباب طلبه ومباشرته، وهذا ما عليه جمهور السلف وعامة الخلف.

الاحتياط من مخاطره

لكن يجب ألا ننسى ضرورة التأكد من خلو هذه العلاجات النانوية من أيَّة آثار جانبية قد تشكل خطرًا أو تهديدًا لجسم الإنسان في المستقبل، لا سيما وأن ثمة مخاوف مثارة بالفعل حول مخاطر النانوتكنولوجي وآثارها الضارة على صحة الإنسان. كما أثيرت المخاوف أيضًا بشأن إمكانية عدم تحلل الروبوتات النانوية بعد انتهاء مهمتها داخل جسم الإنسان، وإمكانية تجمع هذه الجزيئات النانوية غير القابلة للتحلل في الجسم، وتفاعلها مع العمليات الحيوية لخلايا الجسم، الأمر الذي قد يفضي إلى نتائج عكسية، وهي آثار لا يمكن ظهورها إلا على المدى البعيد؛ نظرًا لتناهي هذه الجزيئات في الصغر، وصعوبة تتبعها، الأمر الذي يشكل صعوبة في اكتشاف آثارها الجانبية على المدى القريب أو حتى المتوسط، مما يتعين على العلماء بذل كثير من مجهوداتهم البحثية، من أجل التأكد من سلامة هذه الروبوتات قبل اعتمادها في الطب النانوي البشري.

الحكم الشرعي لطلب إطالة العمر

إنْ تمكَّن العلماء من تحقيق الاستفادة منه في المستقبل، فستفرض هذه التقنية نفسها بشدة على ساحة البحث الفقهي في السنوات القادمة، وحينها سيجد الفقهاء أنفسهم مطالبين بتخريج أحكامها، وبيان الرأي الشرعي فيها، وسيتولد منها نقاش ديني وفقهي وأخلاقي واسع، كشأن كل الاكتشافات الطبية، والنوازل التي أثارت العديد من القضايا الأخلاقية والدينية في مجال الطب والعلاج، كجراحات التجميل بأشكالها وصورها المختلفة، والعلاج الجيني بأنواعه المتعددة، وزراعة الأعضاء، والاستنساخ البشري، والهندسة الوراثية وتصميم الأطفال والتلاعب بالجينات وغير ذلك.

أما مسألة تسخير الروبوتات النانوية وإطلاقها داخل جسم الإنسان لاكتشاف الخلايا المعيبة وإصلاحها؛ رغبةً في تمديد متوسط الأعمار، وتأخير الشيخوخة ومكافحة أعراضها بتثبيط الخلايا المسؤولة عن ذلك، فلا أرى أن ثمة تعارضًا بين ذلك كله وبين قواعد الشريعة الإسلامية بأي حال من الأحوال، وأنها إن تمت بالفعل، فستكون مندرجة تحت عموم التداوي المأمور به شرعًا، شأنها في ذلك شأن أي مرض آخر؛ فإن المرض -وإن قلَّ- لو أهمل الإنسانُ علاجه لأدى به إلى الموت والوفاة، وباللجوء إلى التداوي والتطبب يدعو الإنسان ربه عمليًّا أن يكتب له الحياةَ وطول العمر. فالدعاء القولي هو الألفاظ، والدعاء العملي هو الأخذ بالأسباب، قال صلى الله عليه وسلم: “لكل داء دواء، فإذا أصاب دواءٌ الداءَ، بَرَأَ بإذن الله عز وجل” (رواه ابن حبان)، وفي الحديث عن أبي خزامة بن يعمر رضي الله عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال: يا رسول الله، أرأيت دواءً نتداوى به، ورقًى نسترقي بها، وتقًى نتَّقيها، هل يردُّ ذلك من قدر الله شيئًا؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ذلك من قَدَر الله” (رواه الترمذي).

إذن، فالعمل على تمديد عمر الإنسان وتأخير الشيخوخة ومكافحة أسبابها بالأدوية والعلاجات الممكنة -إن تمكنت منه البشرية- سيكون من قَدَر الله تعالى. ولا تعارض بين ذلك وبين ما أفادته بعض نصوص الشريعة الإسلامية من كون العمر والأجل ثابتَيْن لا يزيدان ولا ينقصان، وكون الشيخوخة آتية لا محالة، باعتبارها الشيبة والضعف الذي يسبق الموت، كما في قول الله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)(الأعراف:34)، وقوله جل شأنه: وقوله: (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)(الروم:54)، وغير ذلك من النصوص؛ لأنه قد ورد بإزاء هذه النصوص نصوص أخرى تفيد زيادة العمر ونقصانه، كما في قول الله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)(فاطر:11)، وكما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : “من سرَّه أن يبسط له في رزقه، أو يُنْسَأَ له في أثرِه، فليصِلْ رحمَه” (رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يَرُدُّ القضاءَ إلا الدعاءُ، ولا يزيد في العُمْر إلا البِرُّ” (رواه الترمذي).

وقد حمل جماعة من أهل العلم تمديد الأجل وزيادة الأعمار في هذه النصوص على الزيادة الحقيقية لا المجازية، ووفقوا بين هذه النصوص وبين النصوص الأولى التي تفيد ثبوت العمر والأجل، بأن الأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله تعالى، وأجل مقيَّد، فحملوا النصوص الأولى على العمر والأجل المحتوم الذي قدَّره الله في اللوح المحفوظ، وهو الذي لا يتبدل ولا يتغير، وحملوا نصوص الزيادة والنقصان على ما يظهر لكتبة الملائكة وغيرهم من المخلوقين من ربط الموت بأسبابه التي تؤخره وتؤجله، سواء كانت هذه الأسباب مادية، كالتداوي والأخذ بأسباب الصحة، أو كانت أسبابًا معنوية أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، كصلة الرحم، والدعاء، والبر وغيرها.. فإذا أخذ العبد بأسباب التأجيل تأجَّل، وإذا لم يأخذ بها تعجَّل، وإن تداوى الإنسان طال عمره، وإن ترك العلاجَ قُضي أجلُه، وهكذا دواليك.. والتأجيل والتعجيل والزيادة والنقصان هو في نظر الخلائق فقط، والله يعلم أزلاً ما يستقرُّ عليه الأمر، وإذا جاء الأجل المقدَّر في اللوح لا يتقدم ولا يتأخر.

(*) كاتب وباحث سوري.