بناء جيل مبدع بالقيم القرآنية

الشباب في الإسلام هم أمل الأمة وقوتها الدافعة، ومن خلال الجمع بين القيم الإسلامية (العمل، العفة، التكافل) والاستفادة من الفرص الحديثة (التكنولوجيا، ريادة الأعمال)، يمكن للشباب أن يلعبوا دورًا محوريًّا في بناء مجتمعات مزدهرة. ومن استلهام قصص الأنبياء والصحابة يمكن توجيههم نحو تحقيق التوازن بين الروحانيات والماديات، مما يعزز دورهم كقادة المستقبل وكمحرك أساس للتقدم الحضاري.

وحسب التعاريف الإحصائية الشائعة في العالم العربي، فإن الشباب هم الفئة العمرية التي تمتد عادةً من مرحلة المراهقة إلى بداية النضج، أي من سن (15 إلى 29 سنة). بينما تستخدم الأمم المتحدة النطاق العمري (15-24 سنة). ويُنظر إلى الشباب كفئة تتميز بالحيوية، والطاقة، والقدرة على الإبداع والتغيير. ويُشكل الشباب في عالمنا العربي والإسلامي ما بين 25 إلى 30% من السكان بصفة عامة، وقد تزيد هذه النسبة في بعض البلاد عن ذلك وقد تنقص قليلًا في البعض الآخر، مما يجعلهم قوة دافعة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات العربية والإسلامية.

وقد أولى الإسلام الشباب أهمية كبيرة كونهم ركيزة الأمة وقوتها الدافعة، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على استغلال طاقة الشباب واستثمار هذه المرحلة في العمل الصالح والإنجاز، فقال صلى الله عليه وسلم: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» (رواه الحاكم).

وتاريخيًّا، كان الشباب في صدر الإسلام قوة تغيير، مثل دور الصحابة الشباب (علي بن أبي طالب، الزبير بن العوام، وغيرهم) في نشر الإسلام. ووثق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشباب في تحمّل المسؤوليات القيادية، كما في تعيين أسامة بن زيد قائدًا للجيش وهو في سن الثامنة عشرة: «إِنَّمَا أَمَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى جَيْشٍ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» (رواه البخاري).

وهناك أيضًا شخصيات تاريخية مثل محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية وهو في سن الحادية والعشرين. هذه الأمثلة تُظهر كيف يمكن للشباب أن يتركوا بصمة كبيرة في مجتمعاتنا المعاصرة، وتلهمهم للسعي نحو الإنجازات الكبرى.

إن بناء جيل مبتكر يتحلى بالإبداع والمسؤولية ليس مجرد طموح، بل ضرورة لتحقيق التنمية المستدامة والتعايش الإنساني. فالقيم القرآنية والإسلامية مثل: الإبداع، المسؤولية، العدل، التكافل، والأمانة، تقدم إطارًا متكاملاً لتمكين الشباب ليكونوا قادة التغيير. فكيف يمكن لهذه القيم أن تُلهم جيلاً قادرًا على مواجهة تحديات العصر بإبداع ومسؤولية؟ وكيف يمكن ترجمة هذه القيم إلى برامج عملية لتطوير قدرات الشباب؟ يستكشف هذا المقال كيف يمكن للقيم القرآنية والإسلامية أن تشكل أساسًا لبناء جيل مبتكر يساهم في بناء مجتمعات عادلة، مزدهرة، وحضارية.

القيم القرآنية والإسلامية كمحفز للإبداع والمسؤولية

القيم القرآنية والإسلامية ليست مجرد تعاليم دينية، بل هي مبادئ عملية تهدف إلى بناء مجتمعات متماسكة ومبتكرة. هذه القيم تجمع بين الروحانية والعملية وتوفر إطارًا مثاليًّا لتمكين الشباب، وتحفزهم على الإبداع في حل المشكلات وتحمل المسؤولية تجاه مجتمعاتهم.

ونستعرض هنا خمس قيم قرآنية وإسلامية رئيسية تقدم رؤية شاملة لبناء جيل مبتكر وقادر على قيادة التغيير:

1- الإبداع:

يدعو القرآن إلى التأمل والتفكير الإبداعي: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾(الغاشية: 17).
هذه الدعوة تحث الشباب على استكشاف حلول جديدة للتحديات المعاصرة. والإبداع كقيمة إسلامية يشجع الشباب على التفكير خارج الأطر التقليدية، مما يعزز دورهم في مواجهة القضايا الكبرى التي تواجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية مثل: تغيّر المناخ ونقص الموارد.

2- المسؤولية:

يرتبط مفهوم الاستخلاف في القرآن بتحمّل المسؤولية تجاه الأرض والمجتمع: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾(هود: 61).
وبالنسبة للشباب، تعني المسؤولية اتخاذ قرارات تحترم البيئة والمجتمع. وفي ظل استنزاف الموارد الطبيعية، يمكن للمسؤولية أن تُلهم الشباب لتبني مشاريع وأنماط حياة مستدامة، مثل تقليل النفايات أو دعم الطاقة المتجددة.

3- العدل:

يؤكد القرآن على العدل كركيزة أساسية: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الحجرات: 9).
وبالنسبة للشباب، يعني العدل توفير فرص متساوية، بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية أو الاقتصادية. وفي عالم يعاني من التفاوت في الفرص، يمكن للعدل أن يُلهم إنشاء برامج تدريبية أو منح دراسية للشباب في المناطق المهمشة، مما يمكّنهم من المساهمة في بناء مجتمعاتهم.

4- التكافل:

مبدأ التكافل، المتجسد في الزكاة والصدقات، يدعو إلى دعم الفئات الضعيفة: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾(الذاريات: 19).
وبالنسبة للشباب، يعني التكافل توفير شبكة أمان اجتماعي تمكّنهم من المخاطرة بالابتكار دون الخوف من الفشل. ويمكن للتكافل أن يُلهم إنشاء مراكز حاضنة للأعمال أو برامج تمويل أصغر تدعم رواد الأعمال الشباب، مما يعزز الاستقلالية الاقتصادية.

5- الأمانة:

الأمانة هي أساس الثقة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(الأحزاب: 72).
وبالنسبة للشباب، تعني الأمانة تحمّل المسؤولية في إدارة الموارد والالتزام بالشفافية في مشاريعهم. وفي سياق يعاني من الفساد، يمكن للأمانة أن تُلهم الشباب لتطوير مشاريع اجتماعية تعطي الأولوية للتأثير الإيجابي على الربح، مثل إنشاء شركات تعتمد على الشفافية في سلاسل التوريد.

هذه القيم الخمس تشكل إطارًا متكاملاً لبناء جيل مبتكر يتحلى بالمسؤولية. وفي عالم يواجه تحديات مثل البطالة، التدهور البيئي، ونقص الفرص التعليمية، تقدم هذه القيم رؤية لتمكين الشباب من قيادة التغيير بإبداع ووعي أخلاقي، مما يساهم في بناء مجتمعات عادلة ومستدامة.

دراسة الحالة: بيت الزكاة والصدقات في مصر

يُعدّ بيت الزكاة والصدقات في مصر، الذي تأسس عام 2014 تحت إشراف الأزهر الشريف، نموذجًا رائدًا لتطبيق القيم القرآنية والإسلامية في بناء جيل مبتكر ومسؤول. يركّز البيت على تمكين الشباب من خلال برامج تدريبية ومشاريع تنموية تعزّز الإبداع والمسؤولية، مع الاهتمام بالفئات المهمشة في المناطق الريفية والعشوائية.

ويقدّم البيت مجموعة من البرامج التي تعكس القيم القرآنية والإسلامية:

– التدريب المهني للإبداع:
ينظم البيت برامج تدريب مهني للشباب، مع التركيز على المهارات التي تحفّز الإبداع. ففي أسيوط، درّب البيت حوالي 800 شاب وشابة بين عامي 2021 و2023 على مهن مثل النجارة، الخياطة، وصيانة الأجهزة الإلكترونية. على سبيل المثال، ساعد برنامج تدريبي في أسيوط شابًّا على إنشاء ورشة لتصميم الأثاث الخشبي المستوحى من التراث المصري، مما جذب زبائن من الأسواق المحلية والسياحية. كما درّب البيت شابات في سوهاج على تصميم ملابس مستوحاة من الفنون الإسلامية، مما عزّز إبداعهن وساعدهن على تسويق منتجاتهن دوليًّا.

– تمويل المشاريع الريادية:
يدعم البيت مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر للشباب، مع التركيز على الأفكار المبتكرة. في المنيا، قدّم البيت تمويلاً لشاب لإنشاء مزرعة دواجن عضوية تستخدم تقنيات زراعية مستدامة، مما أنتج منتجات صحية وساهم في تحسين الأمن الغذائي المحلي بنسبة 15% في قريته. كما دعم مشروعًا في القاهرة لمجموعة من الشباب لإنشاء منصة إلكترونية لبيع المنتجات الحرفية، مما عزّز إبداعهم الاقتصادي.

– التعليم التقني والابتكار:
يخصص البيت أموال الزكاة لدعم التعليم التقني، مثل تعليم البرمجة والتسويق الرقمي. في الإسكندرية، دعم البيت برنامجًا لتعليم 250 شابًّا مهارات البرمجة، مما أدى إلى إنشاء 18 شركة ناشئة رقمية عام 2023، منها تطبيق لتوصيل المنتجات الزراعية مباشرة من المزارعين إلى المستهلكين، مما قلّل من هدر الغذاء ودعم المزارعين المحليين.

– برامج التوعية بالمسؤولية:
ينظم البيت ورش عمل لتوعية الشباب بأهمية المسؤولية الاجتماعية والبيئية. في سوهاج، أطلق البيت حملة “شباب من أجل الأرض”، شجعت الشباب على إنشاء مشاريع لإعادة تدوير النفايات البلاستيكية إلى منتجات مثل الأثاث والأدوات المنزلية، مما عزز الوعي البيئي والإبداع. وفي القاهرة، نظم البيت ورشة لتعليم الشباب إدارة الموارد بحكمة، مثل إعادة استثمار أرباح مشاريعهم في تطويرها بدلاً من الإنفاق غير المنتج.

تجسيد القيم القرآنية والإسلامية:

الإبداع: يحفز البيت الشباب على تطوير أفكار مبتكرة، مثل تصميم منتجات مستوحاة من التراث أو استخدام التكنولوجيا في مشاريع ريادية، مما يعكس دعوة القرآن للتأمل والابتكار.

المسؤولية: يعلّم البيت الشباب تحمّل المسؤولية تجاه مواردهم ومجتمعاتهم، مثل إدارة مشاريعهم بحكمة أو المساهمة في تحسين البيئة المحلية من خلال مشاريع إعادة التدوير.

العدل: يضمن البيت توزيع الدعم على الشباب الأكثر احتياجًا، خاصة في المناطق الريفية، باستخدام معايير صارمة لتحديد المستفيدين، مما يعكس العدل في توفير الفرص.

التكافل: يعزّز التكافل من خلال تمكين الشباب من تحقيق الاكتفاء الذاتي، مما يقلّل من اعتمادهم على المساعدات ويعزّز دورهم في دعم مجتمعاتهم.

الأمانة: يتميّز البيت بالشفافية في إدارة أموال الزكاة، مع نشر تقارير دورية عن مشاريعه، ويشجّع الشباب على تبنّي الأمانة في مشاريعهم الريادية من خلال الالتزام بالصدق والشفافية.

تُظهر تجربة بيت الزكاة والصدقات كيف يمكن للقيم القرآنية والإسلامية أن تُترجم إلى برامج عملية لبناء جيل مبتكر يتحلّى بالمسؤولية، لكن نجاحها يعتمد على تعزيز الوعي المجتمعي وتطوير الآليات الإدارية لتصل إلى المزيد من الشباب.

الخاتمة

إن بناء جيل مبتكر مستلهم من القيم القرآنية والإسلامية هو مشروع حضاري يمكن أن يغير وجه المجتمعات. فالإبداع، المسؤولية، العدل، التكافل، والأمانة ليست مجرد قيم دينية، بل هي أدوات عملية لتمكين الشباب من مواجهة تحديات العصر، من البطالة إلى التدهور البيئي. وتُظهر تجربة بيت الزكاة والصدقات في مصر كيف يمكن لهذه القيم أن تُترجم إلى برامج تدريبية ومشاريع ريادية تغير حياة الآلاف من الشباب، مما يعزّز دورهم في بناء مجتمعات عادلة ومستدامة.

لكن التحدي يكمن في تعميم هذه الرؤية على نطاق أوسع، من خلال تعاون الأفراد، المؤسسات، والحكومات. ومن هنا ندعو الشباب إلى استلهام هذه القيم في حياتهم، سواء من خلال تطوير مشاريع مبتكرة، أو المساهمة في مبادرات مجتمعية، أو المطالبة بسياسات تعليمية وعملية عادلة. فلنجعل هذه القيم جسرًا يربط بين الإبداع والمسؤولية، ونعمل معًا لبناء جيل يعكس الأمانة والعدل التي استودعناها الله في هذه الأرض.