مرحبًا أيها الإنسان، أنا “البومة”… أقف بين أيديكم اليوم لأحدثكم عن البدائع التي وضعها ربي فيَّ، ثم لأردّ على افتراءاتكم التي توجهونها إليّ بأني “جالبة للشؤم”. فقد بلغني أنكم تقولون لمن يملك صفات سيئة: “وجهه مثل البوم”، وتصفون أماكن الشؤم بـ”عُش البوم”، ولكن كل ما تقولونه لا يعبّر عن الحقيقة أبدًا، إني أختار المباني المهجورة لوفرة الفئران فيها وهدوئها ليس إلا. كيف تقولون ذلك وأنا الذي جُعلتُ سببًا لحمايتكم من الحيوانات الضارة؟ ربما ترتعبون من عينَي الكبيرتين الموضوعتين في مقدمة رأسي، ولعل نشاطي في الليل يثير فيكم القلق أيضًا. ولكن ماذا أفعل؟ لقد خلقني ربي على هذه الصورة؛ أعيش في الليل وأسعى وراء لقمة العيش بخلاف معظم الحيوانات التي تنشط في النهار.
أنا من الطيور التي لم يُعرف من خصائصها إلا القليل، إذ نشتهر بوقفتنا المنتصبة الأصيلة، وربما كانت تلك الوقفة سببًا لتسميتنا بـ”سيد الطيور” (baykuş) في اللغة التركية.
نظامنا الأيدولوجي
إناثنا -نحن معشر البوم- أضخم من ذكورنا، نتناول غذاء يتناسب مع أحجامنا. ثم إننا مسخرون للحفاظ على التوازن البيئي، ونتغذى على الجرذان والفئران والقوارض، وقد يقتات بعضنا على العصافير الصغيرة. فبينما تتغذى أنواعنا الصغيرة على الحشرات واللافقاريات، تتغذى أنواعنا المتوسطة على القوارض والعصافير، وأما أنواعنا الطويلة فتستطيع أن تصطاد الطيور الكبيرة والغزلان الصغيرة من الثدييات أيضًا. قبل أن نشرع بالصيد نقوم بتصنّت محيطنا جيدًا، وبمجرد التقاطنا صوتًا -ولو كان ضعيفًا- نحوِّل أنظارنا إلى تلك الجهة ونقوم بالتركيز على ذلك الصوت، وبعد تحديد المكان نتسلل نحو الفريسة ونقضي عليها بضربة مخلب واحدة.
وها أنا ذا أقدّم إليكم بعض الأرقام التي تساعدكم على إدراك مكانتنا في التوازن البيئي: زوجٌ من البومة الصمْعاء، يستهلكان يوميًّا سبع قوارض من الحيوانات يبلغ وزن الواحدة منها 20 جم، وبذلك يتم خلال شهرين من السنة تنظيف نسبة 28-70% من الفئران و18-46% من الجرذان التي تعيش في غابة من الغابات. ولكن في هذا النظام البيئي يحدث أحيانًا العكس؛ إذ التغيرات التي تطرأ على عدد القوارض هذه، يؤثر طرديًّا على عددنا نحن البوم أيضًا، ففي السنوات التي ينخفض فيها عدد الفئران والجرذان، تنخفض فيها أعدادنا أيضًا. كل ذلك يحدث من غير علمٍ منّا ولا تقدير، فنحن لسنا سوى مترجمين لأسماء خالقنا الحسنى، وتجلياتٍ لها من غير شعور، فهو المدبر وهو المقدر سبحانه.
خبراء الصيد
لقد خلَق لنا ربنا أجنحة طويلة توفّر لنا الطاقة أثناء الطيران وتسهل علينا مهمة الصيد، إذ البومة الصمْعاء (strix aluco) تستطيع التقاط الضفدع في الماء وهي تطير، كما تتغذى البوم الحفار (speotyto cunicularia) على اللاّفقاريات في البراري، أما البومة المخططة (strix varia) فتتغذى على الطيور الصغيرة التي ترتاد إلى محطات تغذية الطيور دومًا، وأما أنواعنا من بوم الأسماك (ketupa zeylonensis)تملك تقنية تمكّنها من صيد الأسماك بكل سهولة.
كما تستطيع بوم الثلج (nyctea scandiaca) التي تستوطن القطب المتجمد الشمالي رؤيةَ أبسط حركة تقوم بها فأرة مختبئة تحت طبقة من الثلج تبلغ 30 سم، وذلك من موقعها على الشجرة، فتركّز انتباهها على تلك البقعة ثم تتسلل في صمت لتنقض على تلك الفأرة، فتمسكها وكأنها وضعتها بنفسها هناك. نحمل فريستنا قطعة واحدة بمناقرنا خلافًا للصقور والنسور، ولكن إذا كانت الفريسة كبيرة، نفصل رأسها ونرميه زادًا لمن هو أصغر منا حجمًا، ونبتلع سائر الجسد حتى الذيل، أما إذا كانت الفريسة صغيرة نبتلعها برمتها دفعة واحدة ونطرح من فمنا أجزاءها التي لم نستطع هضمها.
حياتنا الأسرية
تهاجر بعض أنواعنا من البوم بحثًا عن رزقها عندما تقل الفئران. فتهاجر بوم الثلج -مثلاً- من القطب المتجمد الشمالي إلى الولايات المتحدة الأمريكية عندما تقل الفئران. معظم ذكورنا تتزوج بأنثى واحدة فقط، ونادرًا ما نرى ذكورًا تتزوج أكثر من أنثى إلا عندما يكثر الصيد. يعتني الذكر بالأمّ والفراخ في فترة حضانة البيض باعتباره ربًّا للأسرة. موسم التكاثر يتوافق مع الموسم الذي تكثر فيه مصادر الغذاء، إذ يتم وضع البيض في نصف الكرة الغربي مبكّرًا في شهر شباط، الأمر الذي يُجبر الذكور على الصيد في البرد القارس لأن الإناث تكون منشغلة بحضانة بيضها. وفي المناطق الاستوائية يبدأ التكاثر في موسم الأمطار، حيث تترك السيول خلفها الرزق الوفير من الحشرات. وبشكل عام تكون الحضانة فترة واحدة في السنة الواحدة، وقد تكون أكثر من مرة عند وفرة الطعام. وربما يمر العام دون أن تكون هناك حضانة إذا ما قلّت القوارض التي تقتاتُ عليها.
أعشاشنا
يقوم الذكور بتوفير الغذاء للأمهات في فترة الحضانة، فتكتنز أجسامهن بالدهون لتكون أكثر قدرة على حماية فراخها من الأعداء، وفي الغالب لا نحتاج لبناء الأعشاش، إذ نختار الأشجار المناسبة أو الحُفَر التي تنتشر بين الصخور. وبينما يعمل أصدقاؤنا من بوم الحقل بحفر أعشاشها في التراب، تسكن أنواعنا الصغيرة الأعشاشَ المهجورة لطيور نقار الخشب. وهنا يتجلى للناظر في كتاب الكون المنظور خاصية مثيرة للاهتمام وهي الرحمة الإلهية المطلقة: فبينما تأخذ الفراخ في الأعشاش الآمنة وقتها في النمو، تنمو الفراخ في الأعشاش الأقل أمانًا بشكل أسرع، حتى إنها تغادر تلك الأعشاش دون أن يتم اكتساء أجسامها بالريش بعدُ، وهذا النمو السريع يصونها من أن تكون فريسة للأعداء. وبعد مضيّ بضعة أشهر تحت رعاية الأبوين، تنطلق الفراخ أحرارًا وتبدأ تبحث عن غذائها بنفسها. وبالتالي فإن معدل الوفيات عند الصغار مرتفع، إذ إن نسبةً كبيرةً منها تموت خلال السنة الأولى من عمرها، وبذلك يتم التوازن السكاني بين الأحياء. تتراوح أعمارنا ما بين 4-5 سنوات، كما يندر مَن يعيش 15 سنة، وقد سُجِّلت حياة بعض الأنواع الكبيرة منّا 68 سنة في المحميات.
يعيش معظمنا مع أزواجهم في مواطنهم من غير هجرة، وعندما يشح الغذاء نغير نمط غذائنا دون أن نغير أماكن إقامتنا، فنهجر ما اعتدنا عليه من الغذاء إلى غذاء وفير آخر. وقد يهاجر القليل منّا في رحلة الشمال والجنوب؛ فالبوم القزم (otus scopus) يتجه نحو جنوب أوربا ليقضي فيها فصل الصيف وليؤدي وظيفته في تأمين التوازن السكاني للحشرات الكبيرة. وبوم المستنقعات (asio flammeus) لا يُعرف له موطن، إذ إنه في ترحال دائم يبحث عن المواطن التي يكثر فيها الطعام، كما أن ذكور هذا النوع من البوم وأمثاله من البوم المتنقل، لا يعيش مع أزواجه من الإناث في حياة أسرية إلا في موسم التكاثر. أما بوم الجبال فيرتقي قمم الجبال في الصيف ويرتحل إلى الوديان في الشتاء.
أبجدية صوتية خاصة
في سكنات الليل نستخدم أبجدية صوتية خاصة من أجل التواصل فيما بيننا على مسافات بعيدة، ومن أجل الصيد كذلك. أما أنواعنا التي تصطاد في النهار فتستخدم أصواتًا ضعيفة خفيفة. وعليه فإن زوج البومة النسارية تَعرف أصوات بعضها البعض من مسافة 4 كلم. نعم، نحن -معشر البوم- نواصل العلاقة فيما بيننا عن طريق هذه الأبجديات الصوتية، إذ نعبّر عن كل حالة من أحوالنا بصوت خاص؛ فنُخيف منافسينا بصوت خاص، وننذر أعداءنا بصوت خاص، ونبحث عن أزواجنا، ونتواصل فيما بيننا بأصوات خاصة متمايزة. وبهذه الأصوات المختلفة تتمايز بسهولة الأنواع المختلفة من البوم. فالأنواع المختلفة التي تعيش في أماكن مختلفة تملك طبقات صوتية خاصة تميزها عن الأنواع الأخرى؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية كان يعرف منا 123 نوعًا، وارتفع هذا العدد في عام 2000 إلى 189 نوعًا بعد تصنيف الأصوات لدينا، حيث تبيَّن بعد التصنيف الصوتي هذا، أن هناك اختلافات كثيرة بين أنواعنا رغم التشابه في مظاهرنا الخارجية.
حواس عجيبة
نملك -نحن معشر البوم- جهازًا على شكل دائرة يتكون من الريش الموجودة حول عيوننا. هذا الجهاز يؤدي مهمة اللاّقط الهوائي، يجمع الأصوات ويعكسها إلى آذاننا. عيوننا أكبر من عيون سائر الطيور، وفتحة آذاننا واسعة كذلك. ثم إن بؤبؤة عيوننا الواسعة تساعد على نفوذ كمية كبيرة من الضوء إلى شبكة عيوننا. وإذا ما قِسنا عين البومة الصمْعاء بعين الحمام، نجد أن عين البومة الصمعاء تستقبل الضوء أكثر من الحمام بمئة ضعف، الأمر الذي يوفر لنا الصيد والتحرك في الليل دون أي عائق، بينما الحمام يضطر إلى انتظار ضوء الصبح. لقد أنعم علينا صانع الكون والكائنات عيونًا على شكل أنبوب تعمل كالمنظار، وزودها بقَرْنية وعدسة مثاليتين، كما أحاط هذه العيون بعظام دائرية رقيقة تأمينًا لعملها المنظاري، وهاتان العينان الأماميتان تعملان كالمجهر، وتنظران إلى الكائن من زوايا مختلفة وبمعايرة دقيقة للمسافات، مما يوفّر للبومة الرؤية الثلاثية الأبعاد. إلا أن الشكل الأمامي للعينين يجعل مساحة الرؤية ضيقة، فإذا كانت زاوية الرؤية عندكم 1800 درجة، وعند الحمام 3400 درجة، فإنها تضيق عندنا إلى 1100 درجة. فقد وهب خالقي بقدرته العظيمة وعلمه المحيط كل مخلوق ما يحتاجه بلا إسراف ولا نقصان، فوهب لفقرات رقبتي قدرة على الحركة أستطيع بها تحريك رأسي نحو الخلف لأرى كل الجهات بكل سهولة، فتصبح زاوية الرؤية 360 درجة.
ولابد لي هنا من أن أصحح اعتقادًا خاطئًا عني. نعم، لعلكم تظنون أني لا أرى في النهار، الأمر ليس كذلك، فأنا أرى في النهار كما يرى الحمام، إلا أن قدرتي على الرؤية في الليل والظلام تزيد ضعفين أو ثلاثة أضعاف على رؤيتكم أنتم، ودليلي على ما أقول هم أشقائي من بوم الثلج الذين يعيشون في القطب الشمالي الذي يمتد نهاره ستة شهور وليله ستة شهور، إذ يقضون أيامهم بلا عناء ولا مشقة ويتمتعون بأبصارهم في ليله ونهاره الطويلين.
أما السبب في قدرتي الكبيرة على الصيد في الليل، فإنه يعود إلى التناغم الكبير بين السمع والبصر، فآذاننا حساسة للأصوات ذات الترددات العالية، إذ أسمع حفيف أوراق الشجر، وأميز في حلكة الليل صوت القوارض المتنقلة من جُحْر إلى آخر وأحدّد مواقعها بدقة ثم أنقض عليها لأصطادها. وعليه فإن وجهي الدائري مع اصطفاف ريش رأسي على شكل إكليل، هو عنصر مهم من نظام السمع لديّ؛ إذ أمواج الصوت التي تنعكس عن وجهي، تتوجه نحو الأذن عبر هذه الريش. وبسبب بُعد المسافة بين الأذنين الداخليتين، مُنِحتُ القدرة على تثبيت مصدر الصوت بلا خطأٍ، فأتمكن من سماع الأصوات الأفقية بشكل حساس يفوق قدرة القط بأربع مرات. وعند التحليق يقوم دماغي تلقائيًّا بتقدير المسافات أفقيًّا وعموديًّا بخطأٍ لا يتجاوز الدرجة أو الدرجتين، وهذا لا يشكل عائقًا لقدرتي على الصيد أبدًا.
طائرات صامتة
هل تعتقدون أنه يكفيني تعيين موقع الفريسة فقط؟ لا..إذن كيف سأضمن التقاط هذه الفريسة دون أن أترك لها فرصة للهروب؟ هنا يتجلى عليَّ الله تعالى باسمه المدبر؛ حيث منحني ريشًا خاصًّا كثيفًا، فبومة الغاب ذات الأذن الطويلة -مثلاً- يغطي جسمها عشرة آلاف ريشة ناعمة، فينخفض احتكاك الهواء المار من بين هذه الريش مانعًا صدور أيّ صوت. ولكن هذا الريش الناعم لم نره عند بومة الأسماك، والسبب في ذلك أن الأسماك تعيش تحت الماء وليس بإمكانها أن تسمع صوت احتكاك الأجنحة بالهواء. ومن حكمته تعالى أنْ كسَا سيقان بومة اليابسة بالريش لتحميها من عضّ القوارض، بينما سيقان بوم الأسماك ملساء، والسبب أن الأسماك لا تعضّ.
أرجو أن لا أكون قد أطلتُ عليكم وأنا أحاول أن أثبت براءتي، وأتمنى أن لا تنظروا إلي بعد اليوم بوجه الشؤم، والسلام.
(*) جامعة 9 أيلول / تركيا. الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.