الموت خلق كالحياة، وهي ظاهرة تعم كل الأحياء، فكل حي يعانيها، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(الملك:2)، وقد قدَّم ربنا عز وجل الموت على الحياة؛ لأن الموت هو الأول قبل الحياة، وذلك عندما خلق الله آدم خلقه من العدم، والعدم لم تسبقه حياة؛ حيث إنه إيجاد من غير مباشرة الأسباب. “والموت حالة تعتري الإنسان كل يوم من التحلل والنقص؛ فإن الإنسان ما دام في الدنيا يموت جزءًا فجزءًا”.
ويذكر الأستاذ محمد فتح الله كولن – رحمه الله تعالى – مبينًا أن الموصل إلى النعيم الأبدي هو الموت، وأنه ألطف أمل، وإن ظن بعض الناس أنه غير ذلك، فنراه يقول: “فإذا كان الموت هو الجسر الوحيد الذي يوصل إلى هذا النعيم، والألطاف؛ فإن الموت – حسبما أرى – يكون ألطف أمل للإنسان وأحبه وأحلاه، وكما أن مسألة الدعوة للحياة الدنيا لا تعود إلينا، كذلك ليس من حقنا الرغبة في الموت وتمنيه وطلبه، ولكن عندما يدعونا الله تعالى نسارع إليه بكل حب وشوق، ولكن إن قال: “رويدكم!.. ابقوا قليلاً” فلا يسعنا سوى الصبر المرير انتظارًا ليوم الوصال واللقاء”.
إن الذين لا يفهمون حقيقة الموت تراهم دائمًا في حالة هلع وخوف، وكأنه نوع من العدم والفناء والتفتت والتحول إلى تراب، هؤلاء الناس في حاجة إلى من يعرفهم بحقيقة الموت وما بعده. الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي رشحه الله عز وجل ليعيش الحياة الأبدية التي أعدها الله لعباده المؤمنين بنعيم يفوق كل تصورات العقل، ففي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعددت لعبادي الصالحين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر” (رواه البخاري).
إن مزاولة الحياة الأبدية بالموت أمر لا مفر منه؛ حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش هذه الحياة بكل مشاعرها الإيمانية، ويخبر بها، فكان كلما مر على أهل البقيع يلقي عليهم السلام، ففي الحديث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: “السلام عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا”، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: “أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد”. فقالوا: تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: “أرأيتم لو أن رجلاً له خيلٌ غرٌ محجَّلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟” قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “فإنهم يأتون غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم! فيقال: قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا” (رواه مسلم).
إن القبر بهذا المعنى لا يعد بئرًا مظلمًا، ولا حفرة موحشة محاطة بالعدم والفناء، وإنما انتقال من حياة إلى حياة، كمن أدى الخدمة العسكرية، وسمح له بعدها بالتسريح، وهو في غاية الرضا والسعادة لأدائه الواجب الوطني، كذلك أهل الإيمان يجاهدون أنفسهم ليلبوا نداء ربهم في أداء التكاليف التي كلفوا بها في محبة ورضا، ففي الحديث، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه” (رواه البخاري).
إن الموت لا يعد خوفًا ولا فزعًا ما عرف الإنسان حقيقته، فالله الذي خلقنا لم يجعل وجودنا في الحياة الدنيا عبثًا، وإنما لغاية يلقى فيها الإنسان جزاء أعماله التي عملها في الدنيا، فإن كانت صالحة فرح بلقاء الله، وإن كانت غير ذلك خاف فلا يؤمَن إلا نفسه. إن الصانع لا يحب لصنعته أدنى ضرر، فقد صنع لها كتالوجًا يحقق حمايتها وأمنها، وهو بهذا المعنى يحب صنعته، والموت لا يعد مناقضًا لقانون الصيانة، ولا فناء لها، وإنما هي فترة تقضيها الصنعة في الحياة الدنيا حتى تنتهي، ليقبل على نعيم أبدي، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾(الإنشقاق:6).
إن الروح التي لا تفنى بفناء الجسد لا يمكنها أن تشبع من النعيم الزائل والمتاع الفاني؛ لأنها تعلم أن مستقرها ليس في الدنيا، وإنما في دار باقية تجد فيها النعيم الأبدي الذي لا يفنى ولا يزول؛ لذا فهي محبوسة في قفص الجسد، فمهما تنعمت وترفهت، فلن تشبع إلا إذا خرجت من قفص الجسد؛ لتعاين النعيم المقيم، ولا يكون ذلك إلا بالموت الذي يعد غاية لعباده المؤمنين، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءًۢ بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ﴾(السجدة: 17).
إذا كان الموت يمثل قلقًا وإزعاجًا لأهل الجنة، وراحة لأهل النار، فلا قلق ولا فوات للنعيم لأهل الجنة، ولا راحة لأهل النار، ففي الحديث، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادى منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟، فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: وهل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}[مريم: 39]، وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[مريم: 39]” (رواه البخاري).
إن الذين يفهمون حقيقة الموت لا يخافون ولا يحزنون، ما دام أنه غاية لقاء الحبيب بحبيبه. إن الموت هو انتقال لحياة باقية في مقابل حياة فانية، ونعيم سرمدي باقٍ لا يفنى ولا يزول، في مقابل نعيم زائل، حتى قال الله لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى﴾(الضحى: 4).
إذا فهمنا حقيقة الموت، أدركنا أنه جسر موصل للقاء الحبيب بحبيبه، ومن ثم لا نجد الألم الشديد الذي قد يصل إلى حالة من الجزع والسخط؛ فالذين يتألمون كثيرًا عند الموت لم يدركوا حقيقته، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمنا كيف نواجه ألم الفراق بالصبر والرضا، ففي الحديث، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فقبَّله، وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: “يا ابن عوف إنها رحمةٌ”، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون” (رواه البخاري).
إن البذرة الأولى للحياة الآخرة هي هذه الدنيا التي نعيشها بالأعمال الصالحة التي نتقرب بها إلى الله عز وجل؛ حتى ننعم بالحياة الأبدية، ولا يمكننا أن نصل لهذا النعيم السرمدي إلا بالموت، الذي يعد قنطرة نعبر عليها لكي نعيش هذه الحياة الطيبة. ويذكر الأستاذ فتح الله كولن مبينًا أن الموت كالبذرة التي بُذرت في الأرض للحياة الباقية بنعيمها الذي لا يفنى ولا يزول: “والحقيقة أن المؤمن ينظر إلى الموت والدفن في القبر نظرته إلى بذرة بُذرت في الأرض؛ لتتحول إلى سنبلة، أو إلى حيمن يُنفع؛ لكي يتحول إلى إنسانٍ كامل”.
إن القبر لا يعد إلا جدارًا فاصلاً بين هذا النعيم وبين الخروج من الحياة الدنيا، وقد أخبر القرآن الكريم عن جانب من هذا النعيم السرمدي، قال الله عز وجل: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الواقعة: 17-24).
ويذكر الأستاذ محمد فتح الله كولن أن الموت يعد فرحًا وسرورًا؛ لأنه يعد خروجًا من سجن القفص الجسدي إلى رحاب جنات واسعة: “فإذا كان هذا هو الوجه الحقيقي للموت، فحري بنا – حتى من الناحية المادية والجسدية – ألا نبكي ونحزن، بل نفرح للموت الذي يعد تمزيقًا لهذا القفص الجسدي؛ وتحريرًا لنا من سجن ضيق إلى جنات واسعة وبساتين خضراء شاسعة”.
إن من يفهم حقيقة الموت لا يجزع من وجوده؛ فهو خلق كالحياة، فإذا كان شعورنا بمولود جديد للدنيا يمثل فرحًا؛ فإن هذا الميلاد إن كان ينتهي بانقضاء الأجل، فلماذا هذه الفرحة المؤقتة القصيرة لدنيا فانية زائلة؟ إننا نفرح بميلاد جديد في الدنيا؛ لأن هذا الميلاد سينتقل من دار فانية بأعمال صالحة إلى دار باقية، ولا يمكنه أن يحمل هذه الأعمال الصالحة إلى الله عز وجل إلا بجسر يعبر عليه، وهو الموت. فإذا كان الموت يعد جسرًا موصلاً إلى النعيم المقيم، فإن الموت يجعلنا لا نبكي كثيرًا إلا بكاء الفراق وحسن العشرة. وهذا المعنى الروحاني العظيم في الحديث عن الموت، تحدث عنه المفكر الكبير المرحوم محمد فتح الله كولن، عليه من الله سحائب الرحمات والرضوان.
المراجع:
– مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد بن المفضل”، ص (603، 604).
– ترانيم روح وأشجان قلب ، الأستاذ محمد فتح الله كولن ، دار النيل للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة 2010 – 1431ه، (ص 144).