كثير منا يظن أن الكلمات وحدها هي التي تُظهر نقاط قوته، وتحدد معالم شخصيته، ولا ندرك أن هناك مهارة أكثر سحرًا وتأثيرًا اسمها “الصمت”!

إن الصمت فضيلة، وله في النفوس رهبة وإجلال، وإن المرء الذي يؤدّب لسانه كي لا ينطلق مثرثرًا، ويلجمه بحنكة وذكاء؛ لهو امرؤ قد فعل الكثير في سبيل امتلاكه القوة. فكم من كلمة ألقاها صاحبها في غفلة من عقله، ذهبت بماله أو سمعته، وربما برأسه بعيدًا!

يُحكى أن لويس الرابع عشر حينما كان شابًّا يافعًا، كان يتباهى بقدرته على الحديث والكلام والجدال؛ لكنه حينما تولى مقاليد الحكم، صار أقل كلامًا؛ بل لقد كان صمته أحد أهم أسلحته، ومنبعًا من منابع قوّته.

في كتابه “كيف تمتلك مقاليد القوة”، يؤكد روبرت جرين أن البشر آلات تفسير وتوضيح، ولديهم شعور قوي بحتمية معرفة ما تفكر به، وأنه كلما كانت كلماتك قليلة ومركزة؛ فإنك سوف تغلق من أمامهم أبوابًا كثيرة للتفسير والتحليل، وستجعلهم يتهيّبونك بشكل كبير.

ويخبر الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه بأن أخطر الأشياء التي تُلقي بالناس في سعير جهنم هو ما يخرجه المرء من بين شفتيه، ويجري به لسانه… ما أريد أن أخبرك به هو أن تحاول بشتى الطرق أن تسيطر على كلماتك، وألا تثرثر بشيء ليس ذا قيمة أو لا تعرف أبعاده.

يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “تكلموا تُعرفوا؛ فإن المرء مخبوءٌ تحت لسانه؛ فإذا تكلّم ظهر”؛ ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إن الرجل يظلّ كبيرًا في عيني حتى إذا تكلم ظهرت حقيقته”. فإذا ما استطعنا السيطرة على اللسان، والتحكّم فيما يخرج منه، وإغلاقه تمامًا إذا ما تشكّكنا فيما قد يأتي به من نتائج، سنكون قد فعلنا الشيء الكثير. فمعالم شخصية المرء منا تتشكل في ذهن الآخر حسب ما يسمعه من كلامنا؛ وذلك لأن كلامك بطبيعة الحال هو تعبير عما يجول بنفسك.

فوائد الصمت

هناك أوقات يكون فيها الصمت هو الخيار المثالي، وإطباق الفم هو الحل الأمثل. فالصمت:

– يمنحك طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يحصل حولك والتركيز بعقلانية على إجابتك.

– يجعلك تسيطر على من أمامك من خلال نظرات محمّلة بمعانٍ غير منطوقة تجعلهم حائرين في تفسيرها.

– الصمت المصحوب ببعض الحركات والإيماءات يُرغم من أمامك على البوح بما داخله، فيقول أكثر مما يريد فعلاً.

– الصمت يدمّر أسلحة من تتشاجر معهم، ويُجردهم من القدرة على مواصلة الكلام.

– الصمت يعلمك حسن الاستماع الذي يفتقده الكثيرون.

– الصمت عبادة من غير عناء، وزينة من غير حلي، وهيبة من غير سلطان، وحصن من غير حائط، واستغناء عن الاعتذار لأحد، وراحة للكرام الكاتبين، وستر لعيوب فيك كثيرة.

– تقول حكمة العرب: “لا تجادل الأحمق فيخطئ الناس في التفريق بينكما”؛ حينما يتجه النقاش إلى وضع ساخر متهكم؛ فإن عدم التمادي والوقوف هو أفضل ما يمكنك فعله، لا ترد السخرية بسخرية مماثلة، أو التهكم باستهزاء، ولكن استدعِ قوة حلمك وصمتك، وفكر فيما يقال، وفيما ستجنيه من السكوت عن الرد والتمادي في هذا الحديث.

فحاول عزيزي القارئ إتقان الصمت، ولن تفشل أبدًا في تحقيق ما تريد في أي وقت وفي أي موقف، فالصمت.. معنى غامض.. وبحر عميق.

قال حكيم: “كن صامتًا تكن آمنًا، فالصمت لا يخون أبدًا… الصمت سلامة من كل مكروه، ولا يأتي بشر أبدًا”.

الصمت شعرًا

قال الإمام الشافعي رحمه الله في الصمت:

قالوا اسكت وقد خُوصِمْتُ قلتُ لهم إنَّ الـجوابَ لِبابِ الشـرِّ مفتـاحُ
والصَّمْتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ وفيه أيضًا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتةٌ؟ والكلبُ يخسأُ لعمري وهـو نبَّاح

وقال لقمان:

الصمت زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مهذارا
ما إن ندمت على سكوتي مرة لكن ندمت على الكلام مرارا

الصمت من ذهب… فاقتنيه

غلب على الرجال عادة الصمت، وذلك لانشغالهم الدائم، فإما يفكرون أو يتذكرون أو يخططون. أما النساء فيعشقن كثرة الكلام، ومن الكلام يخلقن كلامًا. قال أحد الحكماء: “لو علمت المرأة أن الصمت يزيدها جمالاً لصمتت طيلة حياتها”. ولو أدركت كم تزداد قيمتها وتتسع حالة الغموض حولها، مما يجعل كل من يتعامل معها يزداد شوقًا لمعرفة ما يخفيه ثوب الصمت الذي ترتديه، لجعلته أسلوب حياة تتعامل به في كل تصرفاتها وتعاملاتها مع الآخرين، ولأحرزت به نجاحًا باهرًا.

لقمان الحكيم والصمت

كان لقمان أسطورة في العقل والحكمة، يحفظ له التاريخ ذكره، وله حكم ووصايا عديدة يوصي بها ابنه، وفي مجموع وصاياه النيّرة وتوجيهاته الخيّرة، لا ينسى أن يبين قيمة الصمت، ولا يفوّت عليه أن يوصي ابنه بحفظ لسانه، والكفّ عن السرف في بيانه؛ فإنه مجلبة للنفع والمسرة، ومدفعة عن الشر والمضرة، فيقول لولده:

* “يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم؛ فافتخر أنت بحسن صمتك”.

* “يا بني ما ندمت على الصمت قط، وإن كان الكلام من فضة، كان السكوت من ذهب”.

* “يا بني إنه من يرحم يُرحم، ومن يصمت يسلم، ومن يفعل الخير يغنم، ومن لا يملك لسانه يندم”.

* “يا بني، ألا إن يد الله على أفواه الحكماء، لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له”.

* “يا بني إذا كنت في الصلاة فاحفظ قلبك، وإن كنت على الطعام فاحفظ حلقك، وإن كنت في بيت الغير فاحفظ بصرك، وإن كنت بين الناس فاحفظ لسانك”.

أروع ما قيل في الصمت

  • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت”. حديث صحيح رواه البخاري ومسلم.
  • وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “إذا تم العقل نقص الكلام”، وقال أيضًا: “بكثرة الصمت تكون الهيبة”.
  • وقال عمرو بن العاص: “الكلام كالدواء، إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل”.
  • وقال وهب بن منبه: “بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت، والعاشر في عزلة الناس”.
  • وقال الإمام الشافعي: “إذا أراد أحدكم الكلام، فعليه أن يفكر في كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شكّ لم يتكلم حتى تظهر”.
  • سأل رجلٌ حكيمًا قائلاً: “متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام. فقال له: متى أتكلم؟ قال له: إذا اشتهيت الصمت”.
  • وقال بعض الحكماء: “الصمت فن لا يتقنه الكثيرون، ولكن يتقنه من يفهم لغته، فإذا تكلم الإنسان بالكلمة ملكته، وإذا لم يتكلم بها ملكها”.
  • الصمت لغة العظماء.
  • خير الكلام ما قل ودل، وربّ سكوت أبلغ من كلام.
  • خلق الله لنا أذنين ولسانًا واحدًا لكي نسمع أكثر مما نتكلم.
  • الإنسان الناجح هو الذي يغلق فمه قبل أن يغلق الناس آذانهم، ويفتح أذنيه قبل أن يفتح الناس أفواههم.
  • العاقل من يعرف متى يتكلم ومتى يصمت.
  • هناك كلام لا يقول شيئًا، وهناك صمت يقول كل شيء.
  • أنت على رد ما لم تقل أقدر منك على رد ما قلت.
  • الندم على السكوت خير من الندم على القول.

هل الصمت حكمة دائمًا؟

ختامًا أقول: قد يكون الصمت في أحيان كثيرة أفضل جواب وأحسن رد فعل، بل أحيانًا يكون حلًّا مريحًا، وأنجع طريقة لتفادي نقاش لا جدوى منه. فما أجمل الصمت، إلا أن يكون عن الحق. وأعتقد جزمًا أن السكوت ليس في كل الحالات علامة الرضا كما يُشاع، فهناك أوقات يكون فيها الصمت مذمومًا لا شك في ذلك؛ فهل من الحكمة مثلاً أن نصمت حينما يتطلب الأمر تقديم شكر أو مواساة؟… هل من اللائق السكوت وعدم التعبير عن مشاعر الحب والتقدير والامتنان؟… هل يصح الصمت عند مواجهة اتهام يحتاج إلى إبراز حجة، وتفنيد مزاعم؟

بالطبع لا… إننا نتكلم إذا ما أخبرنا العقل أن الكلام مرجوّ هاهنا، ونصمت إذا ما تطلّب الأمر الاحتماء خلف ابتسامة دافئة مبهمة.

الصمت ليس محمودًا على الإطلاق، والكلام أيضًا، بل يبقى لكل مقام مقال، ولكل حالة لباسها، ولو كان الصمت فضيلة بإطلاق، لماتت النصائح الصادقة، وغاب التوجيه السديد، وفقدنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ميّز هذه الأمة، وقامت عليه خيريتها. لكن تعيش الكلمة الصادقة، ويُخلّد صاحبها، وتبقى في وجدان الناس، وتسكن ذاكرة قلوبهم.

قال صلى الله عليه وسلم: “رحم الله امرأً تكلم فغنم، أو سكت فسلم”. صحيح الجامع.

نفهم من ذلك أن قول الخير خير من السكوت، لأن قول الخير ينتفع به من يسمعه، أما الصمت فلا يتعدى صاحبه.