التأصيل الدعوي لقضية جبر النوافل للفرائض

من القضايا الدعوية المهمة التي نحتاج إليها في خطابنا الديني المعاصر، قضية جبر النوافل المسنونة لما نقص من الفرائض الواجبة، وضرورة التأصيل الشرعي لها في ضوء الكتاب والسنَّة وإجماع الأمة، وتطبيقاتها الشرعية على التكاليف الإلهية للأمة المحمدية عامة، وعلى صيام الستة أيام من شوال خاصة. ومن هنا، يأتي هذا المقال لمعالجة هذه القضية المُلحة تأصيلاً دعويًّا وتطبيقًا عمليًّا.

١- التأصيل الدعوي لقضية جبر النوافل للفرائض

من فضل الله تعالى على عباده المؤمنين، أنه يجبُر الخللَ الذي وقعوا فيه أثناء أداء الفرائض التي أوجبها عليهم، بما يقومون به من النوافل المشروعة؛ مما يزيدُ المسلمَ رغبةً في فضل الله تعالى، وطمعًا في رحمته، فيُقبل على نوافل العبادات ويكثر منها، ليجبُر ما وقع فيه من خلل، ويعوض ما فاته من نقص، ليلقى الله طاهرًا من الذنوب والخطايا، فيفوز برضوانه وجنته في الآخرة.
وقضية جبر النوافل والفضائل للفرائض دل عليها القرآن الكريم،والسنة النبوية وإجماع الأمة. وكم من الآيات القرآنية التي تؤكد هذه القضية وتؤصلها، قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)(آل عمران:195)، (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(هود:114)، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)(الزلزلة:7)، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)(الأنبياء:47)، (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ)(القارعة:6-9). هذه بعض النصوص القرآنية التي تُقرر هذه القضية وتؤصلها تأصيلاً شرعيًّا.
كما تؤكد السنة النبوية المطهرة هذه القاعدة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أول ما يحاسَب به العبدُ يومَ القيامة مِن عمله صلاتُه، فإنْ صلحَتْ فقدْ أفلح وأنجَح، وإنْ فسَدتْ فقدْ خابَ وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء، قال الربُّ عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوُّعٍ فَيُكمَّلَ بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك” (رواه الترمذي).
وفي ضوء هذه النصوص الشرعية التي أكدت على قضية “جبر النوافل للفرائض”، أجمعت الأمة كما يقول ابن حزم في المحلى: “على أن للتطوع جزءًا من الخير اللهُ أعلمُ بقدْرِه، وللفريضة أيضًا جزء من الخير اللهُ أعلمُ بقدْرِه، فلا بد من أنْ يجتمع من جزء التطوع إذا كثُر ما يوازي جزء الفريضة، ويزيد عليه”. وهذا الإجماع له اعتباره الشرعي في التأصيل لقضية جبر النوافل للفرائض، وضرورة تطبيق هذه القاعدة في الواقع العملي للمسلمين في واقعنا المعاصر.

2- التطبيقات الشرعية لقاعدة “جبر النوافل للفرائض”

إن قاعدة “جبر النوافل والفضائل للفرائض” من القواعد المُسلَّم بها شرعًا، وهي تُطبق في الميزان الإلهي على جميع الأعمال المفروضة على المسلمين.
وفي ضوئها، قرر العلماء أن الحديث السابق “إن أول ما يحاسَب به العبدُ يومَ القيامة مِن عمله صلاتُه، فإنْ صلحَتْ فقدْ أفلح وأنجَح، وإنْ فسَدتْ فقدْ خابَ وخسر” معناه أن أول ما يُحاسب عليه العبد من حقوق الله تعالى يوم القيامة من الفرائض هي الصلاة، وذلك قبل حقوق العباد، فإذا صلحت الصلاة، أي كانت صحيحة وكاملة في الأداء والأركان والهيئات، “فقد أفلح العبد” أي فاز، “وأنجح” أي حصل على المراد والمطلوب، “وإن فسدت” بأن أُديت غير صحيحة أو غير مكتملة أو ضيعها بعدم أدائها، “فقد خاب” بحرمان الأجر والثواب، “وخسر” بوقوع العقوبة عليه واستحقاقه للعتاب واللوم.
وتأتي قاعدة “جبر النوافل للفرائض” لتُطبق على جميع الفرائض والنوافل، لقوله: “فإن انتقص من فريضته شيء، قال الربُّ عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوُّعٍ فَيُكمَّلَ بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك”.
ومعنى هذه القاعدة المباركة أنه لو طبقناها على أهم فريضة في الإسلام وهي الصلاة، فمعنى قوله “فإنْ انتقص من فريضته شيء”، يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعة فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وأنه يحصُل له ثواب ذلك في الفريضة، وإن لم يفعله فيها وإنما فعله في التطوع. ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضًا من فروضها وشروطها، أو ما ترك من الفرائض رأسًا فلم يصلّه، فيعوَّض عنه من التطوع، وأنَّ الله سبحانه يقبل من التطوعات الصحيحة عِوضًا عن الصلوات المفروضة.
وقاعدة “جبر النوافل للفرائض” قاعدة عامة، وبعد هذه المحاسبة على الصلاة تأتي المحاسبة على سائر الأعمال وفقًا للقاعدة السابقة: “ثم يكون سائر عمله على ذلك”، أي إن الأعمال الأخرى ستُعامل بنفس المبدأ، فمن كان عليه حقٌّ لأحد يؤخَذ من أعماله الصالحة بقدر ذلك الحق، ويدفع إلى صاحب الحق.
وبهذا، فإن تطبيق قاعدة جبر النوافل لنقص الفرائض يُعد منهجًا إيمانيًّا يُعين المسلم على استدراك ما قصر فيه، ليكون في ميزان حسناته يوم القيامة.

٣- تطبيق قاعدة “جبر النوافل للفرائض” على صيام الست من شوال

يمكننا تطبيق هذه القاعدة على صيام الستة أيام من شوال مع بيان الحكمة الإلهية والمقاصد الشرعية في النقاط التالية:
التطبيقات الشرعية:
تُطبق قاعدة “جبر النوافل للفرائض” على صيام الستة أيام من شوال، حيث يجبر صيامها، أي نقص وقع في صيام رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن صام رمضانَ ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر” (رواه مسلم).
أ- صيام الست من شوال: صيام رمضان يُعادل أجر صيام عشرة أشهر، وصيام ستة أيام يُعادل شهرين، فبذلك يكون المسلم كأنه صام الدهر كله. كما أن صيامها يعوض أي خلل أو نقص أو تجاوز وقع في صيام رمضان، وهذا يُشبه السنن الرواتب التي تجبر النقص في الصلاة.
ب- الأحكام الفقهية المتعلقة بحكم صيام الستة أيام من شوال ووقتها: استدل العلماء بحديث “مَن صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر” على استحباب صيام هذه الستة أيام من شوال، وأنه من السنن المأثورة كرواتب الصلاة، وللمسلم أن يصومها متتابعة بعد عيد الفطر، أو متفرقة حسب طاقته وقدرته، كما يقول ابن قدامة في المُغْني: “فلا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة، في أول الشهر أو في آخره؛ لأن الحديث ورد بها مطلقًا من غير تقييد، ولأن فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يومًا، والحسنة بعشر أمثالها، فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يومًا وهو السنة كلها، فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله، وهذا المعنى يحصل مع التفريق والله أعلم”. فلا تحصل فضيلتها إلا بصومها في شهر شوال على هذا الرأي.
وذهب بعض العلماء، إلى أنه يحصل فضل صوم الستة أيام إن صامها المسلم في غير شهر شوال، يقول العدوي في حاشيته على شرح مختصر خليل للعلامة الخراشي المالكي: “وإنما قال الشارع (من شوال) للتخفيف، باعتبار الصوم، لا تخصيص حكمها بذلك الوقت، فلا جرم أن فعلها في عشر ذي الحجة مع ما رُوي في فضل الصيام فيه أحسن؛ لحصول المقصود مع حيازة فضل الأيام المذكورة، بل فعلها في ذي القعدة حسن أيضًا، والحاصل أن كل ما بَعُد زمنه كَثُر ثوابه لشدة المشقة”. وعلى هذا، لو صامها المسلم في غير شوال، لحصل له فضل صيامها كمن صامها في شوال.
ويرى بعض الفقهاء أن من صامها في غير شوال أجزأه ذلك، وإن كان أقل رتبة في الفضل ممن صامها في شهر شوال، كما يقول العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي: “وحاصله أن من صامها مع رمضان كل سنة، تكون كصيام الدهر فرضًا بلا مضاعفة، ومن صام ستة غيرها، كذلك تكون كصيامه نفلاً بلا مضاعفة”. وعلى هذا، يُسنّ للمسلم والمسلمة أن يصومها في شوال إن تمكن من صيامها، وفي غيره من الشهور إن دعت الضرورة والحاجة لذلك كعذر ونحوه، إعمالاً لمقاصد الشرع الحنيف في تحصيل الأجر والثواب للمكلفين. ويؤيد هذا الفهم أن “مِنْ” في الحديث تبعيضية، وعليه تكون الأيام الستة بعض شهر شوال، وإذا اعتبرنا أن “من” لابتداء الغاية، فيكون الصيام للستة أيام من شوال ابتداءً من شهر شوال لأنه أول أشهر الفطر، وغيره من الشهور. ويؤيد هذا المعنى ويقويه ما جاء في بعض الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مَن صام ستة أيامٍ بعد الفِطْر كان تمامَ السنة، مَن جاء بالحسنة فله عشْرُ أمثالها” (رواه ابن ماجه)، فعدم تقييد الستة أيام بشهر شوال يشهد للمعنى السابق.
جـ- الدلالات الإيمانية والمقاصد الشرعية من صيام الستة أيام من شوال: من أهم الدلالات الإيمانية والمقاصد الشرعية من صيام الستة أيام من شوال ما يلي:
• إن مواصلة الصيام بعد رمضان من علامات قبول صيام رمضان، فمن علامة قبول الطاعة أن يُوفق المسلم إلى طاعة بعدها، فإن الله إذا تقبل عمل عبد وفقه لعمل صالح بعده، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بعدها بحسنة، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى. فمن علامات قبول صيام رمضان، أن يعود المسلم للصيام بصيام الستة أيام من شوال.
• إن صيام ستة أيام من شوال، من علامات شكر المسلم لله تعالى على عظيم فضله بمغفرة الذنب والعتق من النيران بصيام رمضان، وقد أرشد الله لذلك في ختام آيات الصوم بقوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(البقرة:185)، فتكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرًا لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، ومن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان وإعانته عليه ومغفرة ذنوبه، أن يصوم له شكرًا عقب ذلك بصيام الستة أيام من شوال.
• إن في العودة للصيام في شوال، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ديمومة الأعمال الصالحة من نوافل الأعمال وفضائلها، فقد كان عمله صلى الله عليه وسلم دِيمَةً لا ينقطع؛ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: “أَدْوَمها وإنْ قَلَّ”، وقال “اكْلَفُوا من الأعمال ما تُطيقون” (رواه البخاري). فكان يداوم على الصيام والقيام والصدقة بعد رمضان، فعلى المسلم أن يقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم.
• إن المحافظة على نوافل العبادات من الصيام والصلاة وغيرها، تجعل المسلم ربانيًّا. فقد قيل للإمام بشر الحافي: “إن قومًا يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقط! فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقًّا إلا في شهر رمضان، إن الصالح، الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها”. وسئل الإمام الشبلي: “أيهما أفضل، رجب أم شعبان؟ فقال: كن ربانيًّا، ولا تكن شعبانيًّا”.
• وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عمله دِيمَةً، فقد سُئِلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كيف كان عملُ النبي صلى الله عليه وسلم، هل كان يخصُّ شيئًا من الأيام؟ قالت: “لا، كان عمله دِيمَةً”، أي إنه كان لا يخص شيئًا من الأيام دائمًا ولا راتبًا، وأصل الدِّيمَة المطر الدائم مع سكون، فشبّهت عائشة رضي الله عنها عمله صلى الله عليه وسلم في دوامه مع الاقتصاد وترك الغلو بدِيمَة المطر.
• وفي البخاري، سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: “ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشْرةَ ركعةً”، مما يدل على مشروعية وفضل المداومة على الأعمال الصالحة واستمراريتها، وعدم ارتباطها بزمان معين.
• فعمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله، فالله تعالى لم يجعل للأعمال الصالحة أجلاً دون الموت، عملاً بقوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(الحجر:99).
فينبغي على المسلمين أن يأخذوا الدرس من مدرسة الصيام، والتي تدربوا فيها على الأعمال الصالحة، وذلك بالمداومة على الأعمال الصالحة من الصيام والقيام وقراءة القرآن والذكر والدعاء وفضائل الأعمال، آملين من الله تعالى أن يجبر ما وقعوا فيه من نقص، وأن يعفو عما وقعوا فيه من تقصير، سائلين الله سبحانه القبول، والعفو في الدنيا والآخرة.

(*) رئيس قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر، القاهرة / مصر.