جدوى الغذاء في النمو والذكاء

الغذاء حاجة أولية وضرورة حياتية، وخصيصة أساسية من الخصائص التي تميز الكائنات الحية عما عداها من كائنات غير حية. هذا، فضلاً عما للغذاء من وظائف، قد تتعاظم في فترات نمو الكائنات الحية، إلا أن هذه الكائنات لا تستطيع أن تستغني عنه في أيّ مرحلة من مراحل حياتها وفترة عمرها، ونظرًا لوظائفه الكثيرة ترتبط به حياة الكائنات الحية، ومنها الإنسان.

النمو من أهم وظائف الغذاء

من الوظائف العامة للغذاء، إمداد الجسم بالمواد الخام البنائية التي يستطيع أن يوظفها -خاصة في مراحل النمو- لاستكمال مقومات الجسم البنائية، وبذلك يستطيع الكائن أن يتخطى هذه المراحل بنجاح مرحلة تلو أخرى. بيد أن معظم الكائنات البشرية يقف نموها (الظاهر) عندما يصل عمر الفرد منها إلى 21 عامًا تقريبًا. ولكن هل يعني ذلك توقف كل عمليات النمو؟ والإجابة بالقطع هي النفي. فالذي يتوقف فقط، هو النمو الظاهري إلى الحجم الأكبر الذي يبلغه الفرد. ولكن النمو لا يزال يسير في اتجاه آخر، حيث إن الكائنات الحية تقوم تحت جميع الظروف الحياتية، بإحلال وتجديد الخلايا والمواد التي تحتويها باستمرار.
والحياة عبارة عن نشاط وتفاعل وحركة، وطالما ظل الكائن على قيد الحياة، فإنه ينمو إما بزيادة حجمه (في مرحلة النمو) أو بإحلال مواد جديدة محل أخرى متهالكة طوال فترة حياته، وعندما تقصر قدرة الكائن دون هذا النشاط، فإن حياته تتلاشى رويدًا رويدًا إلى أن تنتهي بالموت.
وجدير بالذكر أن لجميع أنواع الكائنات فترات حياة محددة تسمى بـ”فترة العمر” (Life Span). فالفأر يعيش حوالي 12-16 شهرًا، والجرذ والقنفذ فترة عمرهما تقريبًا 3 سنوات، والنمر حوالي 14 سنة، والفيل حوالي 55 سنة، والإنسان حوالي 72 سنة.. وتخضع هذه المدة لدى الإنسان، لمجموعة من الاعتبارات والعوامل المعيشية كالحالة الغذائية، والظروف البيئية، والحالة الصحية، وغير ذلك من عوامل واعتبارات.
هذا وتنقسم فترة العمر إلى خمس مراحل: مرحلة البداية (التكوين)، ومرحلة النمو، ومرحلة النضج، ومرحلة التنكس أو الأفول، وأخيرًا مرحلة النهاية أو الموت.
بعد اكتمال تكوين الكائن الحي في المرحلة الجنينية، يمر بمرحلة النمو السريع، التي قد تستمر من عدة دقائق أو عدة أسابيع أو عدة أشهر إلى عدة سنوات (كما هو الحال لدى الإنسان)، اعتمادًا على نوع الكائن الحي.
وكلما تقدم الكائن في حجمه قلَّ معدل نموه، وفي النهاية يصل الكائن إلى مرحلة عندها لا يستطيع أن يُصلح أو يَستبدل ما تهالك من أجزاء جسمه أو مواده، وهنا يكون موت الكائن الحي، وهي علامات مرحلة التنكس والأفول والذبول، التي تنتهي عادة بالموت.

الغذاء هو مصدر الطاقة

لا بد لجميع الكائنات الحية من أن تستخدم الطاقة لاستمرارية حياتها. فالطاقة ضرورية ولازمة من أجل أن تتم الأنشطة الكيميائية، ذلك أن الحياة نفسها ما هي إلا حالة من النشاط أو التفاعل الكيميائي الدائم، وعلى ذلك فإنها بحاجة دائمة إلى الإمداد الطاقي.
وجدير بالذكر أن جميع صور الطاقة الخاصة بالحياة، هي في التحليل النهائي مشتقة من الطاقة الشمسية، ويتم تخزينها على هيئة مواد كيميائية مُعقدة في المواد الغذائية المختلفة. ثم تقوم الكائنات الحية بتحرير الطاقة المختزنة بالأغذية وذلك بأكسدتها، وإطلاق هذه الطاقة التي تقوم بدورها في تدعيم جميع عمليات الحياة.

الغذاء والأمراض

ومن الوظائف الهامة للغذاء، المحافظة على الجسم من الأمراض المختلفة، إذ يحتوي الغذاء على بعض العوامل كالفيتامينات والأملاح المعدنية، التي تعمل على إبقاء الجسم سليمًا معافى، وربما ينعكس نقص هذه العوامل الغذائية الهامة على شكل أمراض مختلفة. على سبيل المثال، فإن نقص عنصر الحديد يؤدي إلى نوع من الأنيميا (أنيميا نقص الحديد)، ونقص عنصر الكالسيوم يؤدي إلى ترقق وهشاشة العظام، لا سيما حينما يواكب ذلك نقص في فيتامين (د). أما نقص عنصر السيلينيوم فينجم عنه مظاهر مرضية مختلفة، منها نقص مناعة الجسم تجاه مسببات الأمراض، أما نقص الفيتامينات فينجم عنه مجموعة من الأمراض التي تختلف حسب نوع الفيتامين الذي يحدث فيه النقص. ولأهمية الغذاء في أداء هذه الوظائف المختلفة، والمحافظة على خلايا وأعضاء وأجهزة الإنسان من الأمراض المختلفة، يحثنا ربنا عز وجل على تناول الغذاء بقوله: (كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا)(البقرة:168).
وعلى الجانب الآخر، فإن الإسراف في تناول الطعام، أو بعض أنواع معينة منه، يسبب أمراضًا معينة تُعرف بأمراض التغذية، ولا شك أن الوسطية والاعتدال اللذين هما من سمات الإسلام، حينما يطبقان في مجال الغذاء والتغذية، يكفلان الوقاية من مثل هذه الأمراض كالسمنة، وارتفاع ضغط الدم، وتصلب الشرايين، وأمراض القلب والجهاز الوعائي، وأمراض المفاصل، والتأثيرات السلبية على الهيكل العظمي والجهاز التنفسي، والجهاز الغدّي وخلافه، ولذلك يأمرنا ربنا جل وعلا بقاعدة ذهبية فيقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا)(الأعراف:31).

الغذاء والذكاء

أما علاقة الغذاء بمعدلات الذكاء، فهي علاقة جدُّ وثيقة، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أم بشكل غير مباشر، وسنحاول أن نوضح هذه العلاقة، طبقًا لما توصل إليه العلم الحديث من حقائق في هذا الصدد. فمن النتائج المثيرة -التي ذكرها “إدوين” (Edwin) في كتابه “Feast or Famine” (وليمة أم مجاعة)- لبعض الدراسات العلمية التي أجريت على حيوانات التجارب، أن إناث الجرذان والفئران، التي تعاني من سوء التغذية، فقد حملت نسلاً عاجزًا عن النمو الجسمي، ومتخلفًا من الناحية الذهنية، وشاذًّا من الناحية السلوكية. وقد نقل المؤلف تقريرًا لأحد الباحثين سجَّل فيه: إن هذه الذرية حينما وصلت إلى تمام النمو ثم أُجريت عليها اختبارات المتاهة، فإنها قد خرجت منها بسرعة أقل كثيرًا من الذرية التي خلفتها أمهات تمت تغذيتها تغذية سليمة. كما كان هذا النسل أيضًا عُرْضَة للإصابة بنسبة أكبر بالأمراض، كما اكتسب وزنًا أقل حينما غُذِّيَ بالتغذية ذاتها التي غُذِّيت عليها مجموعة المقارنة، كما بدا -بشكل عام- منخفض المناعة في مواجهتها للظروف الحياتية المتباينة.
أما تقرير النتائج الناجمة عن سوء التغذية فيما يتعلق بمخ الإنسان، فقد كان من الصعب بمكان تحقيقه؛ لأن مثل هذه التجارب لا يمكن تطبيقها على الإنسان بسهولة، كما أن البحوث الاستقصائية يصعب حتى الآن إنجازها. ومع ذلك فقد قام فريق من جامعة “كورنيل”، بفحص أمخاخ تسعة أطفال من “شيلي” ماتوا جميعًا من سوء التغذية، فوجدوا أن جميعهم كان لديهم عدد شبه شاذ أو غير طبيعي من خلايا المخ، كما وجدوا أن ثلاثة أطفال منهم كان عدد خلايا المخ لديهم أقل بنسبة 60٪ مما عند أقرانهم من الأطفال الأسوياء الطبيعيين. ورغم أن فقدان خلايا المخ يمثل خسارة جسمانية غير مرتجعة (دائمة) ولا يمكن تعويضها، فإن صلتها بالذكاء والسلوك لا تزال محل دراسة. أما تكوين الغلاف الدهني “الميليني”، الذي من شأنه حماية محاور الخلايا العصبية -والذي يُقارن دوره بما تقوم به الطبقة البلاستيكية حول سلك معدني من عزلٍ وحماية- فيبدأ تكوينه في الشهر السابع من الحمل، فإذا لحق به ضرر وتلف بسبب سوء التغذية الحاد، فإن احتمال هبوط كفاءة المخ وتأثره سلبيًّا يصبح كبيرًا. وبعد الولادة، يستمر المخ في النمو بسرعة، فيتضاعف وزنه في غضون ستة أشهر، ثم يتضاعف مرة أخرى في الفترة التي يبلغ فيها عمر الطفل أربع سنوات. وعقب ذلك يأخذ المخ في النمو بصورة بطيئة. وحينما يصل العمر إلى 20 عامًا تقريبًا، يكون مخه قد أصبح أكبر مما كان عليه بما يعادل 15٪ فحسب.
وفي أثناء السنوات الأربع الأولى من النمو، يأخذ تطور الجهاز الحسي والإدراكي للطفل في التقدم بشكل أسرع من أي وقت آخر من حياته. وقد ركز على أهمية هذه الفترة كثير من العلماء؛ إذ إن التعلم الإدراكي الذي كان يُعتقد بأنه يكون في مرحلة متأخرة، قد يبدأ من اليوم الأول من حياة الطفل. وقد لوحظ تقدمًا كبيرًا، ليس في جهاز المهارة فقط، وإنما أيضًا في استيعاب اللغة والمعرفة والتجربة، بل وفي تحديد الأهداف، يحدث هذا خلال السنة الثانية من عمر الطفل.
وقد أثبتت الدراسات العلمية حول التغذية وأداء المخ لوظائفه في الإنسان، في بحث على حالات الانحراف، أن الأطفال الذين كانوا يعانون من نقص في البروتين، كانوا أيضًا يعانون من اضطراب في وظائف جزء من المخ يُعرف بالمخيخ، وأن طاقتهم على التحدث بطلاقة أصبحت ضعيفة. وهناك دراسة أخرى أُجريت في جنوب أفريقيا، قارن الباحثون فيها بين 20 حالة من الأطفال السود كانوا في حالة تغذية خطيرة، وتتراوح أعمارهم بين 10 شهور إلى سنتين، وبين مجموعة أخرى حسنة التغذية، ولكنها مشابهة للأولى في السلالة البشرية والجنس والطبقة الاجتماعية الاقتصادية. وبعد إحدى عشرة سنة تبين أن مجموعة الأطفال المصابة بسوء التغذية كانت رؤوسهم صغيرة بدرجة واضحة، وأنهم أقل ذكاءً -عند استخدام مقاييس الذكاء المختلفة- من المجموعة الأخرى.
الخلاصة، يتبين لنا من كل ما تقدم العلاقة القوية بين الغذاء والنمو والذكاء، ولذلك يأمرنا ربنا عز وجل بأن نتغذى من كل ما في الأرض من الحلال الطيب، من نبات وحيوان وطير، حيث يقول جل شأنه: (كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا)(البقرة:168)، والملاحظ هنا أن الخطاب موجه لكل الناس مسلمين وغير مسلمين، فالجميع من خلق الله، والجميع محتاج لهذا الغذاء. أما حينما يخاطب المسلمين فيقول عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)(البقرة:172). ولأهمية الأطعمة البروتينية -من الناحية الغذائية- يأمر الله تعالى مَن لبّوا نداء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام فحجوا البيت وأهدوا، أن يطعموا الفقراء والمعوزين من هدي بهيمة الأنعام، حيث يقول جل شأنه: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)(الحج:28).
وعلى هذا، فإن الاهتمام بتغذية الأمهات -خاصة الحوامل والمرضعات- ضرورة حياتية لإنتاج نسل طبيعي من الناحية الجسمية، سويّ من الناحية العقلية والنفسية. كما أن الاهتمام بالغذاء -كمًّا ونوعًا- مهم أيضًا في كل مراحل العمر، وإنما تتضاعف أهميته في فترة الطفولة، تلك التي تتميز بمعدل نمو عالٍ، وفي فترة الشيخوخة، لتمنح الجسم فرصة هائلة في عملية تعويض ما يتهدم من بنيان الجسم بشكل مناسب، ومعدلٍ أفضل.

(*) أستاذ علم الحيوان، جامعة المنوفية / مصر.