يعد موضوع التربية على التسامح من المواضيع ذات الأهمية الكبرى نظرًا لراهنيته وضرورته، لكنه موضوع صعب. يشير “إيمانويل كانط” إلى اكتشافين إنسانيين يحق للمرء أن يعدهما أصعب الأمور، وهما فن حكم الناس، وفن تربيتهم.
ذلك أن التربية ليست مطابقة للتعليم، فإذا كان مجال هذا الأخير يكتفي بنقل المعلومات والإمداد بالقدرات والمهارات، فإن التربية تهتم بتهذيب السلوك، وكذا تقويم التصرفات وتحسين الأخلاق. لهذا، فالتربية هي جوهر التعليم، وكلما حصل فك الارتباط بينهما، آل الأمر إلى نوع من الاختلال.
وإذا كان الإنسان كائنًا أخلاقيًّا بامتياز، فإن كل تعليم يستبعد التربية، ولا يعتني بالمواصفات التي سيكون عليها سمت وسلوك المتعلمين، إنما يخل بذلك الشرط الجوهري الذي يكمن في الدور القيمي والأخلاقي للتربية.
إن التربية ليست مجرد مواد تدرس أو مضامين تلقن، إنما هي مسار إنساني متكامل تلعب فيه شخصية المعلم القدوة دورًا أساسيًّا. فقد يكون أمرًا يسيرًا أن تدرس الرياضيات أو علم الأحياء، لكن الصعوبة تظهر عندما نحاول أن ننشئ الأجيال على سلوكيات إيجابية متسامحة.
وإن تطور حياة الإنسان عامة، يجعل مفهوم التسامح لا ينحصر في معنى التكرم الذي يُفهم من فعل “سمح”، كما لا يبقى مقيدًا بوقائع وأحداث تميزت بها حقبة تاريخية معينة، في منطقة جغرافية محددة، بقدر ما يشمل المضامين التي لا يمكن القول بأنها جديدة، بقدر ما برزت أكثر واتسع تداولها في العصر الحاضر، والتي تتمثل في ضرورة الاحترام المتبادل والمتكافئ بين الأفراد والجماعات لحقّ كل فرد وكل جماعة في الاختلاف في الآراء والأفكار في مختلف المجالات العقائدية والفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ..إلخ، وضمان حرية التعبير عن هذا الحق من طرف الجميع ولمصلحة الجميع.
التسامح وبناء المجتمع المدني
التسامح صيغة تفاعل، تقتضي طرفين أو عدة أطراف تقوم جميعها بالفعل نفسه، وفي الوقت نفسه. فإذا اقتصر على المفرد، حمل معنيين متضادين، أحدهما هو التسامح الفعلي، والثاني هو التظاهر به وادعاؤه. هذه الدلالات اللغوية جزء من نسيج المصطلح الذي راج في العقدين الماضيين أو العقود الثلاثة الماضية، وأثار جدالات لم تنته بعد، وغدا مرادفًا للاعتراف المتبادل ومشروطًا به.
التسامح من باب الاعتراف المتبادل والتقبل المتبادل، شرط أولي للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي. فلا أحد يقبل أن يكون غير معترف بأهليته وجدارته واستحقاقه الحقوق التي يتمتع بها مواطنوه، ولا أحد يطيق أن يكون غير مقبول من الآخرين، لكن الاعتراف شيء، وتقبل الآخر المختلف -على ما هو عليه وما يمكن أن يكونه- شيء آخر. إذ يمكن أن نعترف بأن للآخر مثل ما لنا من كرامة إنسانية وجدارة واستحقاق، ولكننا نميل -مع ذلك- إلى تجنبه وعدم الرغبة في مشاركته، لأسباب عرقية أو دينية أو مذهبية أو حزبية أو طبقية.
بمعنى أن الاعتراف موقف موضوعي صادر عن أحكام عقلية، أو أحكام واقع، مؤداها الاعتراف بموضوعية الواقع. أما التقبل، فهو موقف ذاتي صادر عن أحكام قيمة سريعة التغير وفقًا لأحوال النفس البشرية وانفعالاتها، وغالبًا ما تصدر عن رؤى ذاتية وأوهام مترسبة في اللاوعي الفردي والجمعي، مؤداها أن اختلاف الآخر يجعله منافسًا أو خصمًا أو عدوًّا، أقل أهلية وجدارة واستحقاقًا. وهذا ما يفسر كثافة العلاقات المتبادلة، القائمة على الاعتراف المتبادل والتقبل المتبادل، بين من تجمعهم عصبة واحدة أو عصبية واحدة، وشحّها أو ندرتها خارج هذين الإطارين.
لكن الاعتراف والتقبل هنا مشروطان بالتزام “مصالح” العصبة أو العصبية وأيديولوجيتها أو تحديداتها الذاتية، وأعرافها وعاداتها وتقاليدها، والاتصاف بالصفات التي تنسبها كل جماعة إلى نفسها، وتنزعها عن الآخرين.
إن تقبل الآخر المختلف على ما هو عليه وما يمكن أن يكونه، قرينة على تقبل الذات وتقبل العالم شرطًا للتأثير فيه والعمل على تحسينه باطراد، فالاغتراب عن العالم هو في الوقت ذاته اغتراب عن الذات.
الإنسان مرآة الإنسان، والآخر هو شرط تشكل الذات وانفتاحها على المحبة والتعاون والتعارف والتشارك الحر في الحياة النوعية، الوطنية والإنسانية، بل الإنسانية أَبدى وأولى بالتقديم. قد نتقبل الآخر على ما هو عليه، من باب الاعتراف بأنويته، أي بمحض وجوده الكياني وكونه (أنا)، لكن من الصعوبة بمكان أن نتقبله على نحو ما يريد أن يكون.
بمعنى أنه من الصعوبة بمكان أن نتقبل ذاتيته (حريته واستقلاله الذاتي)، لأننا نميل دومًا إلى أن يكون الآخر مثلنا، موافقًا لنا ومتفقًا معنا، حتى في الذوق، ناهيك عن الأفكار والتصورات والمعتقدات. أجل، الـ”أنا” هو ما نحن عليه، وما يكون الآخر عليه بوصفه “أنا”، لكن هذه الذات هي ما يمكن أن نكون. إن الصداقات والتوافقات والتحالفات وأشكال التعاون المختلفة، الفردية منها والجمعية، هي -على الأغلب- علاقات بين أنوات، لا بين ذوات حرة ومستقلة.
مما يعني أن التسامح الحق مشروط بالحرية والاستقلال شرطًا لازمًا، حرية الفرد الذاتية واستقلاله الذاتي بالمعنى “الكانطي” للاستقلال الذاتي وحرية الإرادة، وكذا حرية الجماعة واستقلالها الذاتي بالمعنى نفسه، أي تمكن الفرد من “التشريع لنفسه”، وتمكن الجماعة والمؤسسة أو المنظمة من التشريع لنفسها، على النحو الذي يقبل به جميع أفرادها ويحترمونه بالتساوي، أو يتوقع كل منهم أن الآخرين يحترمونه، ومن ثم تمكن المجتمع الكلي من التشريع لنفسه.
بهذا، يمكن أن يكون كل فرد مشروعَ تحقق كياني وشخصية قانونية وأخلاقية وفاعلة اجتماعيًّا أو فاعلاً اجتماعيًّا، وكذلك كل جماعة وكل شعب وكل أمة. لا قيمة للمساواة، ولا معنى لحقوق الإنسان، من دون الحرية الفردية والاستقلال الذاتي، ولا معنى للحقوق المدنية والسياسية إذا لم يكن جميع مواطني الدولة قادرين على ممارستها والتمتع بها.
لهذا، فإن الاعتراف المتبادل وتقبل الآخر، هما ركنا التسامح، ولا يكون من دونهما معًا. بهذين الركنين من أركان التسامح، تنفتح إمكانية “الصداقة المدنية” بمعنى إمكانية المواطنة المتساوية، على قاعدة الحرية الذاتية والاستقلال الذاتي للأفراد والمؤسسات، سواء مؤسسات المجتمع الأهلي الحامل جنينَ المجتمع المدني، أم مؤسسات المجتمع المدني الحديثة.
وهذه الأخيرة -ولا سيما الأحزاب السياسية منها- لا تستحق اسمها ما لم تقطع الحبل السري الذي لا يزال يصلها بالمجتمع التقليدي، حتى لَتبدو كأنها عصبية من عصبياته أو بنية موازية لبناه الاجتماعية والذهنية والثقافية بالمعنى الواسع للثقافة، باعتبارها ممارسة اجتماعية.
ودفعًا لأي التباس، يجب الإشارة إلى أن التسامح لا يعني المسامحة أو التغاضي عن الحقوق المادية والمعنوية، أو التنازل عنها.. لكنه لا يشترط تكافؤ الطرفين أو الأطراف المختلفة، في الأهلية والمكانة أو المنزلة، ما يعني أن التكافؤ في الأهلية شرط أوليّ للتسامح، وإلا غدا التسامح نوعًا من التخلي عن حقوق، أو التغاضي عن التزامات أو واجبات، مما يحيل على العدالة بوجه عام، والعدالة الانتقالية حيثما غدت واجبة، بوجه خاص.
فهل التسامح ممكن اليوم في ظل الأيديولوجيات وغطرسة حامليها؟ ثمة من يصف دولاً بأنها علمانية وحداثية افتراءً على الحداثة وكذا العلمانية، حيث لا يمكن إقناع الإسلاميين بفصل الدين عن الدولة والمدرسة -مثلاً- ولا يجوز إجبارهم على ذلك بأي شكل من أشكال القسر والإرغام، وأي وسيلة من وسائله، فما العمل؟
إذا كان إقناع هؤلاء بذلك أقرب إلى المستحيل، وإجبارهم عليه غير جائز بأي وجه من الوجوه وأي معيار من المعايير الإنسانية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، فلا بد من الاعتراف بحقهم في أن يعتقدوا بما يعدونه عقيدتهم القويمة، والاعتراف -قبل ذلك وبعده- بحقوقهم المدنية والسياسية كاملة غير منقوصة أسوة بغيرهم، وممارسة طقوسهم وشعائرهم بحرية تامة، وحقهم في التعبير بجميع الوسائل المتاحة لغيرهم، كالصحف والمجلات والكتب ومحطات الإذاعة والقنوات الفضائية والاجتماعات العامة.
في هذه الحال فقط، يمكن أن ينزاح كل نقاش من مجال العقيدة إلى مجال السياسة والاجتماع المدني والتنافس الديمقراطي، فتتخلص السياسة من الحمية الأيديولوجية والصخب الدوغمائي، وتنصرف إلى تدبير الشؤون العامة، من دون أن ننفي أن ما يوجه سياسة هذا الاتجاه أو ذاك هو ميزان القوى.
إذا كان الأمر كذلك، فلا سبيل إلى التسامح والسلام الاجتماعي إلا بتدخل المجتمع المدني باعتباره عنصرًا وازنًا، وحاسمًا في ميزان القوى، بحكم طبيعته الديمقراطية وميل مؤسساته إلى الاعتدال وابتغاء الخير العام، وبنائها على مبادئ الاعتراف المتبادل والتقبل المتبادل والاحترام المتبادل، وقيم التعاون والتشارك الحر والعمل التطوعي.
وسطية الإسلام والتسامح
تعد الوسطية في العقيدة الإسلامية بمثابة الميزان الشرعي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. إنها ميزان الشرع في نبذ المبالغة والمغالاة، والنظر في العواقب والمآلات. لأن الدين واسطة بين الغلو والتقصير كما يقول الحسن البصري، أما الشاطبي فيقول: “الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الأوسط، الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد، من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال”.
لهذا، فميزان الشرع هو ميزان المصالح والمفاسد، يضعها في كفتيه، فيرجح الأصلح ويدرأ المفسدة. يقول العلامة ابن القيم في هذا الشأن: “الشريعة مصلحة كلها، وعدل كلها، ورحمة كلها، فما خرج عن المصلحة إلى المفسدة، وعن العدل إلى الجور، وعن الحكمة إلى العبث، وعن الرحمة إلى ضدها، فليس من الشريعة”.
فقد رسَّخ الإسلام المحبة بين الناس، ففي الحديث الشريف: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه البخاري)، ولهذا أقرَّ الإسلام العدل بين الأفراد والأمم، وقرر بذل المعروف، وإطعام الطعام، ودفع جزء من المال لصالح الفقراء، تكريسًا للتكافل والتضامن في المجتمع. لهذا، شرع الإسلام الحوار وسيلة للمناقشة حول مختلف قضايا الاختلاف، حتى مع الاختلاف في الدين.
قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)(العنكبوت:46)، حيث قال بعض العلماء، وعلى رأسهم التلمساني في مفتاح الوصول: إن المعنى “ولا الذين ظلموا منهم كذلك، أي أن هذا الجدال لا يُستثنى منه المنصف ولا الظالم، أي أن الجدل مع الجميع”، فتكون “إلا” هنا بمعنى الواو فاصلة، وهذا أمر معروف في اللغة العربية.
أما ابن بونا، فأشار في الزيادات: وإن تكن إلا بمعنى الواو ***** فاعطف بها في قول كل راو
وهذا التفسير تزكّيه السيرة النبوية الشريفة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاور مشركي قريش، ونهى الإسلام عن المراء وهو الجدال الذي يُقصد به الظهور على الخصم بالباطل. وأقام العلاقة مع المخالف في الدين على المودة والبر، ما لم يعتدِ علينا: (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة:8)، بمعنى أن تعطيهم قسطًا من المال كما يقول ابن العربي المالكي.
خلاصة
إن العالم في حاجة إلى مقاربة ترتكز على الوعي بأن الدين بمثابة الطاقة، يجلب الازدهار والاستقرار. وإن الدين -في الأصل- طاقة سلام ومحبة ووئام. ونحن نعلم يقينًا أن الديانات المنتمية للعائلة الإبراهيمية، وغيرها من الديانات والفلسفات الإنسانية، تحمل نصوصها الكثير من الأسس التي تدعو إلى التعايش، وأن تعاليمها الأساسية حول السلام والتعايش، وحول عالمية الكرامة الإنسانية واحترام الاختلافات الدينية، هي باعتبارها مضادات قوية للتطرف والعنف.
(*) كاتب وباحث مغربي.
المراجع
(1) في تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانويل كانط، ترجمة: عبد الغفار مكاوي، ط1، دار الجمل، ألمانيا، 2003م.
(٢) الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي أبو إسحاق، ج2، دار ابن عفان.
(٣) إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية.