يرى الإسلام أن إطعام الطعام صنيعٌ محبوب، فعندما سأل رجلٌ النبيَّ عليه الصلاة والسلام: أيُّ الإسلام خير؟ قال عليه الصلاة والسلام: “تُطعِمُ الطعامَ، وتَقرِئُ السلامَ على مَن عرَفتَ ومَن لم تَعرِف”. وللحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث لفتةٌ حيث يقول: لم يقل عليه الصلاة والسلام (تأكل الطعام)، لأن لفظ الإطعام يشمل الأكلَ، والشرب، والذَّواق، والضيافة، والإعطاء، وغير ذلك.
بل يرى الإسلام أن إطعام الطعام من موجبات المغفرة واستحقاق نيل نعيم الجنة. روى المقدام بن شريح عن أبيه عن جده، قال: قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: “إنَّ موجِباتِ المغفرةِ بذلُ الطعامِ، وإفشاءُ السلامِ، وحُسنُ الكلامِ”.
وقال عليه الصلاة والسلام: “أيُّما مؤمنٍ أطعم مؤمنًا على جوعٍ أطْعَمَه اللهُ يومَ القيامةِ من ثمارِ الجنةِ، وأيُّما مؤمنٍ سقى مؤمنًا على ظمأٍ سقاه اللهُ من الرحيقِ المختومِ، وأيُّما مؤمنٍ كسا مؤمنًا على عُريٍ كساه اللهُ من حُلَلِ الجنةِ”.
وقد اعتبر عبد الله بن المبارك إطعامَ صبيين جائعين أفضلَ من التقرب إلى الله بحجّةٍ هو ومن معه، فقد أعطاهم ما كان يدّخره لنفقات الحج، ثم قفل عائدًا إلى بلدته وقال: “هذا أفضل مما قصدنا إليه”، فقد رأى أن صيانة طفلين من الجوع والعُري والتشرد أفضل من التنفل بالطواف بالبيت، والصلاة بالمسجد الحرام، والوقوف بعرفات.
وقد جاءت آيات القرآن الكريم تُنذر بالويل، وتُهدِّد بالعذاب في الدنيا والآخرة كل مَن لا يُطعم المسكين أو يقسو على الفقير والمحروم. ففي سورة المدثر، وهي من أوائل ما نزل، يعرض لنا القرآن مشهدًا من مشاهد الآخرة؛ مشهد أصحاب اليمين من المؤمنين في جناتهم يتساءلون عن المجرمين من الكفرة والمكذبين وقد أطبقت عليهم النار، فيسألونهم عما أنزل بهم من العذاب، فكان من أسبابه ومن موجباته – حسب إقرارهم – إضاعةُ حق المسكين وتركه لأنياب الجوع والعُري تنهشه، وهم عنه معرضون. في ذلك يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍۢ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّآ أَصْحَٰبَ ٱلْيَمِينِ * فِى جَنَّٰتٍۢ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُوا۟ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ﴾[المدثر: 38-44].
ولم يكتفِ القرآن بالدعوة إلى إطعام المسكين ورعايته والتحذير من إهماله وإضاعته، بل زاد على ذلك، فجعل في عنق كل مؤمن حقًّا للمسكين أن يَحضَّ غيره على إطعامه والقيام بحقه، وجعل ترك هذا الحق قرينًا للكفر بالله العظيم، وموجبًا لسخطه وعذابه في الآخرة في نار جهنم. فيقول تعالى في شأن أصحاب الشمال في سورة الحاقة: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَٰبَهُۥ بِشِمَالِهِۦ * فَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَىٰ عَنِّى مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّى سُلْطَٰنِيَهْ)، ثم يقضي فيه أحكم الحاكمين قضاءه العادل بالعقاب الذي يستحقه (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍۢ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًۭا فَٱسْلُكُوهُ)، ثم يذكر أسباب هذا الحكم الصارم فيقول: (إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ﴾[الحاقة: 25-35]، أي لا يَحُثُّ غيره من أعضاء المجتمع على إطعام المسكين وإشباع حاجاته.
وقد جعل الله تعالى من علامات التكذيب بالدين قهرَ اليتيم، وعدم الحض على إطعام المسكين، فقال عز وجل: ﴿أَرَءَيْتَ ٱلَّذِى يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ * فَذَٰلِكَ ٱلَّذِى يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ﴾[الماعون: 1-3].
وقد خاطب الله تعالى المجتمع الجاهلي المتظالم بقوله: ﴿كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ * وَلَا تَحَـٰٓضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ﴾[الفجر: 17-18].
والتحاض تفاعلٌ من الحض، فمعنى “لا تحاضّون” أي لا يحضُّ بعضكم بعضًا، وفيه دعوةٌ للمجتمع كافة إلى التعاون، والحض، بل وإطعام المسكين. وإذا كان أصحاب الشمال، والجاهليون، والمكذبون بالدين لا يَحضّون على طعام المسكين ولا يعنون بأمره، فمن واجب المؤمنين والمصدقين بالدين إطعام المسكين والحض على إطعامه.
وإذا بات فردٌ واحدٌ جائعًا، فالأمة تبيت آثمةً ما لم تتحاضَّ على إطعامه.
يقول عليه الصلاة والسلام: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جانبه طاوٍ” أي جائع.
ويقول صلى الله عليه وسلم: “أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعًا، فقد برئت منهم ذمّة الله”.
وقال: “أيُّ رجلٍ مات ضياعًا بين أغنياء، فقد برئت منهم ذمّة الله ورسوله”.
فكلُّ أهلِ بلدٍ مسؤولونَ مسؤوليةً مباشرةً عمَّن يتلفه الجوع، مسؤوليةً جنائيةً يؤدُّون فيها الدِّية بوصفهم قتلةً لذلك الذي أتلفه الجوع، وهو بينهم مقيم.
وروى ابن الجوزي المتوفى عام 597هـ في كتابه عن سيرة عمر، أن رجلاً أتى أهلَ ماءٍ فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات عطشًا، فألزمهم الخليفة الفاروق ديةً على أساس أنهم إذا منعوه عن حقِّه في ماء الله، قتلوا نفسًا زكيةً دون حق.
فمن اشتدَّ جوعه حتى عجز عن طلب القوت، فُرِضَ على كلِّ من عَلِمَ به أن يُطعمه أو يدلَّه على من يطعمه، فإن امتنعوا عن ذلك اشتركوا جميعًا في الإثم.
فإذا جاع إنسانٌ أو عطش أو مرض بحيث أشرف على الهلاك، وجب على من يعلم بحاله أن يُبادِر إلى إنقاذه، فإن كان عنده فضلٌ من طعامٍ أو شرابٍ أو دواءٍ أو مالٍ يُشترى به ما يدفع الهلاك عن ذلك الإنسان، وجب أن يدفعه إليه.
فإذا امتنع، كان لذلك المضطر أن يأخذه عنوةً ويقاتله عليه، فإن قُتل، كان على المانع القِصاص، وإن قُتل المانع، لم يكن على قاتله المضطر شيء.
وعلى هذا اتفق العلماء.
قال ابن حزم: من عطش فخاف الموت، فُرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده، وأن يُقاتل عليه، ولا يحلُّ لمسلمٍ اضطر أن يأكل ميتةً أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضلٌ عن صاحبه، لأن فرضًا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك، فليس بمضطرٍّ إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير، وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قُتل الجائع، فعلى قاتله القود، أي القصاص، وإن قُتل المانع، فإلى لعنة الله، لأنه منع حقًّا وهو طائفة باغية.
قال تعالى: ﴿فَإِنۢ بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى ٱلْأُخْرَىٰ فَقَٰتِلُوا ٱلَّتِى تَبْغِى حَتَّىٰ تَفِىٓءَ إِلَىٰٓ أَمْرِ ٱللَّهِ﴾[الحجرات: 9]
ومانع الحق باغٍ على أخيه الذي له الحق. ومعنى ذلك أن الإسلام أباح للفرد أن يقاتل ويقتل من في يده طعامه أو شرابه إذا منعه عنه وهو في حاجة ماسة إليه، لأنه كحقِّ الدفاع عن الحياة.
وقد ذهب الإمام ابن حزم إلى أكثر من ذلك، حيث اعتبر أن أهل المحلة التي يموت فيها فردٌ من الجوع، كلهم قتلة له، تُؤخذ منهم ديته، بوصفهم هذا، لأن الجماعة مُلزَمة بكفالة كل فردٍ فيها، وتوفير الكفاية المعيشية له، عن طريق الإلزام، لا عن طريق الإحسان.
والإنسان يأثم إذا ما فرَّط في توفير مقوِّمات الحياة له من غذاء وكساء، حتى ولو اضطر في سبيل ذلك إلى القتل والقتال، فهو فائز بإحدى الحسنتين: إن انتصر كان مأجورًا بأدائه واجبًا شرعيًّا، هو الحفاظ على حياته، وإن قُتل فهو شهيد.
المالكية والظاهرية رأوا أن الفقراء ينبغي عليهم أن يُطالِبوا بحقهم في المال، فإذا لم يُعطوا ذلك الحق، فلهم أن يثوروا، استنادًا إلى الحديث النبوي: “إذا بات مؤمنٌ جائعًا فلا مالَ لأحدٍ”.
روى يحيى بن آدم في كتابه “الخراج” أن قومًا اشتكوا إلى عمر أعرابًا في الصحراء لم يعطوهم دلْوًا ولا رشاءً، ولم يدلّوهم على الماء، فقال لهم عمر: “أفلا وضعتم فيهم السلاح؟!”.
وروى الفقيه أبو بكر أحمد بن علي المعروف بالجصاص، المتوفى عام 370هـ، أن عمر كتب لعماله يقول في جائع سرق من بيت المال: “ليس عليه قطع، له فيه نصيب”.
ومِنطق عمر في هذه السابقة أن بيت المال يملكه فقراء المسلمين، فكيف تُقطع يد فقير جائع إذا امتدت يده إلى نصيبه في بيت المال، الذي يملكه وأمثاله من الجوعى والمساكين؟
وبعد هذا الموجز المبسط عن مكانة إطعام الطعام في الإسلام، يتضح لنا أن موت العشرات أو حتى الآحاد يوميًّا من الجوع، ليس من الإسلام في شيء، وسنأثم جميعًا عن ذلك.
المراجع:
(1) دراسة إسلامية في العمل والعمال – لبيب السعيد ص77-78
(2) إحياء علوم الدين – أبو حامد الغزالي ج3 ص229
(3) الحرمان والتخلف في ديار المسلمين – نبيل صبحي الطويل ص62
(4) اشتراكية الإسلام – مصطفى السباعي ص392
(5) مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام – يوسف القرضاوي ص112-116
(6) العدالة الاجتماعية في الإسلام – سيد قطب ص76 وص152
& اشتراكية الإسلام – مصطفى السباعي ص191-193
& العدالة الاجتماعية في الإسلام – سيد قطب ص245
& لا للفقر في ظل القرآن – أحمد سعيد ص275-276
(7) السلام العالمي والإسلام – سيد قطب ص141
(8) الغزو الفكري: وهم أم حقيقة – محمد عمارة ص129
(9) لا للفقر في ظل القرآن – أحمد سعيد ص275-276