العالم اليوم في غاية التركيز على ما قد اصطُلِحَ عليه “الثورة الصناعية الرابعة”، وما يلازمها من تقنيات وآثار تسلّلَت إلى نواحي الحياة كافة، وغيرت كثيرًا من واقع البشرية المعاصر وستعمل فيه أكثر فأكثر في المستقبل.
الثورة الصناعية الأولى
كان اختراع “جيمس واط” (ت 1819م) عام “1775م” المحرّكَ البخاري الذي يعتمد على قوة الماء والبخار في تشغيل الآلات، أساسًا للثورة الصناعية التي عُرِفت فيما بعد باسم “الثورة الصناعية الأولى”، والتي نشأ في ظلِّها كثيرٌ من المشاريعِ الصناعيةِ الكبرى التي تعتمد على الماكينات والآلات البخارية، فحلّت مكان الأيدي البشرية العاملة.
الثورة الصناعية الثانية
ثم ظهرت في الثلث الأخيرِ من القرن التاسعِ عشر المحركاتُ الكهربائية ومحطاتُ توليد الكهرباء، ليحلَّ بظهورها المحركُ الكهربائيُّ محلَّ المحرِّك البخاري في تسيير القاطرات والناقلات، وتشغيل الماكينات والآلات. ونظرًا لما أحدثته الكهرباءُ من تغييرٍ كبيرٍ في المجتمعات؛ فقد أطلقوا على طفرتها اسمًا جديدًا هو “الثورة الصناعية الثانية”.
وتتجلى الثورة الصناعية الثانية في إدخال الآلات إلى الوحدات الإنتاجية، وبالتالي توسّط الآلة بين العامل وموضوع العمل وتزايد العمليات المنجزة بمساعدة الآلات. وإذا كان جوهر الثورة الصناعية الأولى يُعبّر عنه في استبدال الوسائل المادية الآلية بالوظيفة العضلية للعامل؛ فإنّ جوهر الثورة الصناعية الثانية، يُعبّر عنه في استبدال الوسائل المادية الآلية أيضًا ببعض الوظائف العقلية للعامل، والتي أحدثت قفزة نوعية جديدة في الإنتاج الصناعي، وبذلك، يكون الهدف الوحيد للاستبدال هو: الإحلال الفيزيائي للآلة محل العامل. وشكلت الثورة الصناعية الثانية، أو المعروفة أيضًا باسم الثورة التكنولوجية، مرحلة جديدة ضمن الثورة الصناعية الكبرى وتوافق النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، وقد بدأت مع طريقة “بسمر” لتصنيع الصلب في ستينيات القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها في إنتاج كميات كبيرة والوصول إلى خط الإنتاج، ويرى المؤرخون أن الثورة الصناعية الثانية هي الثورة التي أدت إلى استمرار الثورة الصناعية الأولى وتميزت هذه الثورة مع زيادة اعتماد النقل والبخار والتصنيع على نطاق واسع من أدوات الآلات، والزيادة في استخدام الآلات البخارية في الشركات، حيث بنيت العديد من خطوط السكك الحديدية مع التوجه نحو منتجات الصلب والحديد على نطاق واسع.
الثورة الصناعية الثالثة
وفي الثلث الأخيرِ من القرن العشرين وفي نهايات العقد السادس منه ظهرت الكومبيوترات المركزية، ثم الحواسيب الشخصية، ثم الحواسيب الإلكترونية “Computers” المتصلة فيما بينها عبر شبكة الاتصالات “الإنترنت” “Internet”، التي تُعدُّ اكتشافًا عظيمًا لم يُسبَق في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وقد أحدثت طفرةً عالميةً في مختَلَفِ مجالات الحياة، وتمركزت حولها جميعُ القطاعات في العالم، وقد عرفت طفرتها باسم “الثورة الصناعية الثالثة” أو “الثورة الرقميَّة” فحولت السليممجتمعات إلى الاعتماد على المعلومات أكثر من اعتمادها على الآلات.
لكن الحواسيبَ الإلكترونية التي أحدثت الثورةَ الثالثةَ “الثورة الرقمية”، ومع أنها تمتلك من القدرةِ ما يؤهّلها لمعالجةِ كمٍّ هائل من البيانات والحسابات والعملياتِ الرياضية بسرعةٍ تفوق قدرة البشر ملايين المرات؛ فإنها لم تزل عاجزةً عن القيامِ بأبسط الأمور التي يقوم بها طفلٌ صغيرٌ، كالتخاطب والتواصل مع الآخرين، وكَهَرَمِيَّةِ التفكير والإدراك، ومهارات التعلّم الذاتي، والقدرة على اتخاذ القرارات المناسبة، والتعرّف على الأشياء المحيطة في البيئة الخارجية ونحو ذلك، فالحاسوب يتعامل مع الحسابات والأرقام دون تفكيرٍ وإدراكٍ.
الثورة الصناعية الرابعة
لم يكتفِ العلماءُ والمتخصِّصون بذلك القدر من التكنولوجيا التي تقدّمها الحواسيبِ، وقادهم الحماس إلى العمل على إبداعِ آلةٍ يتفوَّق ذكاؤها على ذكاء الإنسان، مثلما تفوقت قوةُ الآلة الميكانيكية من قبلُ على قدرات الإنسان الجسدية، فركَّزوا أبحاثَهم في السنوات الأخيرة على جعل الحواسيبِ الإلكترونية والآلاتِ تفكِّر وتُدْرِك، وتحسُّ وتستشعر، وتَرَى، وتتعلَّم ذاتيًّا، وتتخذُ قراراتٍ، وتتواصل مع الآخر، وتتخاطبُ مع البشر بلغاتهم الطبيعية، وتشعرُ بما حولها، وتفهمُ الفعلَ، وتقومُ بردّ الفعل، وتحاكي في سلوكِها الاصطناعيِّ السلوكَ البشريَّ تمامًا، فتُقَرِّر كما يُقَرِّر البشر، وتتصرفُ كما يتصرّفون، حتى قطعوا في ذلك شوطًا كبيرًا، وما زالوا مستمرين؛ فعولجت اللغاتُ الطبيعيّة وأصبح من الطبيعي إجراءُ حوارٍ بين الإنسانِ والآلةِ بأي لغةٍ من اللغات الطبيعيّة، بدلاً من لغات البرمجة التي لا يفهمها إلا المتخصِّصُون، وهذا ما يسمى في علم الذكاء الاصطناعي باسم: “تفاعل الإنسان مع الآلة” (MMI) Man Machine Iteraction)، وتمكنت الحواسيبُ والآلاتُ من رؤية الأشياء المحيطة، والتعرف عليها، والاستشعار بها عن بعدٍ، من خلال تقنيات “الرؤية الحاسوبية” أو “رؤية الكمبيوتر” Computer Vision))، حتى أصبح الذكاءُ الاصطناعيُّ اليومَ قادرًا -بكل سهولة- على تمييز الصور، والوجوه، والتمييز بين الأشخاص، والتفرقة بين الأشياء، وتمييز الأصواتِ المسموعة، ومحاكاتها، وتحويلها إلى نصوصٍ مكتوبة، وتحويلِ النصوصِ المكتوبة إلى نصوصٍ مقروءة، واستطاعت الآلاتُ والأجهزةُ من خلال تلك التقنيات الذكية أن تميّزَ بكلّ سهولةٍ بين ملايين البشر باستخدام بصمات الأعين والأصابع وملامح الوجوه.
ولقد ترتب على ذلك كلّه بروز تقنياتُ “إنترنت الأشياء” (IOT) Internet of things))، التي تعتمد على فكرة اتصال جميع الآلات والأجهزة المادِّيَّة من حولنا بشبكة الإنترنت من خلال تقنيات ذكية ورقائق مدمجة ملحقة بهذه الأشياء، حيث تكون هذه الأشياءُ قادرةً على التواصل فيما بينها بطريقةٍ تمكِّنُها من تبادل البيانات، واتخاذ القرارات، حتى أصبح الإنترنتُ اليومَ كالروح التي تُبَثُّ في الأجهزةِ الصمَّاء والآلات الجامدة؛ لتجعلها تحسُّ وترَى وتسمعُ وتسجِّل وتتواصل وتتفاعل من خلال برمجيات ذكيةٍ تحكم عملها.
وقد أدى هذا التطّور إلى تصميم الروبوتات التي تحاكي البشر وتصرفاتهم؛ وتقوم بكثير من الوظائف والمهامِّ التي كانت إلى وقتٍ قريبٍ حكرًا على الإنسان، حتى زاحمت الروبوتاتُ البشرَ وحلَّت محلّهم في أدائها في مختلف القطاعات والمجالات؛ فاقتحمت مجال الطبِّ والجراحةِ وتشخيصِ الأمراض، وطرقت مجال التعليم والصحافة والإذاعة وتأليف الكتب والروايات، ونافست العمال في مجالات التصنيع المختلفة، واعتمدت عليها الدول والحكومات في أنظمة الدفاع والتسليح والعمل الشُّرْطِي والمدنيّ، وأوكلت إليها مهامّ قيادة الطائرات والسيارات والشاحنات وغيرها من وسائل النقل والمواصلات.
مما حدا بالتقنيات أن ترينا إبداعًا في تطوير الطائراتُ بدونِ طيار (Drones) المستخدمة في الأعمال العسكرية والاستخباراتية الدولية، وفي الأغراض الحكومية المدنية؛ كتقديم الإسعافات الأولية عن بُعْد، وإدارة الكوارث الطبيعية، وسُمِح لها مؤخرا في بعض البلدان بالعمل في مجال الشحن والتوصيل في مجال التجارة الإلكترونية والخدمات البريدية.
إلى جانب تطوير المركبات المستقِلَّة (Autonomous vehicles)؛ وهي سياراتٌ ذاتيَّةُ القيادة تقلُّ راكبيها من مكانٍ لآخر دون تدخلٍ ممَّن يستقلُّها؛ فبدلاً من أن يستخدم الإنسانُ خرائطَ جوجل (Google maps) للاستدلال على الطرقِ أثناء قيادة سيارته كما هو متاحٌ لنا الآن؛ تقومُ السيارات المستقلَّةُ بهذا الأمر بدلًا منه حتى توصله إلى الوجهةِ المطلوبة.
لم يقف الأمر عند هذا فحسب، بل امتدّ ليشمل جميع شاحنات النقل العملاقة كالقطارات والسفن البحرية وغيرها من وسائل النقل والمواصلات. حتى ظهرت تقنياتٌ أخرى هائلة، تعدُّ -بجانب الذكاء الاصطناعي- من أهم أدوات الثورة الصناعية الرابعة، وقد أحدثت هذه التقنيات طفرةً هائلة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومشاريعه المختلفة؛ بسبب التقارب الحاصل بين التقنيات جميعها.
فتوصّلت العلوم الذكية إلى تقنيةُ الطباعة الثلاثية الأبعاد (3D printing) أو “الطباعة المجسِّمَة”، والتي يتمَّ من خلالها تصنيعُ أيِّ منتجٍ ثلاثيِّ اﻷبعاد، مجسَّمٍ وملموسٍ، وذلك من خلال تصميمِه على الحاسوب، ثم طباعتِه أو تصنيعِه بالطابعة ثلاثية اﻷبعاد، بدلاً من التصنيع عن طريقِ القوالبِ أو النَّحْت؛ ليتمَّ استخدامُه في مجالاتٍ متعددة، كاستخدامه في صناعةِ مجسَّماتٍ بشريةٍ كأجسام الروبوتات، أو استخدامه في مجال التشخيص الطبي في علم الأجنة؛ لطباعة الجنين في صورة مجسَّمةٍ من أجل الكشف المبكر عن التشوهات وسلامة الأعضاء، أو طباعة الأجهزة والأعضاء البشرية المريضة من أجل التشخيص الدقيق للأمراض المعقدَّة كالسرطان وغيره، أو تصنيع أطرافٍ صناعيةٍ بديلةٍ كالمفاصل والعظام، أو تصنيع أجهزةٍ وخلايا بشرية، وأنسجةٍ حيَّة كالجلد، لزرعها في جسم الإنسان بدلاً من الأعضاء والأنسجة التالفة، وهو ما يعرف باسم “الطِّبَاعة الحيوية” “bioprinting”، وقد نجح العلماء من خلال تقنية الطابعة ثلاثية الأبعاد في طباعة طبقة للخلايا الجذعية البشرية، وطباعة الدعامات الطبية التي تستخدم في العمليات الجراحية.
إلى أن ظهرت في هذا العصر أيضًا تقنيةُ “سلاسل الكتل” وشبكات البلوك تشين (Blockchain) التي من المتوقع لها أن تغيِّر في السنوات المقبلة واقعَ العقود والمعاملات؛ نظرًا لما تتميّز به هذه الشبكات من قدرة هائلة على حفظ المعاملات وتوثيقها بصورة آليةٍ تتمتّع بخصوصية وتشفير تام يستحيل معها التلاعب أو التزوير ونظرًا لما تتيحه هذه الشبكات من إمكانية تنفيذ عقود المعاملات بصورة آليةٍ ذاتية التشغيل أو عقود البلوك تشين ـكما يسميها البعض-، وما تعتمد عليه هذه المعاملات من تداولاتٍ بعملاتٍ افتراضية مشفرة (Crypto currencies) يتوقع لها أن تحلّ في القريب العاجل محلَّ العملات الورقية التي بين أيدينا الآن، إلى غير ذلك من تقنياتِ الثورة الرابعة التي ستغيِّرُ حياة الإنسان تغييرًا جذريًّا في السنوات القادمة، والتي ستلقي بتطوراتها على كواهل الفقهاء عبئًا من أجل تكييف مسائلِها وتخريج أحكامها.
وفي النهاية فإن الإيجابيات الكبيرة التي يمكن أن تحققها هذه الثورة الصناعية الرابعة لصالح البشرية، تقابلها سلبيات ستترتب عليها وستعاني منها المجتمعات، بما فيها مجتمعات الدول المتقدمة.. كما أنها تتميز بثلاث مميزات:
الأولى: سرعة تطورها الهائلة، حيث إن التكنولوجيا الحديثة تدفع دائمًا تطور وظهور تكنولوجيا أحدث وأقوى. فعلى سبيل المثال، ظهر هاتف آي فون العام 2007، وأصبح منتشرًا في الشوارع والأحياء، وحتى نهاية العام 2021م، بلغ عدد الهواتف الذكية 15 مليار جهاز في أنحاء العالم.
الثانية: زيادة حجم الفوائد بالنسبة للفرد الواحد، ففي العصر الرقمي، تحتاج الشركات إلى عدد قليل من الموظفين وحجم صغير من المواد الخام لإنتاج منتجات ذات فوائد كبيرة، وبالنسبة إلى الشركات الرقمية، تنخفض تكاليف التخزين والنقل وإعادة إنتاج منتجاتها إلى صفر. وتتطور بعض الشركات القائمة على التكنولوجيا من دون رأسمال كبير مثل إنستجرام وواتس آب وغيرهما.
الثالثة: التنسيق والتكامل بين الاكتشافات المختلفة، وقد تم تبادل الفوائد بين تكنولوجيا التصنيع الرقمي وتكنولوجيا البيولوجيا، وزاد استخدام المصممين والمهندسين المعماريين للتصميم الرقمي وعلوم المواد الحديثة وعلم الأحياء الصناعية في ابتكار وإنتاج المنتجات الحديثة.