الرواية والواقع الاجتماعي

توصف الرواية بكونها الجنس الأدبي الأكثر قدرة على تمثيل الواقع الذي يعاني الشتات من حيث الرؤية والوضوح، بواسطة السرد الذي يتيح إمكانيات متعددة في الربط بين ما نحياه ونتخيله في صور ورموز وإيحاءات نعبر عنها وبواسطتها عن أفكارنا ومشاعرنا. وفي ظل اعتبار النص الروائي نصًّا سرديًّا تخيليًّا، فإنه بذلك يمثل الصورة التي تعكس الواقع بتفاصيله وتجلياته، حيث يُعد الواقع الاجتماعي أحد أهم القضايا في صلب موضوع وإشكاليات الرواية، لأن الواقع الاجتماعي تتداخل فيه العناصر الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والتاريخية، والفكرية، دون حصول الانفصال أو الانقطاع بينها، لأن ذلك سيفقد الرواية دورها الحقيقي عند محاولة تغييب أحد هذه العناصر، أو تجنب الحديث عن أمور بالغة الحساسية، خاصة تلك المرتبطة بالجانب الأيديولوجي والعقائدي.

كما يشكل الواقع بالنسبة للرواية مصدر إلهام، ومرجعًا أصيلاً من حيث المنطلق، لا يمكن تجاوزه حتى وإن كان النص من وحي الخيال، لأن لكل قصة غاية يُرجى منها، ويتوخى تحقيقها، مما يفسر اللجوء إلى الرواية نتيجة محدودية وسائل الذات أمام إرادة الواقع، التي تفرض على الفرد العيش وفق سلطتها ورؤيتها، مما يدفع الإنسان إلى التمرد والبحث عن وسائل تكمل نقصه، وتتلاءم مع أحلامه وإرادته التي تتصف بالنقص.

فالواقع لا يظهر بشكل واضح يمكن القبض على أسسه وفهمه إلا من خلال وضعه في سياقات معرفية مختلفة وأسئلة متعددة، وبهذا تلعب الرواية دور التوسط في تشخيص الواقع ونقله سرديًّا إلى القارئ بواسطة الخيال السردي، في إطار تفاعل الإنسان مع العالم الذي يعيش فيه، من خلال طرح أسئلة أكثر عمقًا في أفق تغيير الواقع والتطلع إلى مستقبل أفضل.

لقد حاولت الرواية بواسطة السرد التعبير عن المجتمع والكشف عن تناقضاته الظاهرة والخفية، من أجل تقريب الصورة الإبداعية والخطابية للقارئ، الذي يحاول بدوره فك شفرات ما يقرأ بين سطور النص، إلى جانب ما يلاحظه في الواقع، مؤسسًا في الأخير بنية فكرية ومعرفية يمكن الاعتماد عليها في فهم موقعه الطبقي والوجودي، ما دام الأدب هو محصلة علاقاته الاجتماعية كما يقول ماركس، لأن الأدب مثل الأيديولوجية نتاج العلاقات الاجتماعية في تجلياتها الواقعية، إذ يمثل البعد الوجودي والاقتصادي والاجتماعي والواقعي الذي يعاني منه الإنسان. فالأدب ليس إلا تجسيدًا لعوامل التناقض الاجتماعي في جميع مظاهره، والصراع الحاصل بين الطبقات، ولا يمثل ظاهرة مستقلة عن الواقع، بل يصور لنا الصراع الدائر بين تطلع الإنسان وواقعه المفروض عليه أن يعيشه.

ويشكل انتقاد الواقع وتعرية ما يخفيه أحد أهم مميزات الرواية المغربية، لأنها تطرقت للقضايا الاجتماعية، وقدمت صورًا عن الواقع في فترات زمنية مختلفة، حيث عبّرت عن أهم المشكلات الرئيسية التي يعاني منها الفرد داخل المجتمع المغربي، مثل (الفقر، والاستغلال، والقهر، والحب، والطبقية، والزواج، والتربية، والهجرة…)، مما يفسر حضور الإنسان المنسي والمقموع بشكل واضح في الأعمال الروائية المغربية بصيغ شتى. وهذا الحضور المأساوي للإنسان يرسخ رؤى متعددة للواقع المعيش، في مسعى لكتابة نصوص مطابقة لما يمر به الواقع من متغيرات وتحولات على مستوى المشهد السياسي وانعكاسه على المجتمع؛ لأن وظيفة الرواية ليست في تشخيص هذا الواقع ومحاولة نقله إلى قراء لا وجود فعلي لهم، أي نقل هذا العالم بطريقة سطحية نمطية، لا تحمل بين ثناياها أي دلالات ثقافية أو اجتماعية، فالرواية أداة ووسيلة في قراءة الواقع ونقده، وتقديم صور أكثر وضوحًا عن الآخر الذي يعيش في ثقافة وبيئة مختلفة، أو طبقة تحدد وعيه وتطلعه. فالعالم، بوصفه بناءً فكريًا وثقافيًا، يحتاج إلى عدة قراءات متجددة ومختلفة، وهذا ما تتيحه الرواية بواسطة خاصية السرد والخيال.

ومن أهم الروائيين في الساحة المغربية الذين اهتموا بالقضايا الاجتماعية وما يقع في الواقع الذي نعيشه، نذكر الروائي محمد زفزاف، الذي تطرق إلى عدة مشاكل يعاني منها الفرد المغربي داخل وسطه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في معظم رواياته. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، روايته “الحي الخلفي”، التي تميزت ببعدها الفكري الأيديولوجي للطبقة البروليتارية المعبرة عن همومها وآلامها، وتطلعاتها وتحققاتها، إلى جانب خيباتها وإخفاقاتها، وما تعيشه الفئة الفقيرة والمهمشة من واقع مزرٍ. ما يفسر تناول رواية الحي الخلفي الإنسانَ المقهور الذي يعيش في أحياء هامشية تنعدم فيها سبل الحياة. فالرواية تحدثت عن الدعارة، والبطالة، والظلم، والسلطة والتسلط، والخيانة، والاتجار بالمخدرات والخمور، والمثقف الذي يعيش التيه الفكري والوجودي، والجهل، وكل أشكال التعاسة، والعيش بدون كرامة، والخوف من قول كلمة الحق.

وبالتالي، فالرواية الحديثة تقوم على نقد الواقع وتعريته، بلغة رمزية تخييلية دالة، تحمل بين ثناياها خطابات وتأويلات موجهة للقارئ، لأن نقد الواقع يعد آلية من آليات إنتاج المعنى. فعندما يكتب الروائي عن أشياء يعرفها المتلقي، يكون الهدف من ورائها هو خلق صدمة لديه، من خلال إعادة النظر في المألوف، وطرح أسئلة وجودية على الذات في علاقتها بالواقع، لأن الأشياء الحقيقية دائمًا ما تظل مخفية عن الأنظار، ويصعب الكشف عنها بسهولة، أو التعبير عنها دفعة واحدة. لذا، حاول الإنسان المقهور أن يجعل لوجوده الهامشي معنى، ولانتكاساته أسلوبًا في التعبير، ونقطة تمرد على ما يعيشه، أو محاولاته المتكررة في الهروب من مواجهة واقعه المتأزم، والتباكي خلف السطور.