شهر رمضان يمثل شهر عبادة وتربية، وثوابت العقيدة حددت آداب الصوم بالأحكام والنواهي، والفعل والحركة، والذكر والدعاء، وقيام الليل، وقراءة القرآن. والخطاب القرآني خاطب المؤمنين في آيات الصيام بصفة الإيمان، لأن الغاية تحقيق التقوى، ومن التقوى يمتلك الإنسان القناعة الأخلاقية التي تحميه من السقوط نحو إغراءات النفس وهوى الشيطان، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة: 183).
وصوم رمضان بمفهومه الإيماني أمانة وسر بين العبد وخالقه، ومع الصوم تتضاعف الحسنات، وترفع الدرجات، والنفس السوية تعرف ربها، لأن أهم ما يميز الدعوة الإسلامية ربطها بتشغيل العقل، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ)(ص: 29).
وجاءت فرضية الصوم في الإسلام في العام الثاني الهجري، لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(البقرة: 185).
وقال الرسول ﷺ: “قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به. الصوم جُنّة، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه” (رواه ابن خزيمة).
وقال النبي ﷺ: “الصيام جُنّة يستجن بها العبد من النار.” (رواه أحمد والبيهقي). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن الرسول ﷺ قال له: “ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: الصوم جُنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار” (رواه الترمذي). وقال ﷺ: “الصيام جُنّة، وحصن حصين من النار” (رواه أحمد والبيهقي).
وصوم رمضان يهذب السلوك، والغاية من خلق الإنسان تحقيق الوحدانية الحقة لله عز وجل، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات: 56).
والصوم جُنّة، لأنه يبعد الإنسان عن هوى النفس وإغراءات الشيطان، كما أن الصوم يحقق صحة البدن، والتي تمثل مقصدًا من مقاصد العقيدة، كما قال الرسول ﷺ: “صوموا تصحوا” (رواه الطبراني).
كما أن الصوم يحقق للإنسان الصبر وضبط النفس، وقال الرسول ﷺ: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه النسائي). وقال ﷺ: “أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم” (رواه النسائي).
وقال ﷺ: “إن الجنة لتنجد وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبّت ريح من تحت العرش يُقال لها المثيرة، فتُصفق ورق أشجار الجنان، وحلق المصاريع، فيُسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه، فتبرز الحور العين حتى يقفن بين شرف الجنة، فينادين: هل من خاطب إلى الله فيزوجه؟ ثم يقلن الحور العين: يا رضوان الجنة، ما هذه الليلة؟ فيجيبهن بالتلبية، ثم يقول: هذه أول ليلة من شهر رمضان، فتُفتح أبواب الجنة للصائمين من أمة محمد ﷺ” (رواه البيهقي).
والإسلام نظام سلوك مرتبط بقيم القرآن الكريم والسنة المطهرة، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل: 97).
وشهر رمضان ارتبط بنزول القرآن الكريم، كتابٌ أحكمت آياته، وفُصلت كلماته، ليكون بلاغًا للمؤمنين بالآيات الكونية والعقليات والمعنويات، وحقائق التاريخ، ووقائع المستقبل، وقضايا العلم، وأصالة التشريع، وبلاغة الأسلوب، قال تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(هود: 1).
والقرآن الكريم روح، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى: 52).
والإنسان مع القرآن الكريم يصبح له شأن آخر بنور القرآن الكريم، قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)(المائدة: 15).
والقرآن الكريم نزل في ليلة القدر، والله عز وجل أخفى عن الإنسان تلك الليلة، وهي في العشر الأواخر من رمضان، وهي ليلة مباركة، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)(الدخان: 3).
وقال النبي ﷺ: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان” (رواه البخاري).
وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(القدر: 1-5).
وقال النبي ﷺ: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال الرسول ﷺ: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني” (رواه أحمد وابن ماجه). وقال الرسول ﷺ: “إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يُرمى به حتى يصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل لشيطان أن يخرج معها يومئذ” (تفسير ابن كثير).
والسر في إخفاء ليلة القدر هو من أجل الاجتهاد في الطاعة في جميع ليالي رمضان، وخاصة في الأيام العشر الأخيرة، ومنها ليلة القدر، وهي الليلة التي تُقدّر فيها الأرزاق وتقضى، ومن مفاهيم القدر الغنى واليسر، وهي غنية بنزول الملائكة، وصدور الأوامر الإلهية، وتقدير الأشياء. والقدر يعني القيمة، فهي ذات قيمة وأهمية عظيمة.
وصوم شهر رمضان يمثل قيمة تعبدية لممارسة أحكام الرسالة بالعمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصيانة المجتمع المسلم، والإصلاح فريضة عبادية على درجة عظيمة من الأهمية لبناء الشخصية الإسلامية بعقيدة التوحيد، والتي تمثل الأساس والمنطلق الذي ينطلق منه المسلم في كل تصرفاته وعلاقاته ومواقفه، في ضوء الاستجابة لله عز وجل. والصوم يصنع شخصية المسلم، ويعيد بناءه الداخلي، والمسلم يجب أن يقود شخصيته دومًا إلى الكمال والاقتراب من المثل العليا، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)(الأحزاب: 21).
وعلى كل مسلم العمل بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، قال الرسول ﷺ: “طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدى، تتجلى عنهم كل فتنة ظلماء” (رواه السيوطي).
والإنسان حينما يتحرك بالهدى، يمده الله بأسبابه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)(محمد: 17).
وما أحوج المجتمع المسلم للعمل بعطاء وارتقاء صوم رمضان، لأن الإسلام جاء بضوابط إلهية ترتكز على قواعد ومبادئ راسخة وثابتة، والمؤمن في كل أعماله يجب أن يكون صادقًا في الإخلاص لله عز وجل، قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الزمر: 33-35).
والصوم يصنع التقوى ويُنشئ الورع، لأنه ممارسة عملية متجسدة في الإقبال والامتناع، ويُكوّن الإنسان القادر على تحمل المشاق، ومواجهة الشهوات والرغبات، ويخلق القوة في النفس الإنسانية لمواجهة المغريات. فإذا استكملت النفس قوتها، انطلقت إلى جهاد العدو الآخر، العدو الذي يضع العقبات أمام الدعوة. وهناك ترابط بين الصوم وبين الجهاد، بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، فالجهاد الأصغر يقوي على الجهاد الأكبر، إذ هو أساسه وقاعدته. وبقدر ما يكون الإنسان المسلم قادرًا على خوض الجهاد الأكبر بنجاح، ويحقق فيه انتصارات على شهوات النفس، وفي بناء شخصيته، يكون قادرًا على خوض الجهاد الأصغر بنجاح، سواء في ساحة المعركة في التعامل مع السلاح وفنون القتال، أو بعد المعركة في بناء الأمة.
والإسلام العظيم يُعلّم أن الإنسان المسلم عبدٌ بين يدي الله عز وجل في الصلاة، وهو يطوف حول بيته الحرام، وهو يؤدي فريضة الصوم، وفي الإنفاق في سبيل الله. اللهم تقبل منا.