منذ عدة عقود، اعتمد العلماء على بصمات الأصابع باعتبارها أدق وأسهل الطرق للتعرف على الأشخاص؛ حيث إن بصمة الإصبع تُعد فريدة من نوعها ودائمة لكل فرد. ويقال إن الصينيين واليابانيين عرفوا بصمات الأصابع منذ 3000 عام لختم المواثيق والعقود. وفي نهاية القرن التاسع عشر قام البريطانيون باستخدام البصمات بإقليم البنغال الهندي للتفرقة بين المساجين والعمال بعد تأكدهم من أن البصمات لا تتشابه بين فرد وآخر، ولا تُورث حتى لدى التوائم، وبات علم البصمات أمرًا واقعًا لا ريب فيه بعالم الجريمة الواسع.
وفي البداية كان يتم مضاهاة البصمات يدويًّا، من خلال النظر بالعدسات المكبرة، ولكن الآن يظهر تطابق بصمات الأصابع عبر وضعها فوق ماسحات إليكترونية شديدة الحساسية للحرارة، لتقرأ الماسحة التوقيع الحراري للإصبع، وبالتالي تقوم بصنع نموذج للبصمة ومضاهاتها بالبصمات المخزنة فيها آنفًا.
وهناك ماسح آخر يصنع صورة للبصمة خلال التقاط آلاف المجسات بتحسس الكهرباء المنبعثة من أصابع الشخص المراد مضاهاة بصماته بأخرى تخص غيره، لحماية الحسابات الشخصية المتواجدة على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى مواقع البريد الإلكتروني ليجري استخدام كلمات المرور.. كما تعتمد بعض الشركات على إجراءات وقائية أقوى باستخدام بصمات الأيدي، لمنع اختراق حسابات المستخدمين. ومن خلال العديد من الدراسات سابقة الذكر، وجدت هناك إشارات دالة على التحقق من شخصية المستخدمين، خلال استخدام موجات دماغية خاصة بهم.
لكن من مساوئ تلك التقنية، أنه في حال سرقة البصمة الدماغية للمستخدمين، فلا يمكن إعادتها من جديد أو إلغاؤها، لكن يمكن للمجني عليه وقتها، الدخول على الإعدادات وضبطها من جديد بنفس طريقة إعادة ضبط كلمات المرور، للسماح بالدخول للحسابات مرة أخرى.. ومع تطور تقنيات ونُظم كشف الأدلة، نجح “تشامبادي موكوندان” طبيب الأعصاب الهندي عام 1997م، بتطبيق تجربة لتحديد بصمة الدماغ الكهربية بواسطة تقنية سمَّاها “بيوس”، تتمثل في التوقيع والتعرف على ذبذبات كهربية للدماغ، وهي مصممة لقياس وجود القدرة على التذكر، من خلال عدد من التغيرات الدقيقة التي تحدث في بيانات نشاط الدماغ.. وتلك التقنية تُستخدم حاليًّا بالهند، وسوف نورد بالسطور القادمة، واحدة من القضايا الهندية المهمة المستخدم فيها نفس التقنية.
تقنية قياس الأنشطة العقلية
أتت اكتشافات العلماء لتؤكد أن البشر يستجيبون دومًا للمنبهات بدرجات مختلفة، بما يكفي لإنشاء توقيع فريد من نوعه وهو البصمة الدماغية، ليمكنها في يوم من الأيام أن تَحُل محل البصمات بعدد من الحالات. وعلى غرار ما سبق، توصل خبراء من جامعة “بينجهامتون” الأمريكية برئاسة الدكتورة “سارة لازلو” بالتعاون مع أستاذ الهندسة الكهربائية وعلوم الكمبيوتر البروفسير “تشانبينج جين”، إلى استخدام تقنية جديدة من نوعها تُعد أكثر كفاءة وأمنًا للتعرف على الأفراد.
وقد عمل العلماء على تسجيل الأنشطة العقلية لأكثر من 50 شخصًا، يرتدون أجهزة لقياس إشارات “المخ” عبر اطلاعهم على 500 صورة مختلفة، ثم تسجيل رد فعلهم العقلي عند مشاهدة الصور.. وقد توصل الباحثون إلى أن كل شخص من المشاركين بالتجربة، كانت له استجابة عقلية مختلفة عن غيره عند مشاهدة تلك الصور التي تنوعت في الشكل أو المضمون.. وعند مشاهدة الصور انتاب كل فرد شعور اختلف عن الآخر، ما يعني أنه بالإمكان تحديد هوية كل فرد بدقة من خلال نشاطه العقلي.. كما أشار القائمون على التجربة بأن النتائج التي تم التوصل إليها أوضحت أنه يمكن استخدام الإشارات العقلية بالأنظمة الأمنية للتحقق من هوية الأفراد، لأن الاختلافات الكبيرة بنشاط الدماغ كانت تُعد أمرًا كافيًا لتحديد بصمة دماغية بدقة وصلت نسبتها إلى نحو 100 بالمائة.
والمعلوم أن أكثر ما شغل اهتمامات علماء النفس، هو كيفية تحكم الدماغ البشري بالذاكرة المخزنة من أحداث عند المشاركة في أعمال إجرامية ولأي مدى يمكن إخفاؤها، فيمكن أن تساعد سيناريوهات تمثيلية للجريمة بذلك، ويمكن أن يكون هناك أثر لما تفرزه تلك النتائج على بعض حالات الجريمة المقدمة بالفعل أمام المحاكم حاليًّا. وتأكيدًا على ذلك، بيَّنت “زارا بيرجستروم” إحدى علماء النفس المشاركة بتلك الدراسة لسنوات بقولها: “افترض الناس أنه عندما يواجه المجرم بما يذكره بأعماله الطيبة، فإن دماغه يقوم تلقائيًّا باستثارة المكون الذي يجعله يعترف بجرائمه، لكن لم يحاول أحد معرفة ما إذا كان ذلك صحيحًا، هل يمكن للناس أن يوقفوا عقولهم عن تذكر شيء لا يرغبون بالتفكير فيه؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يحدث؟” إن حقيقة عدم وجود إجابات عن هذه الأسئلة، يمكن أن تكون بحد ذاتها أمرًا مقلقًا.
قضية هندية شهيرة
في عام 2008م حكم بالسجن المؤبد -مدة 25 عامًا- على الطالبة “أديتي شارما” التي تدرس تخصص إدارة الأعمال، لقيامها بتسميم خطيبها السابق “أوديت بهاراتي”، بإطعامه حلوى مليئة بمادة “الزرنيخ” السام، وذلك بعد أن وقع خلاف بينهما أدى إلى انفصالهما عن بعضهما، وفي الوقت الذي دافعت “شارما” عن نفسها باستماتةٍ أمام هيئة المحكمة، كانت هناك بعض الشكوك لدى القاضي المسؤول، وأثناء المداولات ظهر جليًّا أن المسح الدماغي الذي أجري على المتهمة، أوضح أن لديها معرفة عميقة جدًّا بخواص مادة الزرنيخ وبالجريمة نفسها، والطريقة التي قُتل بها الشاب “بهاراتي”.
وعلى ذلك، أكد مسؤولون كبار بالشرطة الهندية، على أن تلك البصمات الدماغية قد ساعدتهم كثيرًا في الوصول إلى الأدلة، وبالتالي تسريع توجيه الاتهام بخصوص قضية “شارما” أو غيرها من القضايا الأخرى المشابهة، مشيرين إلى أن عملية توجيه الأدلة دومًا تأخذ من الوقت والجهد الكثير، وتستنزف الكثير من مجهودات رجال الشرطة، بينما في تقنية البصمة كان الأمر أكثر سهولة، حيث يُطلب عادة من المتهم الجلوس صامتًا داخل غرفة صغيرة بدون نوافذ، ليستمع إلى شريط مسجل عليه مجموعة من المقولات بعضها مرتبط بالجريمة، ثم تتولى قبعة دماغية يرتديها المشتبه بهم، التي تضم نحو 30 وصلة من الأسلاك الكهربائية تتبع أنشطة الدماغ، ثم ترسل المعلومات إلى جهاز مخصص لنفس الأمر يعرف بـ”EEG”.. ويعتقد بعض علماء الأعصاب، أن ذلك يكشف عمَّا إذا كان المشتبه به لديه معرفة مسبقة بموضوع ما، أو جانبًا معينًا مثل أداة الجريمة، أو الإصابات التي لحقت بالمجني عليه.. والواجب ذكره أن العمل بنظام البصمة الدماغية، تستعمله الشرطة الهندية منذ عام 2003م.
مصداقية تقنية المسوحات الدماغية
خلال آخر عقد من القرن العشرين، انتقل علم الأعصاب من المختبر إلى أنظمة الحفاظ على القانون وقاعات المحاكم بجميع أنحاء العالم، ونظرًا لمعقولية فهم أن اختبارات فحص الكذب التقليدية من خلال جهاز كشف الكذب (البوليجراف) لا يمكن الاعتماد عليها، فإن الافتراض العملي يتمثل بأن جيلاً جديدًا من المسوح الدماغية، تُعد أكثر مصداقية لوجود ثقة كبيرة بالتقنيات الحديثة، وهي التي لعبت دورًا مهمًّا بالتفريق بين “الظالم والمظلوم”. وقد جرى استخدام أحد أكثر اختبارات بصمة الدماغ شيوعًا، كطريقة للبحث عن إشارات كهربية محددة يقوم الدماغ بإصدارها، يطلق عليها اسم “P300″، وتلك الإشارة تلاحظ بشكل واضح، حالة تلقي الشخص إيحاءات بصرية تتعلق بالأشياء أو الناس، أو المواقع المرتبطة بذاكرة حية ونشطة.
وقد اكتشفت بداية العلاقة بين الإشارة الدماغية والتعرف على الأشياء، على أيدي علماء الأعصاب في ستينيات القرن العشرين، بعد ملاحظاتهم أن هناك نشاطًا كهربيًّا متناسقًا بالدماغ يحدث بعد 300 جزء/ثانية من وصول الإيحاء البصري للدماغ، مثل رؤية صورة لأحد المعارف أو الأقارب.. لكن استخدام إشارة “P300” لحل ألغاز الجرائم، لم يبدأ إلا بعد ثلاثة عقود من ذلك، وكان العالم الأمريكي “لاري فارويل” أول من طور تقنية تحديد بصمة الدماغ باستخدام الإشارة. وكان “فارويل” باحثًا بجامعة “هارفارد” بمجال علم النفس البيولوجي، وكانت العلامة الفارقة بنفس السياق، هي ثبوت الأهمية الكبيرة لتلك البصمة لجمع الأدلة ضد المجرم الأمريكي “جي بي جريندر”، ما أدى لإدانته عام 1999م، بخلاف إشارة الدماغ “P300” التي لم تكن هي المستخدمة فقط بتقنيات تحديد بصمة الدماغ حاليًّا.
تعميم الاختبارات وتوجيه الانتقادات
في أستراليا -وعلى قناعة تامة منها- تقوم شرطة مكافحة الإرهاب حاليًّا بدراسة إمكانية استخدام البصمة الدماغية مستقبليًّا، لمعرفة حقيقة الأشخاص العائدين من مناطق الصراعات والحروب، وهل أنهم شاركوا فعلاً بهذه الصراعات بصورة غير قانونية؟ وبالأخص إذا كانوا يزعمون أنهم قد شاركوا فيها بأعمال إنسانية بحتة. وهناك آمال باعتماد معظم أجهزة الشرطة العالمية على تعميم اختبارات البصمات الدماغية، بعد حصول الشرطة في “سنغافورة” على تقنية البصمة الدماغية منذ 10 سنوات، بينما قامت شرطة ولاية “فلوريدا” الأمريكية بالتوقيع على عقد استخدام تلك التقنية منذ عام 2014م.
لكن الأمر اختلف بالنسبة لعلماء الأعصاب عقب توجيه نفر من أطباء الأعصاب عدة انتقادات صريحة، مفادها زيادة حجم الأبحاث العلمية المنشورة على صفحات المجلات العلمية المعتمدة، لتؤكد شعور البعض منهم بالقلق لاستخدام أجهزة فحص الكذب، لأن بصمات الدماغ التي يتم الحصول عليها أثناء الفحص، تعتمد كثيرًا على طريقة إجراء نفس الفحص، مع لزوم وجود “بروتوكول” مقبول دوليًّا لتطبيق هذه التقنية؛ لأن وجود هذا البروتوكول، يُعد ضروريًّا للتأكد من أن المحققين لا يمكنهم التلاعب بالفحص أو بنتائجه، سواء تم ذلك بشكل عمدي أو دون قصد منهم، لزيادة فرص الحصول على استجابات للدماغ، لإدانة المشتبه بهم أو المتهمين، مؤكدين على أنه بإمكان المحقق، الوصول لما يريد الوصول إليه على حسب الطريقة المستخدم فيها الإيحاءات التي تقدمها للمتهم عند إجراء الاختبارات.
(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(1) بصمة الدماغ، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
(2) اكتشاف بصمة خاصة للدماغ، تعريب: لمي زهر الدين، ناسا بالعربي 12/2/2017م.
(3) العلماء يكتشفون بصمة فريدة للدماغ تتفوق على بصمة الإصبع، المغرب اليوم 7/5/2016م.
(4) اكتشاف بصمة فريدة للدماغ تتفوق على الإصبع، هاجر سمير، مجلة لغة العصر، مايو 2016م.
(5) بصمات دماغك يمكن أن تفضحك عندما تكذب، ديفيد كوكس، موقع بي بي سي عربي نيوز، 9/2/2016م.