اشترى صغيري طيورًا في قفص وظل يضع لها الحَب والماء ويعتني بها.. نسي ذات مرة أن يغلق الباب، فوجد الطيور قد تركت القفص والحَب والماء، وخرجت تستنشق عبير الحرية وكأنها تقول له إن الحرية عندها أغلى من الحياة. التحرر النفسي من سطوة المعاني السلبية في أطوار النفس، ومن سطوة المؤثرات والضغوط الخارجية التي تعمل على تغييب الإنسان عن ذاته. من ادعى أنه يتمتع بكامل حريته فهو واهم، فثم أسوار وقيود مرئية وغير مرئية تكبل حركة الإنسان باختياره حينًا، وبغير اختياره أحيانًا. ثَمّ من الناس من يدركها ويتعامل معها بيقظة ووعي، وثَمّ من يَغفل عنها أو يتغافل.
الحرية شيء نسبي، والفارق الجوهري هو بين الساعين لتحصيلها وتحقيقها، بحيث يعبّرون عن أنفسهم في مواقفهم وكلماتهم وآرائهم وليس عن الآخرين، وبين من يؤدون دورًا رُسِم لهم، أو يسلكون طريقًا وجدوه أمامهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال “هل هو المتحدث، أم إن روحًا أخرى تلبّسته وهو يتحدث على لسانها أو هي تتحدث على لسانه؟”.
في الناس من يعشق القيود ويستسلم لها ويغني لها، ولا تعجز لغته الغنية عن تقبيح الحَسن وتحسين القبيح. قيود العلاقات والقربات والصداقات والمصالح والذكريات والآمال والتطلعات والمال والوظيفة والسلطة والحاجة، هي دوائر تحيط بالمرء في حياته، وتضيق نطاق حركته، وتفرض عليه مزيدًا من المراعاة والمواربة. الذين يتحررون من هذه الضغوط تمامًا، هم أولئك الذين رحلوا عن هذه الدار، أما الأحياء فمستقل ومسثكثر.
وجد نفسه خسر الكثير من العلاقات فوقه وتحته، وخسر الكثير من الفرص الثمينة وهو راض عن هذه الخسارة في نهاية المطاف، لأنه يرى نفسه قد كسب في مقابلها الشيء الكثير، كسب مساحات أوسع من نفسه. لا يدعي أنه كسب نفسه حقًّا، بل وسّع دائرة المنطقة المحررة من نفسه، والتي صبر فيها على مطاردة فلول الأصدقاء والمحبين والداعمين والمشجعين، وظل يمشطها مرة بعد الأخرى ليتمكن من سماع صوت نفسه.. تعوَّد أن يتجرع بعض المرارات، وأن يتوقع المفاجآت، وأن يتعامل بروح رياضية مع خيبات الأمل.. من المؤكد أن النفس بطبعها، تكره مثل هذه المعاني، ولكنه تطبّع معها، فذلك أرحم من أن يفقد صلته بنفسه وتعبيره عنها.
لدى المرء العاقل قدر من “الحكمة” تعني الحصافة والمجاملة المعتدلة، وحسن التعامل ولطف القول وحسن الإعراض، وقدر آخر يتعلق برؤية الصواب في أقوال الناس وأفعالهم؛ ليلتقطه ويبني عليه ويثني عليه ويكمل صوابيته دون أن يتجاهل اختلافه مع بعض جوانبه.
ليست الحرية هي التبجح، أو تعمُّدَ مناقضة الآخرين، واحترافَ المعارضة لمجرد المخالفة لفرد أو جهة أو تيار أو شيء مألوف لأنه مألوف، أو شيء جديد لأنه جديد، أو حكومة لأنها حكومة.. ولا هي البحثَ عن مواطن الزلل والخطل ومحاصرة الناس بها، وكأنه ظفر بكنز ثمين.. بيد أن التجربة تعطي أن كثيرًا من البشر لا يتوقف الأمر عندهم على موقف واحد أو مواقف عدة، هم يريدونك كُلّك بغير استثناء، ويريدونك دائمًا وأبدًا بغير توقيت.
قيد الزوجية، وقيد العمل، وقيد المدرسة العلمية أو الفكرية أو الدعوية، وقيد المجتمع، وقيد التيارات المتخالفة، وقيد السلطة، وقيد الأتباع، وقيد الجمهور، وقيد الشركاء.. ومن دونها قيود النفس من داخلها وما أكثرها، وما أشق الخلاص منها وأصعب اكتشافها، -عز وجل-: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر:9).
يبدو أن أكثر الناس تبجحًا بالحرية هم أقل الناس حظًّا منها، وقد قال أحمد بن دا
وود: “دخلت على الإمام أحمد بن حنبل في الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبد الله عليك عيال، ولك صبيان. وأنت معذور، كأني أسهّل عليه الإجابة، فقال لي: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت”. (طبقات الحنابلة)
في كتاب العبودية لابن تيمية يقول: “الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرقّ القلبَ واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال:
العبد الحر ما قَنِع والحرُّ عبدُ ما طمع
وقال القائل:
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني
ولو أني قنعتُ لكنت حرًّا
ويقال: الطمع غِلٌّ في العنق قيدٌ في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل”.
القناعة حتى في برامجنا ومشاريعنا، واعتدال حتى في طموحاتنا وتطلعاتنا، فذلك يحفظ قدرًا من الحرية الذاتية التي نعيش بها، ويصبح لحياتنا معنى. من دون العلاقة مع الآخرين وإحكامها من فوقنا ومن تحتنا ومَن يُساوينا لن يتحقق إنجاز ولن يكون نجاح. فلا علاقة مع الآخرين بغير تواصل وتفاهم وحوار وأخذ وعطاء وأخلاق وإغضاء. وبهذا ستحصل على قدر من النجاح والتميز يفوق ما تحلم به.
وهذا سيضعك في مواقف ومنعطفات ومِحكّات اختبار.. هل تمضي طلبًا للمزيد دون شروط ولو قدّمتَ نفسك قربانًا، أو تَحفظُ ما اختصك الله به وتَعبّدَك من المسؤولية الذاتية والرؤية الخاصة، وإن فَوّتَ ذلك عليك بعضَ ما تأمل وترجو؟!
الحديث هنا ليس عن موقف خاص يخطئ المرء فيه أو يصيب، والخطأ ذاته صواب إذا تعلمنا منه، بل هي مسيرة الحياة الممتدة وحصيلة التجربة والملاحظة التي يرصدها المرء طويلاً ليتحقق من صوابيتها، ثم يحاول الإمساك بها رسمًا وتدوينًا دون أن يكون ثَمّ جديد في عالمه الخاص.