ميزان الألوان في حياة الحيوان

لماذا تبدو النمور بلونها البرتقالي الصارخ الذي قد لا يعينها على التخفي عن أعين فرائسها من الغزلان والأيائل المرقطة؟ هذه الأخيرة لها “رؤية ثنائية اللون فقط”، فلا ترى النمور بلونها البرتقالي، بل خضراء كالأعشاب. إذ تحتوي شبكية أعينها -كالخيل والكلاب والقطط- نوعين من المخاريط، هما الأخضر والأزرق. فهي غير قادرة على رؤية اللون الأحمر أو مشتقاته كالبرتقالي.

وقليلة هي الحيوانات التي ترى رؤية ثلاثية (مخاريط للأزرق والأخضر والأحمر) منها بعض القرود. وهنا يبرز “التعاون التحذيري” للقرود التي تصدر أصواتًا عند رؤيتها النمور، فتهرب الفرائس. فلا يُفترس إلا المريض أو الهزيل، لتتوازن السلسلة الغذائية. فتحافظ آكلات اللحم -تحتاج النمور لفريسة واحدة أسبوعيًّا-بافتراسها آكلات النباتات على التوازن البيئي؛ لأنه إذا طفرت أعداد الأخيرة، فستقضي على النباتات ويحدث التصحر، بينما بقايا أجسامها النافقة فغذاء لآكلات الجيف وجوارح الطير، وسماد للتربة.
وتعتبر ألوان خطوط الحُمر الوحشية الواضحة، أحجية مُحيرة ومُدهشة.. واللافت أن لكل نوع منها بصمة خطوطه الفريد كبصمات أصابع الإنسان. وتبين عند فرار القطيع، يحدث دوار وإرباك الحركة المُشتت تركيز مفترسيها من الأسود والخنازير البرية، التي ترى كتلة عديمة الشكل، ويصعب عليها فصل أحدهم. وساد اعتقاد أن لهذه الخطوط دور تحذيري وتناسلي واجتماعي، وتنظيم حراري؛ فتمتص الخطوط السوداء حرارة النهار فتدفئ الجسد، بينما تعكس الخطوط البيضاء أشعة الشمس عند رعيها ساعات تحت الشمس.. لكن تبين دورها الرادع لـلطفيليات (ذباب الحصان الممتص للدم، وذباب مرض النوم/تسي تسي)، التي تنقل مرض الخيول الأفريقية، وأنفلونزا الخيول، ومرض النوم.

وتسبب ألوان الخطوط تشتتًا ضوئيًّا، مما يضلل/يطمس رؤية الذباب الذي يبتعد عن الأسطح المخططة، رغم أن سمك جلدها وغطاء شعرها أقل -نسبيًّا- من نظيره في حيوانات أخرى. وتم إلباس خيول محلية سترات كالحُمر الوحشية، وتركت إلى جانب خيول عادية، فظل الذباب بعيدًا لا يقترب من الخيول المخططة.
وحسب الموسم والحاجة يتلون الثعلب والدب والأرنب القطبي وطائر الترمغان؛ فشتاءً ترتاد معاطف بيضاء كالثلج فيصعب تمييزها، وتعود -صيفًا- لمعاطفها البنية/السمراء.. ويقي “التمويه الموسمي” من زمهرير القطبين، ويحفظ عليها البقاء والتكيف والاندماج. وكذلك نرى ألوان حيوانات الصحاري أصفر/بني فاتح اللون، مما يساعدها على عكس الطاقة الضوئية، فيقلل من انتقال الحرارة إلى جلدها عبر الإشعاع. وتستخدم “الظربان” المخططة والمرقطة التلوين كتحذير لخصومها، بينما يستثار سلوكيات “المنك” من الأحمر، ويهدأ بتأثير الأزرق. ويبقي أن (بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) سرور من جمال لوني، يروي عطش الذائقة الجمالية.
الطيور وميزانها اللوني
ميزان الألوان هام في حياة الطير، ولألوان ريشها دور معرفي هوياتي لكل فصيل ولكل طائر؛ فتستعرض الطواويس -وغيرها- ريشها للرفاق والخصوم معًا، وغاية بقاء النسل قد يُضحي من أجلها. ولا تسير أفراخ “النُّحَام” (الفلامينغو) الوردية في رقصات استعراضية لجذب الإناث، إلا إذا تحول لون ريشه من الأبيض إلى الوردي. ونجد أن اللون القرمزي اللامع لذكر “الكاردينال الشمالي”، دعوة لأصحابه للاقتراب. إن ضرورة التزاوج والألفة بالأصدقاء، تفسر لماذا يكون لونها جميلاً في نظر إناثها وأصدقائها، لكنها لا تفسر لماذا يكون جذابًا في عيوننا؟
وتتميز طيور “الجاكوبين الطنانة” ذات العنق الأبيض بريش ملون بالأزرق والأبيض، وعندما تصل للبلوغ يحتفظ الذكور بهذا النمط، وتظهر الإناث ألوانًا خضراء وبيضاء باهتة، لكن تبين أن حوالي 20% من الإناث (البالغات) تحتفظ فقط بالريش -وليس السلوك والحجم- المُحاكي للذكور. ولأن الطيور ذوات الريش الشبيه بالذكور تتعرض لعدوانية أقل (في التدافع عن الغذاء)، أقل مقارنة بذات الريش الخافت الأكثر شيوعًا. ونندهش لتقليد أنثى “الوقواق” ألوان بيض غيرها حيث تضع بيضها، ثم تحمله بمنقارها لتودعه عشًّا لطيور مغايرة “تطفل الحضانة”. ويختلط لون البيض (الدخيل) على أصحاب العش، فيتولون رعايتها فقسًا وتغذية.
فكيف لإناث الوقواق التحكم بلون البيض؟! إن لهذا أساسًا جينيًّا حيث ترث أنثى الوقواق قدرة على تقليد مظهر بيض مضيفها من أمهاتها، عبر كروموسوم Wالخاص بالأنثى. ويسمح “الميراث الأمومي” للوقواق بالتغلب على مخاطر وراثة جينات تقليد خاطئة من الأب الذي نشأ من قِبل مضيف مختلف. ويتماهى لون ريش كثير من لواحم الطير، كالبوم والنسور والصقور، مع بيئتها؛ فتراها تتخفى وتطير وتقتنص طعامها الميسر.. وعمومًا، يمنع ريش الطيور نفاذ الأشعة فوق البنفسجية الضارة بأجسامها، ولكن طيف رؤيتها -بالأشعة فوق البنفسجية لا يراها البشر- تفيدها في تناول الحشرات المُختبئة أسفل أسطح أوراق النباتات والأزهار.
توازن الألوان عند مخلوقات البحار
آيات إبهار لوني في الأسماك (لتأكلوها، وزينة) وغيرها.. تأمل حدائق البحار/الشعاب المرجانية وحياة تختال بالألوان الزاهية. والشعاب واحدة من أعجب المخلوقات التكافلية (الحيوانية، والنباتية). وفي “الحيد المرجاني العظيم” بأستراليا، ظهرت شعاب جديدة “فسفورية اللون” لتقاوم فقدها طحالبها التكافلية، وتقي نفسها من تداعيات الاحتباس الحراري فلا تدخل في “التبييض” والموت. وتعيش سمكة “البلينات المشطية” قرب “عيادات التنظيف التكافلية” للأسماك قرب الشعاب المرجانية، وتغير صبغيات لونها إلى الأسود لتماثل السمكة البروسية القائمة بالتنظيف.. وبعد تنكرها تهاجم وتقضم أجزاء صغيرة من جسد الأسماك الكبيرة.

ويوظف “القرش” “التظليل العكسي” لتتوارى عن الأنظار (من أعلى)، بينما تتغذى على فرائسها من أسفل. ولمعظم أسماك القاع، كالأفعى وأبو الشص، ألوانها الداكنة؛ لكنها تتميز بالإضاءة الحيوية (الباردة) الباهرة. وتأخذ “السمكة الحجرية” لون الشعاب والصخور لتعتاش بكفاءة، بينما تغير أسماك “شيطان البحر” لونها ليشبه لون القاع. كما تشبه زعانف أسماك مفترسة غصون الأشجار لتسترزق من سمك يطمع في تناولها. وتغطي سمكة “تنين البحر المورق” نتوءات لونية كأوراق الشجر، كما يقلد السمك المفلطح والهلبوت تلونات قاع البحر. ونلمح تلون ظهر سمك “أبو شوكة” بفصل التكاثر وتهاجم أخرى مماثلة اللون، بينما تتودد الإناث عارضة جانبها الأسفلي الأصفر.
لإبعاد المفترسين، يستطيع الأخطبوط المُقلِّد تقليد لون وشكل وحركة خمسة عشر حيوانًا.. لونه الطبيعي بني فاتح، لكنه يظهر بخطوط بنية وبيضاء مقلدًا أنواعًا سامة. أما الحبَّار فيخيف مفترسيه عبر التخفي في نحو 27 لونًا ومظهرًا، حيث يغير لونه عشرات المرات/ثانية. كما يبرع في تشكيل بقع شبيهة بالعين على جسده ليبدو كسمكة عملاقة، حيث يوظف هذه الحيلة ضد الحيوانات المفترسة التي ترى فرائسها. وعديدة هي تنوعات ألوان ونقوش الحلزونيات وبصماتها المتميزة التي تؤدي إلى حيرة وارتباك مفترساتها من الطيور: هل هي مفيدة للأكل أم سامة ضارة؟
دنيا ألوان الزواحف والبرمائيات
تتجمل ثعابين وأفاعي بخطوط ملونة تحذيرية من عدم الاقتراب أو اللمس، كما أنها تسعى على أفرع الشجر مصبوغة بألوانها. وللحرباء مقدرتها الكبيرة على تغيير لونها، حيث ترتدي خلال ساعات اليوم أثوابًا مختلفة حسب الرغبات والظروف؛ تأقلمًا مع ضوء الشمس ودرجة الحرارة، واختفاء للصيد.. ولولا ألوانها وتخفِّيها -مع غيرها ممن يعتاش على مثل طعامها- لغطت الحشرات والزواحف والقوارض وجه البسيطة.

هذا وإن ألوان ذكور السحالي الأفريقية مسطحة الظهر، تميزها عن إناثها بنية اللون، لكن لهدنة اصطياد الحشرات دون تنازع، تتحول بعض الذكور إلى اللون البني للإناث، لكن رائحتها الذكورية تفضحها. ولا تلبث طويلاً حتى تعود للونها الطبيعي لخوض منازلة التزاوج ليفوز الأصلح. وتتنكر سحلية أبو بريص ذو الذيل الورقي (مدغشقر) فتبدو كغارقة في الطحالب، لكن هذا هو لونها التنكري المدهش.

وللحفاظ على نضارتها وتجنب الانهاك الحراري، يتبدل لون بشرة بعض الضفادع وفقًا لضوء الشمس، فيكون فاتحًا عند سطوعها، وقاتمًا عند خفوت أشعتها. أما ضفدع الشجرة القابل للتغيير، فيندمج كليًّا مع محيطه؛ يجلس على أوراق الشجر فيخضر، وعلى لحاء الشجرة فيكون مثل لونه (بني/أسود). وعلاقة طردية بين الألوان البديعة لضفادع السهم السامة، وزيادة سميتها. ولا ترسل هذه الإشارات اللونية لبعضهم البعض، بل لمفترسيها. ولكثرة مفترسيها مما يهدد وجودها، توظف زواحف وبرمائيات، ألوانها الزاهية لتحذير المفترسات بدلاً من الزهو والتباهي بها.
ميزان ألوان الحشرات
الحشرات هي المجموعة الأكثر تنوعًا، وتضم ما يزيد على مليون نوع معروف (نصف عدد الكائنات المُصنفة). وللعناكب القافزة (من أكبر فصائل العناكب) رؤية فائقة توظفها للمغازلة والصيد، ووجوه ذكور أحد أنواعها (هبروناتس) حمراء قانية، إن لم تعجب الإناث به فتقتله. أما السرعوف/فرس النبي الهندي، فلونه تأشيرة سارية لتسهيل التزاوج أو الاسترزاق، فيتمظهر في لون وشكل بتلات الزهور، فتظنه حشرات زهرة فتحوم لتقع طعامًا له، وللونه الفريد وبقائه في بيئته سمي “فرس النبي الأوركيد”، ويتبدل من الوردي الفاتح للبني الغامق.

ونرى دبابير ذات خطوط ملونة، وتقلد “حشرات السيرفيدية” الدبابير في لونها وشكلها لديمومتها، إذ يخاف من لدغاتها المفترضة المُفترسات. وتستعرض”الفراشة الطاووسية” ألوان رقع أجنحتها فيراها الضواري كعينين مخيفتين فتبتعد. وتغير فراشات أخرى ألوانها لتتماهى مع أخرى سامة، مما يحميها من مفترسيها. أما فراشة “حشيشة الحليب” فلها يرقات كريهة الرائحة، بل مميتة لبعض الطيور الضارية، لذا فألوانها التحذيرية ضرورية -في توازن الرعب- لها والطير معًا.
وتوظف ذكور فراش “القمر الأزرق” انعكاس الأشعة فوق البنفسجية، كمرايا جذب الإناث التي تختار الأمثل بهاء، مما قد يعرضها لخطر الأعداء، لكنها تخاطر بحياتها لتؤدي رسالتها (مرتين، ثلاث مرات تزاوج) ثم تقضي نحبها. ويستوقفك “التلون التمويهي/أو السكون بلا حراك، كغصن شجرة اليرقات “العثة الفلفلية” لتتوافق مع محيطها فتعيش وتتكاثر.

أما “حشرة العصا” (الأشباح)، فلا تتضح إلا عندما يهزها ريح فتتأرجح ببطء. ويستخدم “العنكبوت السلطعوني” أطيافًا لونية لخداع الفرائس الحشرية، فيتماهى مع أزهار صفراء وبيضاء ليفترس شغالات النحل.. وتميز هذه الشغالات -بعيونها المركبة وعدساتها الصغيرة- الطيف فوق البنفسجي والمَوجات قصيرة المدى (اللون الأرجواني والأزرق والأصفر).. لذا فأغلب الزهور تُغري النحلات بهذه الألوان الزاهية، لتستفيد منها في نقل حبوب اللقاح من زهرة لأخرى.
والخلاصة: مليون نوع مُصنف من الحيوان والطير في معرض الكون الملون، فينبغي التفكر في أسرار ألوانها، ليس بنظامنا البصري بل بأطياف رؤيتها هي. فالأمر وراثي وغائي ووظيفي (للهوية والبقاء والتكيف والتغذية والتناسل والتقليد والتخفي والتمويه والتحذير والهجوم والهروب).. وتبقى الحاجة لتذوق ألحان الجمال -ومنها ميزان الألوان- ضرورية ومتواصلة. وفي هذا تذوق للإبداع الإلهي.. واعلم أن كل نظرية تفسر نشوء الحياة كمادة ولغرض مادي بحت دون تفسير للقيم الجمالية/الغائية، هي نظريات ناقصة ومبتسرة بل خاسرة. وانهيار إحدى حلقات بنائها يقود لانهيارها كلها.

(*) كاتب وأكاديمي مصري.