الظلال خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، وهي إحدى النعم التي امتن الله بها على البشر، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)(النحل:81).
والظل هو المنطقة التي يكون فيها الضوء محجوبًا جزئيًّا أو كليًّا بسبب وجود جسم يحجب الضوء القادم من مصدر ضوء معين، وفي الطبيعة هذا المصدر هو الشمس.
ولقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتفكر والتأمل في هذه الظاهرة الطبيعية الخلابة، حيث قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا)(الفرقان:45).
فأهمية الظلال تتجلى بشكل يتجاوز بكثير مجرد كونها مناطق خالية من الضوء، لأن هذه الظاهرة الطبيعية لا تؤثر فقط على البيئة، ولكن لها أيضًا تأثيرات جمالية وفنية عميقة.
ومن خلال استكشاف الفوائد البيئية والجمالية والفنية للظل والظلال، يمكننا أن نقدر كيف أن هذه الظواهر البسيطة تعزز حياتنا اليومية وتثري تجاربنا.
فوائد شرعية للظلال
لأول وهلة ربما يكون العنوان غريبًا بعض الشيء، فقبل أن نوضح فوائد الظل والظلال من النواحي البيئية والجمالية والفنية، كان لا بد أن يكون لنا وقفة سريعة مع فوائد الظل من الناحية الشرعية.
فمن عظمة التشريع الإسلامي، أنه ربط العديد من العبادات بظواهر وأجرام طبيعية كالشمس والقمر، حيث يقول المولى عز وجل: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(الإسراء:78)، كما يقول سبحانه وتعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)(البقرة:189).
أما بالنسبة للظل فإنه يستخدم لمعرفة مواقيت الصلوات النهارية (الظهر والعصر)؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، “أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع..”، فهذا الجزء من فعل الرسول عليه الصلاة والسلام والوارد في سنن النسائي، يشير إلى أهمية الظل في تحديد وقت الصلاة، وهو ليس الحديث الوحيد في هذا الباب.
كما أن بعض علماء المسلمين قد عرفوا طريقة تحديد اتجاه مكة المكرمة -قبلة المسلمين- منذ حوالي 800 عامًا، وذلك حين تتعامد الشمس على مكة المكرمة فتنعدم الظلال، وعلى رأس هؤلاء العلماء، العالم الفلكي المسلم “محمود بن محمد بن عمر الجغميني” الذي ألف في عام 1221م كتابًا بعنوان “الملخص في علم الهيئة البسيطة”، ذكر فيه بأنه يمكن القيام بذلك مرتين في السنة عندما يكون موقع الشمس في الانقلاب عند 7 درجات و21 دقيقة في كوكبة الجوزاء، و22 درجة و39 دقيقة في السرطان.
وفي وقت لاحق أشار “نصير الدين الطوسي” (1201-1276م) إلى هذه الطريقة أيضًا وإن كان بدقة أقل من “الجغميني”، حيث ذكر “الطوسي” في كتابه “التذكرة في علم الهيئة”، يومي رصد القبلة بتحديد موقع الشمس على مسير الشمس (8 درجة الجوزاء و23 درجة السرطان).
الفوائد البيئية للظل
إذا انتقلنا لفوائد الظل البيئية نجد أنه يختص بالعديد من الفوائد، يأتي على رأسها تنظيم درجات الحرارة، حيث يلعب الظل دورًا أساسيًّا في تنظيم درجات حرارة البيئة. فالأشجار والنباتات التي توفر الظل، تقلل من حرارة الهواء المباشرة، مما يساعد على تقليل استهلاك الطاقة في التبريد في المدن والمباني بصفة عامة، كما يمكن للظل الناتج عن المباني والأشجار، أن يخفض درجات الحرارة السطحية بنسبة ملحوظة، مما يساهم في التخفيف من ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية.
وربما لا يعرف البعض أن الظلال تساهم في حماية الموارد المائية، فالظل الناتج عن النباتات والأشجار يحد من التبخر المباشر للماء من التربة، وهذا يؤدي إلى الحفاظ على رطوبة التربة، ويساهم في حفظ الموارد المائية الضرورية للحياة البرية والنباتات.
وإذا كان التنفس هو الحياة لكل الكائنات وعلى رأسها الإنسان، فإن الظلال تساهم في تحسين جودة الهواء، فالأشجار التي توفر الظل تعمل أيضًا على تحسين جودة الهواء، فهي تقوم بامتصاص ثاني أكسيد الكربون وإطلاق الأوكسجين، مما يعزز بيئة صحية ونقية.
الفوائد الجمالية للظل
إن قيمة الجمال مقصودة في الخلق الإلهي لهذا الكون، وأحد أهم الأدوار التي يمكن أن تؤديها الظلال هي إثراء البعد الجمالي في عالمنا المحيط.
توفر الظلال مناطق مريحة ومأوى من أشعة الشمس المباشرة، مما يجعل الفضاءات الخارجية أكثر جاذبية للاسترخاء، ولا شك أن الحدائق والشرفات والمناطق العامة التي تحتوي على أماكن مظللة، تجذب الناس وتدعوهم للاستمتاع بالهواء الطلق.
كما أن الشوارع المظللة تكون أكثر جذبًا للناس للسير فيها، ليس فقط للحماية من أشعة الشمس، ولكن أيضًا للأثر النفسي والجمالي، ولك أن تتخيل أنك تسير في شارع يزدان بظل الأشجار وما يحتويه هذا المشهد من جماليات ظاهرة وملموسة، بعكس أن تكون شوارع وفراغات المدينة خالية من الأشجار بظلالها الوارفة. تلعب الظلال أيضًا دورًا أساسيًّا في تعزيز جماليات الألوان في الطبيعة، حيث يمكن للظل أن يكوِّن تباينًا مثيرًا بين الألوان، ويضفي عمقًا على المشاهد الطبيعية أو العمرانية، مما يضيف لمسة جمالية لا تخطئها العين البشرية.
الفوائد الفنية للظل
للظل والظلال تأثيرات بصرية وتعبيرية؛ في الفن والتصوير والعمارة، حيث يستخدم الفنان أو المصمم الظلال لإضافة عمق بُعدي وتوجيه الانتباه، فالظلال تعزز من التأثيرات البصرية وتُظهر الأشكال بطريقة أكثر ديناميكية في العمل الفني، ويمكن للفنانين والمصممين استخدام الظلال لإيجاد تباينات دراماتيكية وتعبيرات فنية قوية.
كما تلعب الظلال دورًا هامًّا في تحفيز الإبداع الفني بصورة عامة، من خلال دراسة كيف تتغير الظلال مع الحركة وتغيرات الضوء، يمكن للفنانين والمصممين استلهام أفكار جديدة وتصميمات مبتكرة، فظلال الأشياء والعناصر تعكس طبيعة الحركة والتغير، مما يفتح المجال للتجربة والابتكار.
ولك أن تتأمل -على سبيل المثال- واجهة مبنى لا يوجد فيه أي بروزات أو أعماق، فتجد أن شكل الواجهة يظل ثابتًا عبر ساعات النهار المختلفة، في حين أن واجهات المباني التي تحتوي على بروزات في شكل بلكونات أو مشربيات أو أجزاء غاطسة، تمتاز بالحيوية والتنوع البصري باختلاف زوايا سقوط الإشعاع الشمسي على مدى ساعات النهار المختلفة.
الظل في عالم الأدب والشعر
الظل والظلال عنصران مهمان في الأدب والشعر، حيث يرمزان إلى معانٍ متعددة، ويستخدمان لتوصيل الأفكار والمشاعر بطريقة عميقة ومؤثرة.
فغالبًا ما يُستخدم الظل والظلال كرموز لأفكار أو مشاعر محددة.. يمكن أن يرمز الظل إلى الغموض والخوف أو الماضي، بينما قد تمثل الظلال مشاعر الحزن والندم أو الذكريات.. فيمكن أن يكون للظل والظلال دلالات نفسية قوية في الشعر قد تعبر عن حالة الذهن للشخصية، مثل الشعور بالضياع أو الانعزال، أو يمكن أن تمثل الصراعات الداخلية والأزمات العاطفية.
فها هو الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” استخدم الظل كرمز للوجود والماضي في قصيدته “في حضرة الغياب”:
في حضرة الغياب تتعدد الظلال
الظل يسرق منك معناك
ويتركك على حافة الوهم
أما الظل والظلال في عالم الأدب والقصة، فيمكن أن تستخدم لتصوير تحولات الزمن وتأثيرها على الشخصيات والأحداث.. قد تعكس الظلال التغيرات في الحالة المزاجية للشخصيات أو تتبع مسارات حياتهم؛ ففي رواية “الغريب” الشهيرة -على سبيل المثال- يتناول مؤلفها “ألبير كامو” موضوع الظل بشكل فلسفي، حيث يُظهر الشخصية الرئيسة “مورسول” وهو يعيش في حالة من اللامبالاة والغربة، في عالم يعج بالظلال، ولا يرى في الحياة سوى عبثية قاتمة، فيقول “كامو”: “كنتُ أتحرك في الظل، ولكنني لم أستطع أن أفر من حرارة الشمس التي تحرقني، كانت الشمس دائمًا هناك، وكنتُ أعلم أنني سأبقى تحتها إلى الأبد”.
كما أن الظل يمكن أن يكون وسيلة لتوضيح التباين بين الضوء والظلام، والخير والشر، أو الحضور والغياب.. ويمكن أن يضيف هذا التباين عمقًا للمشاهد والأحداث، ويعزز التوتر الدرامي في العمل الأدبي.
الخاتمة
الظل ليس مجرد ظاهرة طبيعية تحدث نتيجة انحجاب الضوء، بل هو رمز غني بالدلالات والمعاني في مختلف الثقافات والآداب.. ويمثل الظل الغموض والتردد والوجود المزدوج بين الحضور والغياب، كما يعكس بُعدًا فلسفيًّا عميقًا، حيث يُنظر إليه كظل للوجود نفسه، وعلامة على مرور الزمن واللحظات التي تذوب في الماضي.. إنه يذكرنا بأن الحياة مليئة بالأبعاد التي قد لا نراها مباشرة لكنها حاضرة باستمرار، تشكل جزءًا من تجربتنا الإنسانية، وفي نهاية المطاف، يظل الظل رمزًا معبرًا عن تلك المساحات الخفية من النفس والكون، التي تحتاج إلى التأمل والتفكير لاستيعابها.
وأخيرًا دعونا نتذكر أيضًا، أن الظل هو أحد المتع الحسية بالجنة، حيث الظل الممدود الباقي الذي لا تنسخه الشمس، يقول الله تعالى: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ)(الواقعة:٣٠-31)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب في ظلّها مائةَ عام لا يقطعُها، واقرؤوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ)“ (رواه الترمذي).
(*) أستاذ ورئيس قسم العمارة بمعهد الطيران / مصر.