الوجه الحقيقي للتفاهة

اليوم، وبسرعة نبتت التفاهة شجرة تعاظمت بسرعة البرق، أورقت وأثمرت، وخلقت لها جمهورًا عريضًا يمجدها، يصفق لها، ويعلق بالموافقة والاستزادة من ثمارها، فهو يعيش مستلِذًّا نكهة طعمها، مستظلًّا بظلالها التي تقيه من حر الجدية والتميز الحقيقي…

تقدمت التفاهة واستفحلت وتحولت إلى دخان كثيف يغطي وجه المعقول ووجه الرصانة في الإنتاج الثقافي والقيمي الذي يحفظ للإنسان صدارته بين الكائنات.

التفاهة تضحك على مواقع التواصل الاجتماعي التي لا أبواب تنتقي من يريد الولوج إليها، تضحك لأنها منتصرة، تضحك لأنها ساخرة متهكمة على جماهيرها الذين نصبوها بطلة وبوصلة توجههم إلى أدغالها التي تزيد من تدجينهم، هناك يشربون عصير التفاهة، وخمر التفاهة، وماء التفاهة، يتحولون إلى بذور التفاهة، يضحكون بلا سبب، يخلعون ما يستر بشاعتهم، يقلبون الحقائق، يحولونها إلى نقائق مسمومة، فيتحولون إلى البذور الممتازة للتفاهة، يجذبون، يعلنون بملء أفواههم، فيصنعون أمثالهم، يكونون معًا مجتمعات تحارب الرصانة والرزانة والتعقل والجد والكد والسعي والوعي.

تقدمي واستفحلي أيتها التفاهة، فالتافهون عظموكِ فتعاظمت، وسيَّدوكِ فسُدْتِ، وفضلوكِ فصرت منبعًا للفضيلة افتراء، جعلوكِ تحضرين في كل مجال، وفرضتِ نفسك في كل الوجبات اليومية، أينما وليتِ وجهكِ وجدتِ من يقابلكِ، صرتِ الظل والمرآة، وصرتِ الثوب والمسكن، كالحرباء تتلونين فيجد كل أهلك ألوانهم، فلا يغتاظ منكِ أحد، ولا يشير إليكِ أحد إشارة نقصان أو هوان، صرفتِ الشبان والشابات والتلاميذ والتلميذات عن الكد والجد والسعي وشحذ المهارات واكتساب الخبرات، فصار الكل قطيعًا ينتظر أغذيتكِ الفاسدة المتبلة بتوابل الخداع والخنوع.

صرتِ قبلة للنجاح والفلاح، صرتِ المعيار، وسكنتِ المخيال، وملأتِ شعب الحلم، صرتِ سيدتها، تطوقين العيون بالليل والنهار، في الراحة والتعب، في الصحة والمرض، دجنتِ النفوس، أطعمتيها من سخائك الفياض، فتناسل روادك، يحيونك أنَّى وأيان اتجهت وأنت تنثرين عليهم مزيدًا من بذور الخواء والإغواء والإغراء بلا حد ولا سد.

صدق من اعتبركِ صيادة بشباكها العريضة تمكنت من الملايين، يدخلون شباكك طواعية، عكس شباك الصيادين المعروفة التي يبذلون جهودًا مضنية في نصبها وعرضها وجرها وجمعها، كي يحصلوا على عرات الأسماك إن حصل.

يسرت النجاح وجمع المال، والاستهانة بالمآل فصار المشهور بلا مقابل مشهورًا، وصار كل من يعرف الرقصات والكلمات الجوفاء مشهورًا… صارت الشهرة بين يديك مباحة كما الحصى في الطريق، وكما الرمال على الشواطئ.

عبدتِ الطرق نحو الثراء السريع بلا مقدمات متعبة، بلا مهارات تكتسب عبر مسافات زمنية طويلة، فهل تستطيعين الوفاء بما تعدين يوم لا ينفع سوى الجهد الحقيق والكد المبني على العزيمة والحزم في هزم الكسل، والتهاون عملاً، وقيمًا، وأخلاقًا.

أشعتِ وسائل الابتهاج والاغتباط والحبور والمسرات بصفر درهم.. لكنكِ كشفت الأسرار والعورات، قتلتِ الأخلاق بالاختراق، وتقدمتِ بالجموع نحو الغباء بمشتقاته، والحماقة بكل أفراد أسرتها، والطيش بكل ألوانه، والغباوة بكل أطيافه.

الشرذمات لا ترى سوى لذاتك المتلاحقة، ولا ترى شراستك في التدميرات اللاحقة..

أيتها التفاهة طوبى لكِ، لكِ كل الافتراس في عالم هاجرته العقول المفكرة، وترهل تمسكنا بالثقافة الأصيلة المحددة لهويتنا العتيدة، فصرتِ البديل بسخافتك التي صنعت لها أبواقًا ومواقع في كل أقطار الدنيا تنادي الراغبين في الشهرة واللمعان الجذاب.

أيتها التفاهة رفقًا بالقلوب، بالعقول، والنفوس المنهارة بالانحلال والتفسخ الفظيع، كفى هزلاً في عصر يقتضي الكد والجد… يقتضي التحرر والانعتاق، يقتضي الجد ومغادرة أحصنة الكسل، يقتضي الإيمان الجازم بضرورة النهوض من أجل مستقبل يعود على الجميع بالرفاه الحقيقي.

أيتها التفاهة كفى سخرية من روادكِ الأوفياء… كفى سخرية ممن سيكتشفون كونهم سائرين نحو السراب وهم يبحثون عن الشراب… كفى تهكمًا على جذور الحياء في نفوسنا… كفى ثناءً ومدحًا للفضائح الشامتة بقيم الإنسان باعتباره خير الأنام.

عذرًا أيتها التفاهة فأتباعك جهلة اتخذوكِ أمًّا لهم تعطيهم من عظاتك ونوادرك المضحكة ليضحكوا ويملأ البشر وجوهمم وقلوبهم.

وصدق فيكِ قول أبي الطيب المتنبي:

ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
لا يَخدَعَنَّكَ مِن عَدُوٍّ دَمعُهُ وَارحَم شَبابَكَ مِن عَدُوٍّ تَرحَمُ
لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ
يُؤذي القَليلُ مِنَ اللِئامِ بِطَبعِهِ مَن لا يَقِلُّ كَما يَقِلُّ وَيَلؤُمُ
الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ

فيا أيتها التفاهة، كفاكِ جرمًا؛ فقد جعلتِ ذوي الألباب يشقون منزعجين مغتاظين، والجهلة يبتسمون، ويمرحون منخدعين من عدو يلتهم زهور عمرهم وخضرة حياتهم، كفاكِ من المساس بالشرف الرفيع بأذاكِ الذي استفحل فصار سحابة تخفي وجه الحقيقة.