إياس القاضي في حكايا التراث الأدبي العربي

إياس القاضي؛ هو أبو واثلة إياس بن معاوية بن قرة المزني، قاضي البصرة في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، وُلِد سنة 46 للهجرة في منطقة اليمامة في نجد، وانتقل مع أسرته إلى البصرة، وبها نشأ وتعلَّم، وتردَّد على دمشق في يفاعته، وأخذ عمن أدركهم من بقايا الصحابة الكرام وجلة التابعين، وإياس أحد أعاجيب الدهر في الفطنة، وأحد من يُضرب به المثل في الذكاء، كما كان إياس بن معاوية من أفقه أهل البصرة، فلما قدم إلى مدينة واسط جعل الناس يقولون قدم البصري قدم البصري، فأتاه ابن شبرمة بمسائل قد أعدها له وجلس بين يديه وقال له: أتأذن لي أن أسألك؟ قال إياس: إن كانت لا تعيب القائل، ولا تؤذي الجليس فسل، فسأله ابن شبرمة عن بضع وسبعين مسألة فما اختلفا يومئذ إلا في ثلاث مسائل أو أربع رده فيها إياس. وقال عنه الجاحظ: “إياس من مفاخر مضر ومن مقدمي القضاة، كان صادق الحدس، نقابًا، عجيب الفراسة، ملهمًا وجيهًا عند الخلفاء”. بلغ إياسُ بن معاوية السادسة والسبعين من عمره وتوفي عام 122هـ.

وإياس شخصية لها تأثيرها ومكانتها في التراث العربي والإسلامي، والقصص والشواهد والنصوص التي تبرز الجوانب المضيئة في حياته، وجوانب العبقرية التي عرفت عنه تملأ كتب التراث. سوف نحاول أن نلمس في هذه العجالة بعض هذه القصص والشواهد والنصوص.

– قيل لإياس بن معاوية: ما فيك عيب غير أنك تُكثر الكلام وتُعجب بنفسك، وتقعد حيث وجدت. فقال: أما الكلام فحسن ما أقول؟ قال: نعم. قال: فكلما كُثر من الحسن كان خيرًا. وأما القعود حيث وجدت فحيث قعدت كنت. وأما الإعجاب فلا أكذبك إذا أضفت نفسي إلى أمثالك أعجبتني.

– كان في زمان إياس بن معاوية القاضي رجل مشهور بين الناس بالأمانة، فاتفق أن رجلاً أراد أن يحج فأودع عند ذلك الرجل الأمين كيسًا فيه جملة من الذهب، ثم حج فلما عاد من حجه جاء إلى ذلك الرجل وطلب كيسه منه، فأنكره وجحده. فجاء إلى القاضي إياس وقص عليه القصة، فقال القاضي: هل أخبرت بذلك أحدًا غيري؟ قال: لا، قال: فهل علم الرجل أنك أتيت إلي؟ قال: لا. قال: انصرف واكتم أمرك ثم عد إلي بعد غد، فانصرف. ثم إن القاضي دعا ذلك الرجل المستودَع، فقال: قد حصل عندي أموال كثيرة ورأيت أن أودعها عندك فاذهب وهيئ لها موضعًا حصينًا، فمضى ذلك الرجل وحضر صاحب الوديعة بعد ذهاب الرجل. فقال له القاضي إياس: امض إلى خصمك واطلب منه وديعتك فإن جحدك فقل له امض معي إلى القاضي إياس أتحاكم أنا وأنت عنده. فلما جاء إليه دفع إليه وديعته، فجاء إلى القاضي وأعلمه بذلك. ثم إن ذلك الرجل المستودَع جاء إلى القاضي طامعًا في تسليم المال فنحره القاضي وطرده.

– تحاكمت امرأتان إلى إياس القاضي في كبة غزل، فقال لإحداهما: على أي شيء كببت غزلك؟ قالت: على كسرة، وقال للأخرى: على أي شيء كببت غزلك؟ قالت: على خرقة، فنقضت الكبة فإذا هي على كسرة. فسمع بذلك ابن سيرين فقال: ويح له، فما أفهمه! (الكُبَّةُ من الغَزْل: ما جُمع منه على شكل كُرةٍ أَو أُسطوانة).

– قال ابن إياس: ما غلبني إلا رجل جاء يشهد لآخر بملكية مزرعة نخل، فسألته: وما عدد النخل في المزرعة؟ فقال: لا أعلم عدده بالضبط، فقلت: وكيف تشهد إذن؟ فقال: أصلح الله القاضي، كم لك تقضي في هذا المجلس؟ قلت عشرين سنة، فرفع رأسه إلى خشب السقف وقال: فكم عدد الخشب في هذا المجلس؟ قلت: لا أعلم.. وأجزت شهادته!

– لما تولى إياس القضاء تحاكم إليه رجلان في مال، فجحد المدعى عليه، فقال إياس للمدعي: أين دفعت إليه المال؟ قال المدعي: عند شجرة في بستان، فقال له إياس: اذهب إلى تلك الشجرة لعلك تتذكر المال، فذهب الرجل المدعي، وأمسك إياس المدعى عليه عنده، ثم سأله بعد ساعة: أترى خصمك وصل إلى تلك الشجرة؟ قال: نعم، فقال إياس: يا عدو الله يا خائن، قم وأدِّ إليه ماله، فأقر المدعى عليه بالمال.

– قال إياس لرجل يجلس إليه: ما حرفتك؟ قال: التوكل على ربي والثقة بما عنده، فقال ابن إياس: الثقة بربك تحرم عليك إصلاح معيشتك! أوما علمت أن طلب ما تعف به عن المسألة حزم، والعجز عنه فشل، والفقر مفسده للتقي، متهم للبريء، ولا يرضى به إلا الدنيء.

– دخل إياس بن معاوية مدينة واسط فقال لأهلها بعد أيام: يوم قدمت بلدكم عرفت خياركم من شراركم، قالوا: كيف؟ قال: معنا قوم خيار ألفوا منكم قومًا، ومعنا قوم شرار ألفوا قومًا أيضًا، فعلمت أن خياركم من ألفه خيارنا وشراركم من ألفه شرارنا.

– قيل للقاضي إياس: لم تُعجل القضاء؟ فقال للسائل: كم لكفك من إصبع؟ قال: خمس. قال: عجلت. قال: لم يعجل من قال بعدما قتل الشيء علمًا ويقينًا. قال إياس: فهذا هو جوابي لك.

– كتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله ليجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة، ثم يختار لوظيفة القضاء أعلمهما بالشرع. فأرسل إليهما الوالي وكان كل منهما يريد أن يتهرب من هذه الوظيفة. فقال إياس للوالي: سل عني وعنه الفقيهين: الحسن البصري، وابن سيرين. وكان أبو القاسم يتردد على هذين الفقيهين، فهما يعرفانه معرفة جيدة في حين أن إياس لم يكن له بهما أدنى معرفة. وقد أراد إياس بهذه النصيحة أن تكون النتيجة في صالحه، فيعفى من التعيين، ويختص به أبو القاسم. فأدرك أبو القاسم ما يهدف إليه إياس، فقال: لا تسل عني وعنه، فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء. فإن كنت كاذبًا فلا يجوز أن توليني القضاء وأنا كاذب. وإن كنت صادقًا فينبغي أن تقبل قولي. فقال إياس: أيها الأمير، إنك جئت برجل وقفت به على حافة جهنم، فنجى نفسه بيمين كاذبة يستغفر الله تعالى منها، وينجو مما يخاف. فقال الوالي: أما إذا فهمتها فأنت لها، وعينه قاضيًا.

– تولى القاضي إياس قضاء البصرة في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فجاء رجل ذات يوم وسأله: هل ترى علي من بأس إذا أكلت تمرًا؟ قال: لا. قال: فهل ترى علي من بأس إذا أكلت معه كيسومًا؟ قال: لا. قال: فإن شربت عليهما ماءً؟ قال: جائز. قال: فلم تحرم السكر، وهو ما ذكرت؟ قال له إياس: لو صببت عليك ماءً، هل كان يضرك؟ قال: لا. قال: فلو نثرت عليك ترابًا، هل كان يضرك؟ قال: لا. قال: فإن أخذت ذلك فخلطته وعجنته وجعلت منه لبنة عظيمة، ثم جففتها، وضربت بها رأسك، هل كان يضرك؟ قال: كنت تقتلني، قال القاضي: هذا مثل ذاك. (كيسوم: أعشاب تخلط بالتمر حتى يتخمر).

وختامًا:

– قال معاوية بن قُرِّةَ المزني لابنه القاضي إياس: “إنّ النّاس يَلِدون أبناءً، وولِدتُ أنا أبًا”.

– قال إياس القاضي: “إني لأكلم الناس بنصف عقلي، فإذا اختصم إلي اثنان جمعت لهما عقلي”.

– قال رجل لإياس القاضي: “إنك لتعجب برأيك، فقال: لولا ذلك لم أقض به”.

– قال رجل لإياس القاضي: “إن فيك خصالاً لا تعجبي، فقال: ما هي؟ فقال: تحكم قبل أن تفهم، ولا تجالس كل أحد، وتلبس الثياب الغليظة، فقال له: أيها أكثر الثلاثة أو الاثنان؟ قال: الثلاثة. فقال: ما أسرع ما فهمت وأجبت. فقال: أو يجهل هذا أحد؟ فقال: وكذلك ما أحكم أنا به. وأما أمر مجالستي، فلأن أجلس مع من يعرف لي قدري أحب إلي من أن أجلس مع من لا يعرف لي قدري، وأما الثياب الغلاظ فأنا ألبس منها ما يقيني لا ما أقيه أنا”.