تعد اللغة العربية من أهم اللغات العالمية التي استطاعت أن تتبوأ مكانة عالمية في المحفل الدولي، نظرًا لإمكاناتها الحضارية والثقافية التي تحفل بها، وقدرتها على التفاعل الإيجابي والخلاق مع باقي اللغات العالمية الأساسية وفي مقدمتها اللغات الأوربية مثل اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وغيرها، أو على مستوى تعبيرها عن القيم الإنسانية المشتركة فضلاً عن إمكانياتها في إنتاج المعارف، ومشاركتها الفعالة عبر التاريخ الإنساني في التقدم الحضاري والتأثير الفعال بمختلف المجالات المعرفية سواء الفكرية منها أو العلمية على حدٍّ سواءٍ.
وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 عام 1973 الذي بموجبه تم إدراج اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وهو أمر جعل اللغة العربية تحظى باهتمام كبير من لدن العالم بأكمله. وخصصت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) للمرة الأولى باليوم العالمي للغة العربية عام 2012، وجعلت من هذا اليوم من كل سنة مناسبة لتسليط الضوء على الإرث الغني للغة العربية وإبراز مساهماتها العديدة والمتنوعة في إثراء التنوع الثقافي واللغوي للإنسانية جمعاء.
ويشير الموقع الرسمي لمنظمة اليونسكو إلى الأهمية الكبيرة التي تحظى بها اللغة العربية في العالم، فهي تمثل ركنًا من أركان التنوع الثقافي للبشرية، وهي إحدى اللغات الأكثر انتشارًا واستخدامًا في العالم، إذ يتكلّمها يوميًّا ما يزيد على 400 مليون نسمة من سكان المعمورة، فهي إحدى أهم اللغات المنتشرة، سواء في المنطقة العربية وفي مناطق أخرى مجاورة مثل تركيا وتشاد، ومالي، والسنغال وإرتيريا. وهي تحضر أيضًا في كل بقاع العالم، بحيث يتم تدريسها في مختلف الجامعات والكليات في أوربا وأمريكا والصين، ومدارس البعثات الأجنبية مثل باقي اللغات العالمية الأخرى، فهي تمثل إضافة نوعية للذين يتعلمونها، وتفتح لهم آفاقًا جديدة تسهم في حضورهم الثقافي بشكل عام.
تفرد اللغة العربية
اللغة العربية هي لغة عالمية بامتياز، لغة حية تساير العصر وتتجدد باستمرار في أفق إنساني منفتح على كل اللغات والثقافات العالمية الأخرى. وقديمًا وحديثًا أشاد الشعراء باللغة العربية، والتغني بجمالها وإظهار الإعجاب الكبير بما تتوافر عليه من جمال فقال أمير الشعراء أحمد شوقي فيها:
إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا جعل الجمال وسره في الضاد
كما نجد شاعر النيل حافظ إبراهيم يقول على لسانها واصفًا ما تتوافر عليه من درر، ما يلي:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
وقد حضرت اللغة العربية أيضًا بقوةٍ في التشكيل الفني العربي عبر كتاباتها بأنواع متعددة من الخط العربي والرسم بها أيضًا، ما جعلها حاضرة بقوة في متاحف الفن التشكيلي عبر العالم كله. إن هذا الجمال الفني، سواء الداخلي منه حيث نجد فيها موسيقى داخلية قوية تجلت بخاصة في الشعر العربي أو الخارجي منه بحيث تتم كتابتها بشكل فني بديع، هذا الجمال الفني جعل العربية تُعبر عن المشترك الإنساني الفني شعرًا وتشكيلاً بفنية كبيرة، كما جعلها تسهم في تطوير الفنون التشكيلية وإضفاء طابع عربي عليها.
وتعد اللغة العربية من أقدم اللغات السامية التي استطاعت أن تُساير مختلف العصور وتتطور وتتجدد باستمرار، محافظة على كيانها وجذورها العميقة. وبالطبع، للغة العربية أهمية قصوى لدى المسلمين، فهي لغة مقدسة باعتبارها لغة القرآن الكريم. وقد ساهم هذا الأمر في الحفاظ على اللغة العربية واستمراريتها وحضورها الدائم وإشعاعها الكبير في إطار التبادل الثقافي والحوار الحضاري مع مختلف الثقافات الأخرى.
وقد استطاعت اللغة العربية أن تحتفظ بكل التراث الإنساني العالمي قديمًا؛ حيث ساهمت في بقاءه وذلك من خلال عملية ترجمته إليها، بداية من عصر الخلافة الأموية انتقالاً إلى «بيت الحكمة» الذي أسسه الخليفة العباسي المأمون ومساهمته الكبيرة في نقل الفلسفة اليونانية والرومانية، وقد استفاد الغرب في نهضته من هذا العمل الفكري الكبير وأشاد علماء الغرب بدور اللغة العربية الهام، وهذا ما أكدته الباحثة الألمانية سيغريد هونكه في كتابها المعروف «شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوربا»، وأكد عليه الباحث الفرنسي جون بريفوست في كتابه «أسلافنا العرب: ما تَدينُ به لغتنا لهم»، ويبين هذا الكتاب انتقال كثيرٌ من الكلمات العربية إلى اللغة الفرنسية ومنها ما يتعلق بالمأكولات والمشروبات مثل الليمون والقهوة والسكر وغيرها، وفي مجال الرياضيات الصفر والجبر والخوارزمي، وفي مجال الفنون الموسيقى وغير ذلك، وهو ما يُبين لنا أهمية اللغة العربية وقدرتها على التأثير في اللغات العالمية وأن تقترض هذه اللغات الكثير من الكلمات منها، وفي مختلف المجالات العلمية والاجتماعية والفنية وغيرها.
كما تتميز العربية بالقدرة على الاستعارة من هذه اللغات وإغناء معجمها بها، وإدراجها بكل سهولة في بنيتها اللغوية، مما يوضح أنها لغة حية وقادرة على مسايرة العصر، فقد استقبلت مثل غيرها من اللغات العالمية كلمات ومفاهيم جديدة مثل الإنترنت، والتلفزيون، والجوال، واستعملتها بمدلولاتها الأصلية. وهو ما أكدته الباحثة العربية جمانة الصباغ بقولها: «تتميز اللغة العربية بقدرتها على التعريب واحتواء الألفاظ من اللغات الأخرى بشروط دقيقة ومُعينة، فيها خاصية الترادف والأضداد والمشتركات اللفظية، وتتميز كذلك بظاهرة المجاز، والطباق، والجناس، والمقابلة والسجع، والتشبيه، وبفنون اللفظ كالبلاغة والفصاحة، وما تحويه من محسّنات».
وتمتلك اللغة العربية نظامًا اشتقاقيًّا فريدًا يتيح لها توليد ملايين الكلمات الجديدة ونتيجة خصائص اللغة العربية وقدرتها على التلاقح الحضاري والمشترك الإنساني العام، وحضورها بقوة في مجال الإنترنت، بحيث تعد من بين اللغات العالمية السبع الأكثر حضورًا فيه، وهو أمر يجعلها تُسهم بشكل فعال في ترسيخ القيم الإنسانية المشتركة.
وقد استطاعت العربية التعامل مع مجال التقنيات الرقمية والتواصل الإلكتروني في كل المجالات، بدايةً من الهاتف المحمول وصولاً إلى مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام وغيرها، وهذه الكلمات تدخل في باب الاقتراض اللغوي الذي سبقت الإشارة إليه، حيث بدأت عمليات تداول كلمات جديدة مثل «الحظر»، و«علامات الإعجاب» وتوظيفها بكل أريحية لغوية، كما أن حضور اللغة العربية في البرامج الثقافية والترفيهية والرياضية في اليوتيوب أمر معتاد مثلها في ذلك مثل باقي اللغات العالمية الأخرى، كما أن لها حضورًا في البرمجيات المتعلقة بالترجمة، حيث تتم الترجمة منها وإليها بكامل السهولة، وهو ما يدل على قوتها وتوفرها على بنية تركيبية مرنة تسمح بعملية التلاقح بينها وبين اللغات العالمية الأخرى.
ويعد المجال الإعلامي وسيلة للتواصل الإنساني ونقل المعلومات والمعارف، ليس فقط داخل البلد الواحد وإنما بين مختلف بلدان العالم، ونظرًا لأهمية اللغة العربية ضمن اللغات العالمية الأكثر حضورًا، فقد وجدنا العديد من البلدان العالمية وعبر قنواتها الإعلامية المتعددة اللغات تولي اللغة العربية أهمية كبيرة، وتخصص لها قناة ناطقة بها مثلما هو الأمر مع قناة «الحرة» الأمريكية أو قناة «فرنسا 24» الفرنسية أو غيرها من القنوات العالمية الأخرى.
وتؤكد منظمة اليونسكو أن العربية «أبدعت بمختلف أشكالها وأساليبها الشفهية والمكتوبة والفصيحة والعامية، ومختلف خطوطها وفنونها النثرية والشعرية، آيات جمالية رائعة تأسر القلوب وتخلب الألباب في ميادين متنوعة تضم على سبيل المثال لا الحصر.. الهندسة، والشعر، والفلسفة، والغناء. وتتيح اللغة العربية الدخول إلى عالم زاخر بالتنوع بجميع أشكاله وصوره، ومنها تنوع الأصول والمشارب والمعتقدات». وهذا ما جعل اللغة العربية تحظى به وتعتز بكونها لغة عالمية تسهم في التراث الثقافي العالمي بمختلف مظاهره الحضارية الراقية.
إن اللغة العربية هي قلب معادلة التحدي الحضاري الذي تخوضه بلادنا، ولا يمكن أن الفوز في هذه المعادلة ما لم نعتز بلغتنا، ونجعلها فاعلة في حياتنا على مستويات الفكر والثقافة والعلوم والمعرفة والإعلام، ولغتنا قادرة على خوض التحدي والفوز فيه، مثلما فعلت طوال القرون الماضية.
المراجع:
على القاسمي (2008)، علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، بيروت، لبنان: ناشرون، ط1.
نور الدين محقق (2023): اللغة العربية ومساهماتها في الحضارة والثقافة الإنسانية، مجلة العربي، العدد (771)، ص 90-93.