منذ تكحلت أعين الزمان والمكان بنزول الذكر الحكيم، وما تواتر من مطلوبه إلى الناس أن يتدبروه ويتفهموه؛ وهدير نوره لم ينقطع عن هذا الوجود الحي، يعمره بالهداية ويحيطه بالرحمة، ويستنقذه من العذاب والضيق.
والتعرض لهذا الهدير المنسكب من النور، متوافر السبيل؛ فقد شرَّع الله سبحانه للمؤمنين به، وشيد لهم منارات سامقة ضامنة لمن استهدى به أن يعمر قلبه وعقله وحياته كلها بهذا النور. وهذه المنارات هي مطلوب الله من الأمة نحو هذا الكتاب العزيز، وتتلخص صور هذا المطلوب فيما يلي:
١- الارتقاء والاستشفاء بالاستماع إليه: يقول تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(الأعراف:٢٠٤).
٢- التسامي بقراءته وتلاوته وترتيله: يقول تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)(البقرة:١٢١)، ويقول تعالى: (وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتَيلاً)(المزمل:٤).
٣- تنمية العقل وتصفية القلب بتدبره: يقول تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ)(ص:٢٩).
٤- إعمار الحياة بتشغيله وتحكيمه فيها: يقول تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء:٦٥)، ويقول تعالى: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)(الأنعام:١٠٦).
هل ثمة حاجة إلى تفسير جديد للقرآن؟
منذ نزل الكتاب العزيز وهو مشغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة وجمعًا له في صدره، وبلاغًا وبيانًا إلى الناس، وحركة وتشغيلاً في الوجود.. ثم لحق بربه الكريم بعد أن أدى الأمانة ووفى الأداء على الغاية، ثم أظل الوجود زمان الصحابة عليهم الرضوان، وإذا بهم ينهضون من جديد بتفسير الكتاب العزيز فيما عرف تاريخيًّا باسم تفاسير الصحابة؛ فتفجرت المسألة! هل ثمة حاجة إلى تفسير جديد للقرآن الكريم؟! وكان الجواب على الإجمال أن: نعم ونعمًّا ونُعَمى عين. وكانت ثمة إشارات على طريق الجواب المفصل الذي سنعالجه هنا، وهذه الإشارات هي:
أولاً: تواتر الأخبار بتنزل جبريل عليه السلام، وجبريل هو أمين الوحي الذي نزل بالذكر الحكيم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتعهد إيصاله إليه، وتعهد القيام على أمر تثبيته في الأرض. وهذا التنزل استمر منذ زمان التنزيل أيام نهوض النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة ربه، واستمر إلى يوم الناس، هذا فيما أخبرت به سورة “القدْر”، يقول تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)(القدر:٤)؛ يقول الطاهر بن عاشور في “التحرير والتنوير”: “والتعبير بالفعل المضارع في قوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ) مؤذن بأن هذا التنزل متكرر في المستقبل بعد نزول هذه السورة”.
ثانيًا: استعلان أمر تغير الأزمان، وحدوث الحادثات، وظهور المشكلات التي لم تكن من قبل، والكتاب العزيز منهج خاتم لا منهج بعده، والأمة مأمورة بالتهدي بهديه.
ثالثًا: استقرار أصل تفسير الكتاب العزيز وفق قاعدة “القرآن يفسره الزمان” كما قرر سادتنا علماء أصول التفسير فيما جاء مرويًّا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الدلائل القائمة على الحاجة المستمرة لتدبر القرآن
الدلائل القائمة على الحاجة المستمرة لتدبر القرآن الكريم على هدي الإيمان بتنزله المتجدد؛ بهذا المعنى، إن فحص الدلائل على طريق الجواب المفصل عن سؤال الحاجة إلى تفسير جديد للكتاب العزيز يتأسس على رعاية الزمان، يكشف عن ظهور الدلائل التالية:
١- قيام الدليل على أن الذكر الحكيم هو الكتاب الخاتم للوحي، ولما كان الأمر كذلك استقر أن هذا الكتاب هو منهج مواجهة الأزمات على امتداد الزمان.
٢- قيام الدليل على وعي علماء أصول التفسير وعلماء علوم القرآن الكريم بأن القرآن الكريم يفسره الزمان، وأنه مرن حمَّال أوجه، وأن من خصائصه كما جاء في الآثار أنه: لا يخلق على كثرة الرد، ومعنى هذه العبارة القاعدة: أنه لايبلى، أي أنه متجدد دومًا.
٣- قيام الدليل من التجربة التاريخية في الأمة على نهوض أجيال الصحابة والتابعين ومن جاء بعد السلف من أجيال الخلف، بتفسير الكتاب العزيز وتنويع منهجيات هذا التفسير ورعاية للمطالب المستجدة في الأمة، ومواجهة للنوازل والحادثات والأزمات.
ومن ثم نقرر أن الدعوة إلى تفسير الكتاب العزيز تفسيرًا حضاريًّا، مطلب ملح ولا سيما أننا نعيش أجواء قرون مظلمة، يتعرض فيها العالم الإسلامي لتهديد “زوال هويته الحضارية” على حد تعبير الدكتور “خالص جلبي” في كتابه “في النقد الذاتي.. ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية”.
كأن القرآن يتنزل من جديد: إستراتيجيات العمل
إن الدعوة أو الفكرة التي تقرر أن الأمة مطالبة أن تشغل مفهوم التنزل المتجدد للقرآن الكريم، لتستهدي به في مواجهة التهديدات الوجودية، تنهض على تنفيذ الإستراتجيات التالية:
أ- تشغيل قاعدة القرآن يفسره الزمان؛ أي النظر في الكتاب كله استلهامًا لسننه الحضارية الكونية، لاستنباط تفسير يواجه مطالب اللحظة المأزومة الراهنة.
بـ- تشغيل قاعدة القرآن تفسره قواعد اللسان، ولا سيما بعد التطور المذهل الذي حققته اللسانيات أو العلوم اللغوية؛ إنْ على المستويات اللغوية الصوتية؛ والصرفية والتركيبية والمعجمية والدلالية، وإنْ من منظور المنهجيات والمدارس اللسانية؛ السياقية والنصية والتداولية وغيرها.
نماذج عملية
إن فحص هذه الدعوة الجديدة للتشغيل الحضاري لتفسير الكتاب العزيز على خلفية الوعي بتنزله المتجدد بهذا المعنى، الذي يتقرر معه قدرته على مواجهة أزمات الوجود الراهنة والمستقبلية، بوصف ذلك ترجمة لكون القرآن الكريم الكتاب الخاتم، وترجمة لحقيقة تنزل جبريل المستمر بعد انقطاع الوحي أو بعد انقطاع التنزل بالمعنى الحقيقي، وهو الأمر الذي يفتح الأفق أمام القول بتنزله المتجدد بمعنى قابليته لمواجهة مشكلات الوجود الحضارية، وهي القابلية التي ينهض بها تفسيره في ظل قواعد اللسان وقواعد الزمان. وفيما يلي نماذج عملية لتشغيل هذه الفكرة:
١- الحاجة إلى التفسير الحضاري: إن تأمل القرآن الكريم وتدبره، يقود إلى إمكان القول بأنه ينهض بالتأسيس لأمرين يمثلان عصب التفسير الحضاري وهما:
أ- ركيزة تأمين الحياة الإنسانية، وهو ما يمكن أن نلمسه بصورة واضحة في قوله تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(قريش:٣-٤)؛ وهو ما يعني أن القرآن المكي يرى أن الأمر بعبادة الله تعالى إنما تكون بعد استقرار الحياة الإنسانية، وضمان توفير مادة بقائها فيما حققه لها الله من إجراءات الحصول على الطعام، وتأمين النفس من المخاوف والتهديدات.
بـ- ركيزة تنمية الملكات الإنسانية: وتأتي هذه الركيزة لتمثل الركن الثاني الذي ينهض بتنمية الإنسان من طريق تنمية ملكاته العملية (جوارحه)، وتنمية ملكاته العقلية (بتطوير العلم)، وتنمية ملكاته النفسية (بتزكيته).
وقراءة الذكر الحكيم في ضوء هذه المرتكزات الثلاثة يكشف عما يلي:
(انتشار الدلالة على عمل الأنبياء اليدوي في الميادين الإستراتيجية الصناعية؛ فإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام نهضا بصناعة الإنشاء والتشييد والعمارة، يقول تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)(البقرة:١٢٧)، وداود عليه السلام نهض بصناعة الحدادة؛ (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ)(الأنبياء:٨٠)، وتواتر الدعوة إلى التزود من العلم؛ (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(طه:١١٤)، وتواتر حياطة الأمر بالتزكية؛ يقول تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)(الأعلى:١٤).
٢- الاهتداء بالقرآن في مواجهة التوتر وإدارة مراحل الانتقال، يكشف منهج التعامل مع الكتاب العزيز من منظور مفهوم التنزل المتجدد وتطبيقاته، عن إمكان الاهتداء به في مواجهة أجواء التوتر الحاصل في الأمة، وتتلخص مسارات مواجهة هذه الأزمة فيما يلي:
أ- إعادة الاعتبار لكليات القرآن الإيمانية، بوصفه يهدي إلى الصراط المستقيم: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(الفاتحة:٦)، (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(يونس:٢٥).
بـ- إعادة استلهام قصص الأنبياء، التي تحكي قصصًا تتعلق بحقب متوترة ومحتقنة تشيع فيها الفتن والأزمات، يقول تعالى: (وَأْنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)(الشعراء:٦٥).
جـ- استخراج السنن القرآنية الحاكمة في إدارة المراحل الفارقة في الأمة، ومنها المراجعات وتصحيح الأخطاء، وفي آيات بدر وحنين نماذج باذخة على ذلك، وضرورة التوبة العامة، وضرورة عدم الاستجابة للفتن.
٣- تجديد الإسلام في ضوء التنزل المتجدد: إن تدبر الكتاب العزيز في ضوء مفهوم التنزل المتجدد، يوجب علينا إعادة تأمله جيدًا، للخروج بمنهجيات واضحة في الميادين التالية:
أ- صناعة الإنسان أو بناؤه.
بـ- تحرير الأوطان وتحقيق استقلالها الحضاري التام.
جـ- مقاومة الطغيان بكل أشكاله.
د- إعادة الاعتبار للعمران المحقق للبهجة الآمنة.
إن فكرة “كأن القرآن يتنزل من جديد” فكرة تعطف على الوعي بأن هذا القرآن هو الرحمة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، وهو النور القادر على تبديد الظلام المتراكم حولنا.
(*) أستاذ العلوم واللغة بكلية الآداب، جامعة المنوفية / مصر.