يؤكد الكاتب الأمريكي “توماس وولف” أنه “لطالما كانت الوحدة -وستكون- التجربة الأهم واللامفر منها لأي إنسان”، فهذا يعني أننا جميعًا سنختبر هذا الشعور على الأقل مرة واحدة في حياتنا، وذلك على الرغم من كون الإنسان كائنًا اجتماعيًّا بالفطرة.
وتتزايد أعداد الأفراد الذين يعانون من الوحدة والعزلة بشكل مرضي كل يوم حول العالم، بغض النظر عن العمر والثقافة والحالة الصحية.. وقد أثبتت أغلب الدراسات والأبحاث أن الشعور بالوحدة لا يسبب فقط الإحساس بالحزن، ولكن للأمر أبعادًا صحية خطيرة قد تؤدي إلى الوفاة.. ويصف الأطباء الشعور بالوحدة أنه وباء، ويشبهون تأثير الوحدة على الصحة بالسمنة أو التدخين بمعدل ١٥ سيجارة في اليوم.
وقد صدر تقرير عن الصحة العامة الأمريكية في عام ٢٠٢٣م، ليتضمن مقترحًا إستراتيجيًّا وطنيًّا لتعزيز التواصل الاجتماعي، والحد من آثار الوحدة السلبية على صحة الفرد والمجتمع، لارتباطها بالإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية والسكري، والأمراض المعدية -بسبب ضعف المناعة- والموت المبكر والاكتئاب، والقلق والمشكلات الإدراكية، وانخفاض كل من الأداء الأكاديمي والأداء الوظيفي، وغير ذلك.. وبينت دراسة لجامعة بريغهام يونغ، أن للشعور بالوحدة آثارًا سلبية على طول العمر، كآثار تدخين ١٥ سيجارة يوميًّا، وأن سوء العلاقات الاجتماعية مرتبط بــزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية بنسبة ٢٩٪ و٣٢٪ على التوالي. ولهذا، اعتبر التصدي لظاهرة الوحدة، ضربًا من الاستثمار كما هي الحال مع علاج أمراض السمنة والإدمان، لا سيما وأن التعامل مع الوحدة بين كبار السن، يكلف الحكومة الأمريكية وأصحاب الأعمال مليارات الدولارات سنويًّا.
وقد تم الاعتراف مؤخرًا بالشعور بالوحدة كظاهرة مرضية، وهمٍّ من هموم الصحة العامة، بعد عقود من البحث ولفت الانتباه، تم اتخاذ تدابير وإطلاق مبادرات تخاطب مختلف فئات المجتمع مكونات تحسين التواصل.
العزلة باعتبارها مشكلة نفسية
يحتاج الإنسان إلى “الحماية والأمان والتواصل”، لكي يحافظ على اتزانه واستقراره النفسي، الذي يتوفر بتواجده في محيط ذويه من البشر، لذا حين يزداد الشعور بالوحدة، يفعّل وضعية الدفاع أو الهروب من المسؤولية في مواجهة الأزمات.. فيها يفرز الجسم هرموني الأدرينالين (هرمون الطوارئ)، والكورتيزول (هرمون التوتر)، ومع استمرار ذلك الشعور يعتاد الجسم إفرازهما، ويتسبب في أعراض الشعور بالوحدة.
ومن جانب آخر، تناولت “غيل هاسون”، مفهوم الوحدة في كتابها “وحيد بشكل أقل”، وأكدت على الفرق بين أن يكون الشخص وحده، وأن يكون وحيدًا؛ ففي الحالة الأولى يكون منفصلًا أو بعيدًا بطريقة معينة -وحده في الغرفة، أو في أفكاره ومشاعره وآرائه ومعتقداته رغم وجوده في مجموعة- دون مشكلة، بل ربما يسعى للانعزال طلبًا للهدوء ورغبة في التأمل، بينما يتجنب الوحدة المؤلمة كما هو الفرق بين الاستمتاع بمشاهدة فيلم لوحدنا، والانخراط في بكاء لغياب الرفيق الذي نتمنى أن يقاسمنا المتعة.
أما فائدة الشعور بالوحدة فتكمن في إعلان الحاجة لتحسين الوضع بتواصل ما، أو طلب مساعدة نفسية، وفقًا لتفاوت الحالة ما بين شعور عابر بالوحدة يسهل التغلب عليه، وشعور متطرف عصي العلاج، ووحدة اجتماعية تأتي من غياب التواصل مع الآخرين، ووحدة عاطفية نتيجة لافتقاد العلاقات الحميمية المقربة الدافئة، ووحدة وجودية تحدث عند الشعور بالانفصال الكامل وانعدام التواصل مع الآخرين، بسبب خبرات صادمة، أو أكثر من وحدة معًا.
العزلة بين العوامل الخارجية والداخلية
تتنوع أسباب العزلة والوحدة بين العوامل الخارجية كمكان السكن أو العمل، والعوامل الداخلية مثل طريقة التفكير، حيث يختلف الأمر سلبًا في حالات التواجد في جزء معزول من البلاد، مع محدودية الأنشطة الاجتماعية وخدمات المواصلات، أو عندما لا تتوافر الموارد المالية اللازمة للاشتراك في تلك الأنشطة، أو في حالة وجود إعاقة جسدية، أو مرض يصعب معه الخروج من المنزل، أو مشكلات صحة عقلية تمنع التواصل السوي مع الآخرين أو تعقده. وهذا بخلاف كثرة الالتزامات في العمل وفي محيط الأسرة التي تقيد الحرية، وتسرق وقت الحياة الاجتماعية. وكذلك يفعل الشعور بعدم القدرة على الاندماج في مكان العمل أو الدراسة، وربما الانتماء إلى أقلية عرقية أو ثقافية أو عمرية.
ويؤدي الاعتقاد باستمرارية سبب الوحدة وصعوبة السيطرة عليها، إلى فقدان دافعية التغيير، بينما يتطلب الأمر تغيير الاعتقاد والنظرة للعالم. فقد أكدت دراسة تمت في ٢٠١٩م من جانب “كينجز كوليدج” بلندن -طلب فيها من ألفي شاب وصف صداقاتهم لجيرانهم بينهم مشاركون أشقاء يعيشون في البيت نفسه- أن الوحيدين بينوا حظوظًا أقل في الصداقة وفي الثقة بالنفس، مقارنة بمن هم أقل شعورًا بالعزلة.
مواجهة اضطراب العزلة
وللهروب من العزلة والوحدة لا بد من تحديد الظروف الخارجية المتسببة، ثم التفكير في المطلوب من التواصل والصداقة. وإذا كنا نريد تكوين صداقات، فعلينا البحث عنها، ويمكن أن تكون بداية التواصل في اهتمامات وأنشطة نستمتع بالقيام بها، وأمور تسهل علينا الانخراط في حديث وكسب صديق. كما يمكن أن تبنى صداقات عبر منظمات ومنصات وتطبيقات لمجموعات هوايات، كالقراءة والكتابة والرحلات والتبادل الثقافي.. والفرص متاحة أيضًا لتجريب جديد يعزز الثقة بالنفس، كتعلم لغة أو فن أو طبخ.. إلى جانب التطوع بوصفه سبيلًا لعقد الصداقات والشعور بالسعادة والصحة. وكل ما يتطلبه الأمر الخروج من منطقة الراحة، والتغلب على الخوف والشك في الذات. فليس المطلوب منا أن نكون عباقرة ومثقفين لنكسب صداقة، بل يكفي بعض اللطف والابتسامة وبضع كلمات طيبة، ليأتي الباقي تلقائيًّا ومعه الثقة.
ولا بد من إعداد مهنيين، وتوفير تدريب وتعليم صحي، ولا بد من التوعية -بالجانب الطبي- للتواصل الاجتماعي، وأخطار الوحدة والعزلة من أجل الوقاية والتدخل العلاجي، إضافة إلى برامج تثقيفية لأولياء الأمور والمعرَّضين لعيش خبرة الوحدة كالمرضى والمعاقين والمهمشين والمطلقين.. ولا بد من العمل مع منظمات في شراكات داعمة لمن يعانون العزلة والوحدة، وإيجاد فرص تعاون بين الباحثين والإكلينيكيين، لإتاحة فرص التقييم والتطبيق على فئات معينة.. وطرح مؤشر للتواصل الاجتماعي في إطار الصحة عبر برامج وتعليم وبحث وتشجيع أساليب الحياة الصحية، ووضع برامج تثقيفية عامة تركز على آثار العزلة الاجتماعية الصحية، وجعل موضوع التواصل أساسيًّا في برامج تحسين الصحة، ودراسة أسباب العزلة، إلى جانب تقييم وتنفيذ تدخلات مستدامة، وإطلاق برامج وحملات وأدوات وشراكات لهذا الغرض، والتقييم والتحديث المستمر لإستراتيجيات وأدوات القياس.
وعلى الباحثين إعداد دراسات بحثية تتضمن دراسة العزلة الاجتماعية في ضوء العمر، والدخل، والثقافة، والعرق، والنوع، والهوية، والصحة، وسواها.. ووضع مؤشرات للمخاطر والمخرجات الأخرى، وفحص آثار التواصل ومؤشرات وأدوات القياس، وتوفير قواعد بيانات لأغراض البحث، وتمويل برامج ناجحة تحسن التواصل كتلك التي تتعامل مع من يعيشون الوحدة والعزلة، وبرامج نشر التوعية.
كما تقوم المدرسة بدور كبير في تنمية المهارات الاجتماعية، وإتاحة فرص لتنمية علاقات الطلاب وتقويتها، ودمج التواصل الاجتماعي في المناهج، وتطبيق أساليب تعلم اجتماعية، كالمشروعات التعاونية لتوثيق العلاقات، وتوفير بيئة داعمة تشجع الانتماء، في فصول داعمة يتعلم فيها الطلاب من بعضهم.
ومن المهم تدريب القادة والمديرين، وتمكينهم من تشجيع التواصل الاجتماعي وتنفيذ برامج لهذا الغرض تُقيَّم وتحسَّن باستمرار، وتوفير مصادر لتثقيف القوى العاملة بأهمية التواصل، وإيجاد ممارسات وثقافة به، وإتاحة فرص لتخطي التحديات، كساعات العمل المرنة، والدمج بين العمل عن بعد والحضور.
وعلى منظمات المجتمع إيجاد فرص وإتاحة مساحات للتواصل الاجتماعي، ووضع برامج لتقوية العلاقات، وتوفير تعليم ومصادر وبرامج لأولياء الأمور والشباب والمعرَّضين لخطر العزلة، بتنظيم فعاليات وبرامج تطوعية، وشبكات تواصل وفرص مشاركة مجتمعية، وعرض نماذج إيجابية.
ويتعين تشجيع شفافية المعلومات الخاصة بآثار التكنولوجيا على التواصل الاجتماعي، ودعم تنمية وتعزيز معايير ضمان بيئة رقمية آمنة، وتصميم تكنولوجيا تعمق الحوار والعلاقات بعيدًا عن الصراعات.. وبناء محتوى يشجع التفاعل الاجتماعي الإيجابي والعلاقات الصحية، ويعزز قيم التواصل الطيبة والاحترام والالتزام، واستخدام الحكي في الأفلام والبرامج التلفزيونية، وتوجيه رسائل توعوية حول التواصل الاجتماعي ومخاطر العزلة، وضمان تقديم مواد علمية دقيقة بالتعاون مع المجتمع العلمي، وتجنب المواد التي تزيد من العزلة الاجتماعية.
ويمكن أن يلعب الآباء والأمهات دورًا مهمًّا في تشكيل خبرات التواصل الاجتماعي، والاستثمار في تنمية علاقات آمنة وقوية وصحية مع الأبناء، وتقديم نماذج يحتذى بها في حل الصراع البناء، وإنفاق الوقت معًا، والتواصل المستمر مع الأهل والأصدقاء والجيران، بعيدًا عن التكنولوجيا أو وسائل التواصل الاجتماعي، والمشاركة في المناسبات المجتمعية، ومساعدة الأطفال على بناء علاقات قوية وآمنة مع الكبار -كالأجداد والمعلمين- وتشجيع التواصل الصحي مع الأنداد، ودعم الصداقات، وتشجيع الأنشطة الاجتماعية كأنشطة التطوع والرياضات، وتأخير ارتباط الأبناء بمنصات التواصل الاجتماعي لصالح الأنشطة الواقعية، والحديث معهم عن التواصل الاجتماعي، والآثار السلبية للإفراط في التواصل الافتراضي، وتشجيعهم على التعبير عن حاجاتهم ومشاعر الوحدة والعزلة التي قد تعتريهم.
وعلى الأفراد، المساهمة في جعل التواصل الاجتماعي قيمة مجتمعية جوهرية من أجل تنمية الصحة والسلامة الفردية، وتحسين مخرجات التعليم والاقتصاد، ليصبح الناس أكثر سعادة وازدهارًا، ويبنون المجتمع بصورة أفضل.
ختامًا، إذا أردنا السعادة، لا بد من وقت نقضيه مع الناس، ووقت مع الذات، ووقت للعزلة لنلمس مشاعرنا العميقة ونستوعب ما يحدث لنا، ونقلب أفكارنا ونغير اتجاهات، وننمي خيالنا الإبداعي الذي يمنحنا المرونة. وبدلًا من الاستمرار في وضع عالق مع الوحدة، علينا البحث عمَّا يجعل الوقت يمضي بيسر ومتعة. ولا بأس من متع كالتسوق وارتياد السينما، وحضور عروض مسرحية. والتمتع بجمال الطبيعة.. ولهذا تقترح “هاسون” أن نعلم الأطفال متعة البقاء مع الذات مثلما نعلمهم المهارات الاجتماعية.
(*) كلية التربية، جامعة الإسكندرية / مصر.
المراجع
(١) الشعور بالوحدة مرض العصر في عصر أكبر عدد وسائل تواصل، أسماء سلامة (١٢ يناير ٢٠٢٣)، موقع إيجاز (https://egazze.com).
(٢) الشعور بالوحدة ظاهرة مرضية متزايدة وهم من هموم الصحة العامة، أمينة التيتون (٢٠٢٤)، مجلة العربي، العدد:٧٨١.