الاحتكاك الحضاري بين شعوب العالم عبر العصور، يجعل الحضارة القوية تسيطر على الحضارة الضعيفة المنهزمة، ولكن بعض عادات هذه الشعوب تبقى صامدة دون أن تتأثر بالتغيرات الجيوسياسية والمجتمعية التي تمر بكل مجتمعات الدنيا عبر التاريخ.
إن لكل مجتمع عادات وتقاليد لا تخلو في تراثها من الفنون الشعبية التي يخترعها الناس من أجل إسعادهم، وكي يكون لهم تميزهم عن المجتمعات الأخرى، بما يسمى الثقافة الشعبية (أو ثقافة الشعب) وهي مجموع العناصر التي تشكل ثقافة المجتمع المسيطرة في أي بلد غالبًا باستخدام طرق إعلام شعبية. وتنتج هذه الثقافة من التفاعلات اليومية بين عناصر المجتمع إضافة لحاجاته ورغباته التي تشكل الحياة اليومية للقطاع الغالب من المجتمع.
يرى الأنثروبولوجيون أن الثقافة هي ذلك الكل المركَّب المعقَّد، الذي يشمل المعتقدات والمعلومات والفن والأخلاق والعرف والتقاليد والعادات وجميع القدرات الأخرى، التي يستطيع الإنسان أن يكتسبها بوصفه عضوًا في المجتمع، ومن خلال هذا التعريف يمكن أن نطرق باب الثقافة الشعبية الصحراوية التي هي مرآة المجتمع الصحراوي المعبر عنه.
فهي الوعاء التاريخي والرصيد التراثي والمعرفي، الذي تستمد منه الأجيال الصحراوية المتلاحقة مصدر تميزها وشخصيتها الثقافية، والحاضن لها من الذوبان في الثقافات الأخرى ودعامة صموده في وجه أعاصير الفتن ومحاولات طمس الهوية، وتتشكل هذه الدعامة من الموروث الاجتماعي والثقافي للذات الصحراوية والقيم الإيجابية التي تتأسس عليها هذه الثقافة من صفات العزة والإباء والكرم والتكافل وحسن الجوار، وجرت به العادة في هذا المجتمع الصحراوي مجتمع البيظان.
مجتمع خيالي ومبدع
المجتمع الصحراوي يتكلم اللهجة الحسانية يدون من خلالها الشعر الحساني تاريخ وأمجاد أبناء الصحراء ويتناول أحوالهم وتطلعاتهم وفق نفس أغراض الشعر العربي من حكمة ورثاء ومدح وهجاء، إلا أن الشعر الحساني يتميز ببحوره الخاصة الممثلة في بعمران، مريميدة، الصغير، لبير، البتيت الناقص، البتيت التام. وهذه الأشعار الحسانية دونت وأرخت لملاحم وبطولات الأجداد التي لم تدون في دواوين خاصة، وإنما بقيت في الصدور تتناقلها الأجيال وتحفظها.
أسطورة الزواج الصحراوي
أما من ناحية العادات والتقاليد المتعلقة بالمجتمع كالزواج والعلاقات الاجتماعية والعقيقة وأسلوب التحية والكلام والنظام الاجتماعي، الذي تضبطه العادات والأخلاق والخوف من العار، فيتميز المجتمع الصحراوي في الغالب عن باقي المجتمعات الأخرى بنظام فريد لا يتسع المقام لبسطه وإنما نكتفي بلمسات عامة.
الزواج مثلاً في المجتمع الصحراوي له نفس شروط وأركان النكاح في الإسلام، إلا أنه تميزه عادات صحراوية حيث يتم العرس عند أهل العروس بخلاف بعض المجتمعات ويتخلله بعض الطقوس الخاصة بالمجتمع كاختيار العريس لمساعد يسمى أوزير، وتقاليد العرس الصحراوي الذي كان في السابق يدوم سبعة أيام إلا أنه في الوقت الحالي لا يتجاوز يومين يتكفل أهل العروس باليوم الأول وأهل العريس باليوم الثاني.
بالإضافة إلى إعلان العقد بالفرح والسرور بعد عقد النكاح الذي يعقده القاضي، وكذلك عادة البند وهي عبارة عن قماش أبيض يتجاذبه أهل العريس والعروس وأيهم يثبت الغلبة وينتزع البند من الآخر، وهي عادة قديمة الغرض منها التسلية والدعابة وإظهار الفرح في التنافس لكنها بدأت تختفي للأسف.
لدى المجتمع الصحراوي البدوي الأصيل بعض العادات والتقاليد التي يعتبرها البعض غريبة ويصفها آخرون بأنها “طريفة جدا”، وغيرهم يعتبرها دخيلة على هذا المجتمع المتدين والمتشبع بقيم الدين الإسلامي، ومع ذلك توجد هذه العادات التي يسميها البعض بالظواهر الخاصة بهذا المجتمع، فلكل مجتمع ظواهر وعادات وتقاليد تميزه عن غيره؛ حتى ولو كانت هذه المجتمعات تدين بدين واحد وتتكلم لغة واحدة وتسكن في حيز جغرافي واحد.
من هذه العادات الغريبة أن العروس الصحراوية تلبس “السواد” ليلة زفافها ولا تزف إلى العريس إلا في الثوب الأسود -عكس بقية شعوب العالم التي يغلب فيها زفاف العروس بالفستان الأبيض- حيث ترتدي العروس ملحفة سوداء وهي ثوب النساء وفستانًا أسودًا كذلك، وتغطي كل جسدها مهما كانت في قمة جمالها وزينتها، كما أن للعريس نصيبًا من السواد أيضًا ليلة عرسه، فعليه أن يضع في عنقه شالاً أسود اللون يسمى عند الموريتانيين “الحولي أو اللثام”، وتحضر العروس تحضر حفل زفافها في جو من البهجة والسرور إلى جانب عريسها بكل استحياء وحياء.
أما الظاهرة الثانية في العرس الصحراوي البهيج وهي الأغرب تتمثل في إخفاء العروس عن العريس بعد عقد القران مباشرة، وكذلك محاولة إزعاج العريس وأصدقاءه طيلة أسبوع العرس، وهذه التقاليد تتم في جو من البهجة والفرح ويطبعها العنف في حالات أخرى، وقد تتم بالمكر والخديعة تمامًا كالحرب؛ لكنها حرب بشكل آخر طرفاها أصدقاء وأقرباء وكل شيء يتم بسلام ومرح تام.
العريس وأصدقاءه يلعبون دورًا كبيرًا في تنظيم حفل الزفاف وفي حراسة العريس والعروس. أما العروس وصديقاتها وقريباتها وكل فتيات وشابات الحي حتى بعض أقرباء العريس من الفتيات وأخوات العريس، يلعبن دورًا في تسهيل إخفاء العروس وذلك لإنعاش الحفل وتحريك حماس الشباب، ويتميز الحفل بطابع الهجوم والكر والفر من أجل إيجاد طريقة لخطف العروس وإخفائها، ويخضع العريس لامتحان صعب وقاس وكأنهم يختبرون محبته للعروس واستعداده لتحمل مسؤوليات الزواج الصعبة والكثيرة كما يختبرون حلمه وصبره وكرمه بطرق عديدة صعبة ومختلفة.
ثقافة خاصة جدًّا
يهتم المجتمع الصحراوي بجماليات الزخرفة والرسم على الجلود وتنميقها، حتى أصبحت هذه الحرفة من اختصاص فئة صحراوية مختصة تمتهن صباغة الجلود وتجميلها، مبرزة البعد الثقافي والتاريخي والديني للمجتمع الصحراوي ومحافظة على خصائص ومميزات الهوية الصحراوية، من خلال هذه الزخارف واللوحات التعبيرية الجلدية التي تتنوع وتلبي الكثير من حاجيات المجتمع الصحراوي.
أما القصة والحكاية في الثقافة الصحراوية، فهي تبرز من خلال الحكايات والقصص الشعبية، التي تبين ما وصل إليه العقل الصحراوي من الفكر والخيال التعبيري، الذي استطاع أن يعالج ويتناول قضايا المجتمع وواقعه المعاش من خلال القصص والحكايات والأحاجي التي تحمل هموم وتطلعات المجتمع، ويتناولها بأساليب تجمع بين الحكمة والعبرة والتشويق والإثارة والفكاهة، مثل حكايات شرتات وجحا التي يغلب على طابعها الطرافة والمزاح والترويح عن النفس، وهي حكايات أسطورية نسجتها المخيلة الصحراوية مستوحية مشاهدها وعقدها من الواقع بأسلوب فكاهي يفرض نفسه.
كذلك نجد بعض الحكايات تجري عن لسان الحيوانات كما هو الحال في قصص القنفذ والأسد، والقنفذ والذئب، وقصة القمرة وتؤم المعز، وعازة ومعيزيزة وأخوهما الريقط، هذه كلها قصص تبين كيف ينتصر الحق دائمًا على الباطل في النهاية مصورة الحق في الذكاء والحيل والباطل في الغفلة والغباء الذي يقتل صاحبه، ويتجلى ذلك في واحدة من هذه القصص حين يتقمص القنفذ دور القاضي ويختصم الذئب والأرنب في العجلة التي ادعى كل واحد منهما أنها له، والطريقة الذكية التي يحل بها القنفذ العقدة بأسلوب مقنع، وقصة الأسد والثيران الثلاثة وتبين كيف يجر الأسد بمكره الثيران الثلاثة إلى الموت، حين يستغل اختلاف ألوانهم للكيد لهم وتختصر هذه القصة في المثل العربي “إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض” التي تحذر دائمًا من الانجرار وراء الثقة الزائدة بالغريب.
كذلك بوعشرين أظفر الذي يمثل للصغار أنه شبح مخيف؛ بحيث يخوفون به قبل أن يدركوا معناه الحقيقي الذي يقصد به وهو الإنسان، فمن منا ليس له عشرين ظفر.. وهي قصص تشبه في فكرتها وأسلوبها قصص الفيلسوف الهندي بيدبا التي ترجمها إلى العربية ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة، التي تجري أحداثها على ألسنة الحيوانات، ويرمي من خلالها إلى إيصال قيمة اجتماعية أو سياسية أو غيرها.
كذلك نجد في قصص الحمقى والمغفلين قصة ديهنون وديهنونة ومغامراتهم الدرامية التي تفضي بهم إلى خسارة كل شيء بسبب ضعف العقل وغياب الفطنة والذكاء عن حياتهم، وقصة باعمارة التي تحمل توجيهات للأحمق الذي لا يدرك قيمة الإنصات والاتعاظ خاصة عندما يكون قادم إلى قوم لا يعرفون عنه إلا الخير، وأصبحت هذه القصص مثل يضرب للأحمق الذي لا يعي التوجيهات ولا ينتبه للنصائح.
ومن روائع القصص الصحراوية المشوقة قصة (أسريسر ذهبو) المشوقة التي تعتمد على الإثارة وتحكي قصة فتاة لها سبعة أخوة يغادروا بسبب الفرح الشديد للخادمة الذي كان سبب رحلة شقاء أسريسر، ذهبوا حين رفعت الخادمة الراية الحمراء التي تدل على أن المولود ذكرًا بخلاف الراية البيضاء التي كان من المناسب رفعها للدلالة على أن المولود ذكرًا، وكيف تنقلب الأحوال وتصبح الخادمة سيدة و”أسريسر ذهبو” خادمة، والاستقبال الذي تحظى به الخادمة وكيف تمتزج الخرافة بالحقيقة في الصفعة التي تؤدي إلى نزيف دم الخادمة الذي تكشف من ورائه الحقيقة ويتبين أنها هي الأخت الحقيقية.
بعيدا عن الخيال نجد قصة قصص واقعية مثل هدارة الولد الذي عاش مع النعام، وهي قصة لا يزال أحفاد بطلها حتى اليوم على قيد الحياة؛ حيث استطاعوا أن يتأقلموا مع الواقع الذي فرض نفسه في العيش مع النعام، وهي تشبه القصص العالمية للأطفال الذين تربوا في أحضان الغابة برعاية من حيوانات كقصة الطفلة الهندية كاملا التي تاهت في الغابة وتربت مع القردة، وقصة حي بن يقظان لابن الطفيل وقصة طرزان وماوكلي التي تروي معاناة وتيه في الظلام ليضيء النور في نهاية النفق، وينجح بطل القصة في التأقلم مع واقعين يصبحا جزءًا من حياته، كما نجد العديد من القصص الشعبية والنكت الحسانية الأخرى.
إن الثقافة الصحراوية المغربية ثرية جدًّا، لكن للأسف لم تدون ومع مرور الزمن اندثر وضاع الكثير من تاريخ هذا الشعب وثقافته بسبب التفريط في مجال الفن والرقص وتظل رقصة “الكدرة” التي لها مجموعة من الجولات الإيقاعية كل جولة تتمثل في إنشاد ثلاث حمَّايات وفق إيقاع لحني يبدأ انفراديًّا ويتصاعد لينخرط في أدائه باقي أفراد المجموعة، وقد يطول إنشاد الحَمَّاية أو يقصر حسب قدرة الراقصة على الاستمرار في الرقص، وتختتم كل جولة بعملية “أهوتش” وهي تعبير عن بلوغ جولة الرقص مداها النهائي.
مصادر:
1- علي المحمدي، السلطة والمجتمع في المغرب نموذج ايت باعمران، الدار البيضاء.
2- المختارالسوسي، المعسول، الدار البيضاء، الجزء الأول4.
3- الساقية الحمراء ووادي الذهب، الرباط الدار البيضاء.
4- بنعبد الله عبد العزيز، الموسوعة المغربية للأعلام البشرية والحضارية معلمة الصحراء، الرباط.