عصرنا عصر التقاليع، وإن كان عصر التقنيات المذهلة، كما أن إنساننا وهو يحشر في متاهة تقنيات تلتهم إنسانيته، وتبعده عن ذاته، لم يجد من وسائل الهرب إلا الجنون أحيانًا، أو اللجوء إلى “تقاليع” ليست أكثر من صور عن الجنون. فهناك رقم قياسى لطول الشوارب، وآخر لزمن الوقوف على حبل، وآخر للوقوف على الرأس، ورابع للبقاء في الجليد حتى الموت!
يختلف البشر الذين يعيشون في هذا العالم في اللغة والعرق واللون وبعض العادات الاجتماعية؛ مثل طريقة الملبس والحديث وأيضًا السلام والتحية، فهناك بعض البلدان التي لها عادات مميزة في طريقة إلقاء التحية بين أفرادها.
في حياتنا اليومية نستخدم لغة الجسد بأشكالها المختلفة أثناء تعاملنا مع الآخرين.. فلغة الجسد أصبحت اللغة الأهم في مجالات الحياة المختلفة؛ كونها لغة لا تكذب أبدًا.. وهي توصل ما نفكر به ونقصده بالفعل، ومن أبرز أشكال لغة الجسد التي يرغب الكثيرون بتعلمها؛ لغة المصافحة أو”السلامات”. فكثير منا قد يبادر بمصافحة الآخرين، لكن قليلون الذين يعرفون المعنى الذي تخفيه المصافحة وأشكالها المتعددة.
لكل شعب طريقته في التحية التي تعكس ثقافته وتحدد هويته، وهناك تعبيرات وحركات مختلفة تستخدم حول العالم نوعًا من التحية، ففي الثقافات الغربية نجد المصافحة باليد هي الشائعة عند التحية، وهي على حسب قوتها أو ضعفها تميز حرارة اللقاء، وهناك شعوب تستخدم اليد اليسرى فقط في السلام.
في أمريكا يحبون مقابلة بعضهم البعض بتحية خالية من الوقت.. علاوة على ذلك، يفضلون التحيات غير الرسمية على التحيات الرسمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن محتوى تحياتهم شخصي بطبيعته، وتعتبر المصافحة باليد هي التحية المتعارف عليها في الولايات المتحدة الأمريكية، سواء بين الأصدقاء أو بين الأشخاص الذين لا يعرفون بعضهم البعض. وقد اشتهر عن “روزفلت” أنه كان صاحب الرقم القياسي في المصافحة! ولكن هل نعرف صاحب الرقم الحالي؟
خلال الحملة الانتخابية لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ضرب الرئيس الراحل “روزفلت” الرقم القياسي في المصافحة، فقد ظل طوال اليوم، جالسًا في كرسيه ـ كان مقعدًاـ يصافح مؤيديه، حتى بلغ رقم من صافحهم 8513، ونجح “روزفلت” في الانتخابات.
ظل “روزفلت” متربعًا على العرش -عرش المصافحة- برغم محاولات الكثيرين، حتى وقف “ليف بيوركمان” في محطة قطارات ستوكهولم، يصافح القادمين والمغادرين، ويسجل عددهم على سجل خاص، ولم يأت المساء حتى كان العدد 12200 مصافحًا.
نسي “ليف” متاعبه حين وثق بأنه أزاح الرئيس الأمريكي “روزفلت عن عرشه”، خصوصًا أن الفارق بين الرقمين القياسيين كبير. غير أن “ليف” لم يفرح طويلاً، فقد تحداه الفرنسي “جان كلود أنطوان”، وسجل رقمًا جديدًا هو 15162 مصافحًا، بفارق ثلاثة آلاف مصافح، وفي فترة أقصر نسبيًّا، فقد سجل الرقم خلال تسع ساعات. لكن لندع العروش جانبًا، ولنبحث في الظاهرة نفسها ظاهرة المصافحة وأشكالها.
اهتمام علماء الاجتماع
تلك الظاهرة شغلت عددًا من علماء الاجتماع في العالم، فهذا العالم الأمريكي “لورنس فيلي” يولي الموضوع اهتمامًا خاصًّا، ودرس أنواع المصافحة في العالم، وخرج بالنتائج التالية:
الفرنسيون أكثر الشعوب احتفالاً بفنون المصافحة، وتقبيل بعضهم بعضًا، صباحًا، ومساءً، وعند الذهاب إلى العمل، والعودة منه، وبعد انتهاء الطعام، وقبله أحيانًا. ولكن البريطانيون -برغم ما بينهم وبين الفرنسيين من جوار- إلا أنهم أقل الناس احتفالاً بالمصافحة، فهم لا يصافحون الآخرين إلا عند اللقاء الأول، وتشترط طبقة النبلاء وجود طرف ثالث يقوم بالتعريف في اللقاء الأول.
وفي العالم أشكال متعددة للمصافحة، يبدو بعضها مضحكًا، إذا لم يكن المتأمل من قوم المتصافحين. فالروس مثلاً يقبلون من يستقبلون، إذا كانوا أصدقاء فمًا لفَم، إذا مضت فترة على اللقاء السابق. في جنوب الجزيرة العربية، تتصافح الأنوف ترحيبًا بالقادم.
أما في بعض المناطق الآسيوية الشرقية، فتقوم المصافحة على الانحناء، ثم لقاء الأنوف، ثم إخراج اللسان. ولعل التيبتين أو أهل التيبت أكثر الشرقيين اعتمادًا على حركة اللسان في التحية، وهم إذا علموا بقدومٍ عزيز، فرضوا نظامًا محددًا على البيت، فإذا خرج صاحب البيت كان معنى ذلك أنه يقدره عظيم التقدير، وكلما ابتعد عن البيت، كلما كان الضيف عزيزًا، وتبدأ المصافحة الحارة عادة بأن يتوقف الضيف والزائر متباعدين قليلاً، ثم يرعشان الحواجب، ثم تتصافح اليدان، مرتفعين إلى مستوى الوجه، ثم يلتق الأنفان ويخرج اللسانان.
في ثقافات دول شرق آسيا يستخدم في التعبير عن التحية الانحناء، ويطلق عليه في اليابانية كلمة “ري”، وفي كوريا كلمة “بان بي” وتتنوع الانحناءة باختلاف الدول، فالكوريون الرجال يتركون أيديهم ممددة إلى جانبهم أثناء الانحناء؛ بينما المرأة الكورية تضع يديها في جيب ثوبها عند الانحناء.
في تايلاند تعرف التحية باسم “واي”، حيث يتم وضع كفي اليدين معًا عند مستوى الأنف أثناء الانحناء، وهي تحية تشبه في شكلها تحية اليابانيين والتي تعرف باسم “جاشو” ويؤديها البوذيون. وفي تايلاند يقوم الرجل والمرأة بالانحناء بينما تقول المرأة “سوادي كا” ويقول الرجل “سوادي كراب”.
بعض الشعوب الغربية تتبع الطريقة ذاتها في ترعيش الحواجب والجفون، قبل أن تتصافح الأيدي، وتنحني الرؤوس احترامًا. فالبريطانيون حين تلتقي الأيدي، يهزونها أفقيًّا، على عكس الأوروبيين الآخرين الذين يهزونها عموديًّا.
في بعض دول أوروبا تعد التحية بقفاز اليد نوعًا من الوقاحة، وفي مجتمعات أخرى يعتقدون المصافحة باليد طريقة غير صحيحة للسلام، لوجود عدد كبير من الأشخاص يجلسون على موائد الطعام من دون غسل أيديهم، وفي مجتمعات أخرى يقوم الأشخاص بتبادل التحية، من خلال رفع القبعة، سواء كانت التحية باليد أو بالانحناء أو بالإشارة أو برفع القبعة، تبقى المصافحة باليد موجودة بين الأشخاص في جميع أنحاء العالم.
فضل لغة القرود
يعتبر بعض العلماء أن المصافحة بالأيدى أوروبية الأصل ولم تغز العالم إلا مع التوسع الأوروبي، أما تفسير هذه الحركة فسهل لأن مبادرة الآخر باليد اليمنى دليل على خلوها من السلاح، في يومنا يتحفظ فريق إزاء هذا التفسير لأن علماء الأتنولوجيا، وعلى رأسهم الألماني “أيبل إيبلفسدت”، أثبتوا أن المصافحة بالأيدى متداولة بين قرود الشامبنزي وتتم بقيام القرد الأدنى منزلة، بمد يده نحو القرد الأرفع شأنًا منه، وذلك لطلب السماح بتناول شيء من الأطعمة الجماعية. فإذا بادل الثاني الأول بمثيل فعله يعني ذلك الموافقة، والعكس صحيح.
هل يصح الاستنتاج إذن بأن المصافحة تتصل بصورة أو أخرى بطبيعة الإنسان الحيوانية؟ يصعب تأكيد ذلك، لأن كثيرًا من الشعوب -برغم التوسع الغربي- حافظت على عاداتها (سكان آسيا على وجه الخصوص) ولكن هذا الاعتراض بدوره لم يقنع الجميع، لأن الأطفال -إلى أي شعب انتموا- يجدون عناق الأيدي مستغربًا، ويتوجب على الأهل طبعهم عليه كي يضحى قيامهم به تلقائيًّا.
على ضوء ذلك يتبين أن الإشكالية التي تقوم على ثنائية الإنسان وتوزعه بين الطبيعة والثقافة أمر لا يزال يشغل العلماء والمفكرين، وأنى يكن منشأ المصافحة بالإيدى، يتفق الطرفان على القول أن العادات الإنسانية -طبيعية كانت أم ثقافية- تتكون تدريجيًّا ولا يضحى احترامها ضروريًّا إلا لاحقًا، وهذا الطابع التدريجي لا ينفي أماكن تشابه بعض العادات. وقد استرعت ظاهرة السلام برفع الحواجب اهتمام العالم لإثبات ما ذهب إليه في صدد عالميتها.
ولا يقتصر السلام بالأيدي على المصافحة؛ إذ تفيد اليد أحيانًا لإرسال القبل أو الإشارة، ولكنه قد يطول إحيانًا، ويستحيل عناقًا تكلله القبل، ثم إن حرارة العناق رهن بالعلاقة التي تربط الطرفين، وبالمناسبة، وبالمكان الذي يوجدان فيه.
عالم الاجتماع “هوفمان” أراد توسيع مضمار البحث، فدرس العبارات التي ترافق السلام أو المصافحة أو العناق، وبين أن طابعها الاستفهامي المباشر، أو غير المباشر، لا يؤدي وظيفة استفهامية. ولوحظ أيضًا أن معنى الكلمات أقل أهمية من “كميتها” وكيفية التفوه بها، وأثبت أن عملية المصافحة عند اللقاء تسبق عادة تبادل الكلمات في حين يترتب الأمر بصورة معاكسة عند الوداع.
ومنذ عرف الإنسان فن التراسل وهو يبعث بتحياته تحريريًّا، ولكن مع تطور وسائط الاتصال بات الناس يتبادلون سلاماتهم شفويًّا، مما أدى إلى نشوء لغة خاصة بهذا الطراز من الحوار الإنساني، ويبقى أن للامتناع عن السلام معناه أيضًا، فالصمت دلالة لا تقل عن الإفصاحات، ويكفي للتأكد من ذلك القيام بالتجربة تجاه الأهل والأقارب الذين سيعتبرون الصمت علامة استياء، وسيؤولونه كل تأويل، وسيتكلفون بوصل “الحوار” من حيث انقطع.
الجدير بالذكر هنا أن بعض المصافحات، وما يرافقها من كلام، يختلف حسب المناسبة إختلافًا بينًا، بين شعب وآخر، ولعل التباين أشد ما يكون في حالات الموت. فثمة أشكال للوقفة، والمصافحة، والعناق، والحوار لا يخطئ فيها من تعود شهود التعزيات.
هناك بعض الثقافات تستخدم القبل والأحضان بصرف النظر عن جنس الشخص في التحية، ولكن هذه التعبيرات تعني وجود درجة كبيرة من المودة ولا تستخدم بين الغرباء، وأحيانًا يتم استبدالها بالمصافحة باليد وخاصة في مجتمعات رجال الأعمال.
في ثقافات أخرى تتم المصافحة بكلتا اليدين، وفي البعض الآخر باستخدام اليد اليمنى، وفي بعض الثقافات الغربية عندما تكون المصافحة قوية تدل على قوة العلاقة بين الطرفين، أما عندما تكون ضعيفة فتدل على برودها.
مصادر ومرجع:
1-Simpson, W. (2022). ” Challenge Handshake Authen tication Protocol (CHAP)”. The Internet Society.
2-Moxie Marlinspike, “Divide and Conquer: Cracking MS-CHAPv2 with a 100% success rate”. houghtcrime Labs.(2022).