الإنسان بين البيئة والوراثة

الإنسان -بوجه عام- محكوم بعاملين: أولهما لا دخل له أو لأي أحد فيه، وهو الوراثة البيولوجية. أما العامل الثاني فيتم في البيئة؛ وهو أيضًا نوع من الوراثة، كونه يمثل بالنسبة للطفل حتمية اجتماعية، ولذا يُعرفه علماء التربية والسلوك بالوراثة الاجتماعية، ويتضمن كل العوامل التي تسهم في تشكيل وتوجيه الطفل، منذ نعومة أظفاره من بيئة منزلية، وبيئة مدرسة، وقيم دينية، وإعلام، وتشريع، وآداب وعادات وتقاليد، وباختصار كل ما من شأنه تشكيل العناصر البيئية المختلفة التي يحيا في ظلها الفرد.

والنوع الأول لا سبيل إلى تغييره، إذ إنه يمثل حتمية بيولوجية قدرية، أو إن أردت الدقة قلت: إنه رزق المرء من محصوله الوراثي أو ثروته الجينية، من جهة أبيه ومن جهة أمه؛ ولذلك فقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “تخيَّروا لنطفكم فإن العرق دسّاس”. وإن كان هذا الحديث ضعيفًا فإن معناه حسن، وهو يتفق مع الحديث الصحيح: “تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك”. فكون المؤمن يتخير الناس الطيبين في دينهم وأخلاقهم وسمعتهم هذا أمر مطلوب، ولا سيما المرأة أيضًا تكون من النساء الطيبات المعروفات بالالتزام والخلق الكريم، فهذا أمر مطلوب.. 

وقد ورد في الأثر أن من صور عقوق الآباء للأبناء، حتى قبل أن تستقبلهم الحياة، هو عدم تحري الآباء اختيار الزوجات الصالحات، فيأتي الولد من امرأة كان يود لو لم تكن أمه! وينحو هذا المنحى ويتفق معه الحديث المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إياكم وخضراء الدِّمَن. قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء”(رواه الدارقطني).

أما النوع الثاني فبمقدور عناصر المجتمع الفاعلة في البيئة المنزلية والمدرسية والمؤسسة الدينية والشارع ووسائل الإعلام المختلفة تغييره والعمل على تحسينه. ولذلك فمن أحلام الفلاسفة ما يعرفه البعض “باليوتوبيا” أو “المدينة الفاضلة”، وفيها يتخيل الفلاسفة أنماطًا وأنساقًا معينة من النظم والضوابط التي يمكن أن تفضي في النهاية إلى مواطنين صالحين، نشؤوا في ظل قيم الحق والخير والجمال، ومن ثم فالنتيجة النهائية أن البشر فيها لا بد وأنهم سيتمتعون بالصحة والسعادة، وهما حلم أي إنسان.

ومن هنا فإذا لم يكن بمقدورنا، ولا ينبغي لنا التحكم في العوامل الوراثية، فيجب أن نوجه كل طاقاتنا نحو تغيير وتطوير وتحسين عوامل الوراثة الاجتماعية، المتصلة بتنشئة وتربية وتعليم الناشئة، حتى يشبوا عن الطوق أصحاء عقلاء، نافعين لأنفسهم ووطنهم، كما في قول القائل:

وينشأ ناشئ الفتيان منا    ***    على ما كان عوده أبوه

وآخر يقول:

والطفل إن  تتركه  شبّ  على   ***     حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

إن الهدف النبيل للتربية السليمة إنما يتلخص في نتيجتها النهائية، وهي التربية من أجل الحياة، وحينما أقول ذلك فإنما أعني أمثل وأفضل حياة ممكنة. 

يلخص أحد عظماء الفكر الإنساني، على مر العصور وكر الدهور،  وهو أبو حامد محمد الغزالي رحمه الله، أهمية التربية الصحية السليمة، في كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد” بقوله: “إن نظام الدين لا يصلح إلا بنظام الدنيا.. فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة، لا يُتوصّل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من: الكسوة، والمسكن، والأقوات، والأمن.. فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية.. وفي هذا تأكيد على أن نظام الدنيا شرط لنظام الدين”.  

ومن ناحية أخرى، فإن التربية الصحية السليمة، لا تقتصر على الاهتمام بالمعلومات الخاصة ببيولوجيا الإنسان، والإرشادات الخاصة بمشاكله الآنية، فاهتماماتها وموضوعاتها مرتبطة بحياة الإنسان وحركة حياته في المجتمع، وهي أيضًا مرتبطة بالمعلومات الخاصة بالعناية بالصحة العامة، والاحتياجات الجسمية للشباب منذ فترة تكوينهم المبكرة وطوال عمرهم، والذين يشهد القسم الأكبر من حياتهم الناضجة القرن الحادى والعشرين، لا سيما وهم مواجَهون فيه بتحديات كثيرة وخطيرة من كل حدب وصوب.

وستظل تلك القواعد العلمية السليمة هي المنهل العذب، والنبع الصافي، الذي تستمد منه النفوس والقلوب والعقول، ما يغذيها ويروي ظمأها، ويدفع عنها أي انحراف عن الجادة أو انجراف نحو الهاوية. وهي لا تختلف في جوهرها عما أتى به الدين الحنيف، فهو الصراط المستقيم، والطريق القويم، وما يميزه بحق أنه المنهج المتكامل الراقي، الذي لم يترك مساحة من حياة الإنسان إلا وأضاء دروبها، لهدايته إلى كل ما هو خير وحق وجمال. ذلك أن خالق البشر هو أعلم بخلْقه ، فهو القائل سبحانه: “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”(الملك: 14)؛ ومن ثم فهو أدرى بما ينفعهم ويضرهم، ومن تمام رحمته بهم إشاراته الكثيرة وتوجيهاته المتكررة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم وهي تلك الإشارات التي وردت في كتب الأحاديث الصحاح، التي تهتم كلها بجميع جوانب الإنسان، الروحية والعقلية والبدنية والأمنية. ولذلك فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقومات الأساسية للحياة بوضوح وجلاء، واعتبر مجرد توافرها واستمتاع المرء بها بمثابة امتلاك الدنيا بحذافيرها، إذ قال صلى الله عليه وسلم: “من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”(رواه الترمذى وابن ماجه). وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس من قول النبي صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”. ومن ثم فقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم القواعد العامة، والأسس المنهجية لأصحابه وأتباعه فيما يختص بالمقومات الأساسية التي تكفل الصحة والسلامة للفرد والمجتمع، في وقت كان العالم فيه، من ناحية هذه المبادئ والقواعد، في واد آخر من الغفلة والجهل والنسيان وعدم الاكتراث! ولم يلتفت العالَم إلى بعض هذه القواعد إلا مؤخرًا.          

هذا، والاتجاهات الحديثة، في مجال التربية الصحية السليمة، تنزع أيضًا نحو عدم الفصل بين مختلف الجوانب البيولوجية والتربوية والسلوكية والاجتماعية، في إطار من التكامل بين هذه الجوانب مجتمعة. ومما يثلج الصدر أن معظم الناس في الوقت الراهن، على وعي كبير بأهمية الوقاية من الأمراض، كما أن وسائل الإعلام تقوم أيضًا بدور هام في إزالة الحواجز التي كانت تحول دون مناقشة الموضوعات، التي تدور حول السلوك الجنسي المشين، وضرورة محاربته وقاية للفرد والمجتمع، وإساءة استعمال العقاقير والمخدرات والتدخين وتناول الكحوليات، وضرورة الإقلاع عنها جميعًا لتحريم الله لها؛ ولخطرها العظيم على الإنسان والإنسانية جمعاء، والموضوعات الخاصة بالصحة الإنجابية، كالإجهاض والصحة الإنجابية ورعاية الصغار والتوجيهات السليمة الخاصة بها، وغيرها من الموضوعات المرتبطة بصحة الإنسان الجسمية والنفسية والعقلية. ومن المهم أن نربط ذلك بتوجيهات ديننا الحنيف الذي لم يترك شاردة أو آبدة في حياة المسلم إلا وكان له فيها الرأي السديد، والقول الفصل، والله تعالى يقول: “ما فرطنا في الكتاب من شئ”(الأنعام: 38). فإذا أردنا لشبابنا ومواطنينا إعدادًا يؤهلهم للقيام بدور هام في مناخ إسلامي ديمقراطي، بحيث يستطيعون مستقبلاً أن يتحملوا تبعات اتخاذ القرار، والاضطلاع بمسئولياتهم على أحسن وجه ممكن، لا سيما وأن العقل السليم في الجسم السليم، فلا بد لهم من أن يحظوا بقسط هام من الأساسيات العامة للتربية الصحية الصحيحة، المنبثقة من التوجيهات الإسلامية الرصينة، والتي لا تختلف أيضًا عن التربية الحديثة المبنية على أسس من صحيح العلم. فقد بدأ الاهتمام في هذا الاتجاه منذ زمن قريب نسبيًّا بالمقارنة إلى توجيهات الإسلام، التي مضى عليها الآن ما يقرب من خمسة عشر قرنًا من الزمان. ففي عام 1779 م نشر الطبيب الألمانى “يوهان بيتر فرانك”، في منهايم كتابًا ضخمًا يقع في أربعة أجزاء بعنوان: “System einer vollstandingen medicinische Polizey، وقد حمل مضمونه معالجة تفصيلية حول السياسة الخاصة بالصحة العامة “Public Health Policy”، مؤكدًا على ضرورة الإشراف على صحة أطفال المدارس، وقد وضع “فرانك” جداول علمية خاصة بالوجبات المدرسية، كما بيّن في مؤلفاته المواصفات الخاصة بالأثاثات المدرسية، كما حض على إرشاد البنات والبنين، وتعريفهم بقواعد الصحة العامة، ومن ضمنها الصحة الجنسية السليمة، كما أكد على أن التفتيش الصحي يعتبر جزءًا هامًّا في هذا البرنامج. ومنذ ذلك التاريخ فقط عرف الغرب أسس التربية الصحية على أساس علمي حديث.

هذا، ولم تكمن أهمية فكر “فرانك” في تشابهه الظاهري بالخدمة الصحية المدرسية المعمول بها في وقتنا الراهن، ولكن باعتباره أول إشارة أو إعلان يشير إلى أن الصحة العامة، ولا سيما صحة الصغار يتعين إدراجها كجزء لا ينفصل عن العملية التربوية والتعليمية.  

وقد عنيت الأهداف التعليمية -بوجه عام- بالتنمية العقلية والاجتماعية، حتى لقيت فكرة الاهتمام بالتوجيهات الخاصة بالصحة العامة، والتي يمكن تحقيقها جزئيًّا بما اصطلح عليه -بشكل عام- بالتربية الصحية، لقيت هذه التوجيهات والمفاهيم مؤخرًا  قبولاً عامًّا.

هذا، ومن الأهمية بمكان التأكيد على العلاقة الوثيقة القائمة بين الجوانب الصحية والطبية من جانب، والعملية التعليمية من جانب آخر. وقد ظهرت هذه العلاقة في منظور الفكر الغربي منذ أن بين “فرانك” أفكاره حول تصميم مقاعد التلاميذ والطلاب، وفي كيفية بناء وتنظيم الأبنية التعليمية، وكيفية الإضاءة المُثلى، وطريقة التدفئة، ومعدلات التهوية، حتى تصبح البيئة الداخلية في قاعات الدرس والتحصيل -قدر المستطاع-  بمنأى عن نقل الأمراض المعدية، وحتى تصبح مريحة للجسم والحواس، بحيث تساعد العين على الرؤية الواضحة، والأذن على الاستماع الجيد، فيؤدي ذلك كله إلى نجاح العملية التربوية والتعليمية، وتكوين المواطن الصالح.

ومن الجدير بالذكر أن الثقافة الصحية المثلى تهدف -في الواقع- إلى تزويد الجميع من الآباء والأمهات والمربين والصغار والكبار، بالمعلومات التي تدربهم وتمرنهم على مواجهة المشكلات الصحية والاجتماعية في حياتهم الحالية والمستقبلية؛ ذلك لأن أبناءنا هم فلذات أكبادنا وثمرات قلوبنا وقرة أعيننا، وقد جعلهم القرآن الكريم إحدى زينتي الحياة الدنيا، حتى تمنتهم الأنبياء، فقد جاء على لسان أبي الأنبياء، سيدنا إبراهيم عليه السلام، من قول الله تعالى: “رب هب لى من الصالحين”(الصافات: 100) إلا أن الأبناء في الوقت ذاته، أمانة في أيدي آبائهم ومربيهم، والأمانة تقتضي الحيلولة دون تضييعها؛ بل حفظها ورعايتها، وذلك بأن يحسنوا اختيار أمهاتهم، وأسمائهم، ثم تربيتهم دينيًّا وجسميًّا وخلقيًّا وعلميًّا، وأن يوفروا لهم من المقومات المعنوية والمادية والروحية ما يعين على ذلك. وإذا عرفنا أن معطيات العلم الحديث تؤكد على أن الصحة وطول العمر، إنما يتوقفان على التفاعل الحيوي بين كل من البيئة والوراثة والسلوك، أدركنا جليًّا أن العمل على تحسين الأحوال البيئية والصحية والغذائية والسلوكية والاجتماعية، يمكن أن يسهم كثيرًا في الاستفادة المثلى للأفراد بما وهبهم الله من ثروة وراثية، سواء كانت عالية القيمة أو متواضعة.

وفي النهاية، أحب أن أنوه إلى قصة طريفة، فقد تناول سبعة من المعمرين والمعمرات -معظمهم في العقد العاشر من عمرهم- وقد التفوا حول مائدة مستديرة، لمناقشة أهم العوامل التي تسهم في طول العمر، وحينما أجاب كل منهم عن السؤال نفسه، من خلال تجاربه الشخصية، كانت إجاباتهم على النحو التالى: لا أفرط في تناول الطعام، لا أتعاطى الخمور، لم أدخن طوال عمرى، لا أتعاطى إلا القليل جدًّا من الأدوية وعند اللزوم فقط، أنام ثماني ساعات يوميًّا بانتظام، أزاول الرياضة البدنية كل يوم. وقد اشترك الجميع في إجابة مؤداها: الحرص على العمل بجد ودأب وصبر طوال أعمارهم، بل أكدوا أنهم لا زالوا حتى وقت مناقشتهم تلك يعملون ويكدحون، دون ملل أو توقف.

وقد علق أحد خبراء الصحة على حالة هؤلاء المعمرين المنتجين ومناقشاتهم تلك بقوله: إن الحرص على الصحة وطول العمر، ينبغي الدعوة لهما، والعمل من أجلهما منذ الطفولة. ولعلنا يمكننا أن ندرك بكل ثقة ويقين، مدى موافقة هذه الإجابات مع مبادئ وتوجيهات الإسلام الحنيف.