تحفل المحيطات بحياة مدهشة تثير إعجابنا، وتتصدر بين هذه المخلوقات البحرية الدلافين بذكائها الفائق وقدراتها الاستثنائية. وقد اشتهرت الدلافين بودِّيَّتها تجاه البشر، إذ يصفها علماء البحار بأنها أفضل صديق بحري للإنسان. ومع دور هذه المخلوقات الساحرة في توازن البيئة البحرية فقد ألهمت البشر أيضًا بابتكارات في مجالات عدة، حيث استفاد العلماء من دراسة هياكلها وسلوكياتها الفريدة لتطوير تقنيات حديثة في مجالات متنوعة مثل تكنولوجيا السونار، وتصميمات السفن، والغواصات، والطائرات، وتقنيات الاستشعار.. وفي هذه الرحلة سنستكشف معًا عالم الدلافين وتأثيرها العميق على حياتنا وتقنياتنا الحديثة.
التنفس الذكي وتصميم السفن
تملأ الدلافين ما يقارب 90٪ من رئتيها بالهواء في كل مرة تتنفس فيها. بخلاف البشر والثدييات البرية الأخرى، التنفس عند الدلافين ليس عملية تلقائية ولا إرادية؛ بل هو فعل إرادي، فكما يمكننا نحن البشر اتخاذ قرار المشي أو السير، تمتلك الدلافين القدرة على اتخاذ قرار التنفس في الوقت الذي ترغب فيه، وهذا الإجراء الاحترازي يمنع الدلافين من الغرق والموت أثناء النوم في الماء.
وفي أثناء النوم، يستخدم الدلفين نصفي مخه بالتناوب بفارق زمني يقارب خمس عشرة دقيقة، فبينما ينام نصفه الأيمن، يرتفع النصف الأيسر إلى السطح للتحكم في عملية التنفس، والعكس صحيح.
وتتمتع الدلافين بتصميم فريد يسهل حركتها في الماء، يتمثل في النتوء الذي يشبه المنقار في فمها، فبفضل هذا التركيب، يمكن للدلفين اختراق الماء بشكل أكثر فعالية، كما يمكنه السباحة بسرعة أكبر مع استهلاك طاقة أقل. وقد استُلهِم تصميم أنوف السفن الحديثة من هذا النتوء، مما يزيد من سرعتها ويمكنها من شق البحار والمحيطات بسهولة أكبر.
في السفن الكبيرة المعاصرة، يُستخدم تصميم يشبه أنف الدلافين بدلاً من الأقواس التقليدية الشبيهة بحرف (V)، يساعد هذا التصميم في تحسين اختراق مقدمة السفينة للمياه، مما يزيد من سرعتها ويقلل من استهلاك الوقود بنسبة تصل إلى 25٪.
نظام فريد يحمي من انخفاض الضغط
لا يوجد كائن بحري يتفوق على الدلافين وحوت العنبر في الغوص إلى أعماق البحار، حيث يعود الرقم القياسي بهذا الشأن إلى حوت العنبر الذي يغوص إلى عمق ٣ آلاف متر بنَفَس واحد فقط؛ ذلك أن الخالق العظيم منح الدلافين والحيتان جسمًا يمكّنها -بفضل ذيلها وزعانفها- من الغوص إلى أعماق البحار والمحيطات، ثم الطفو على سطح الماء من حين لآخر، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإنسان اخترع زعانف السباحة استلهامًا من هذه الحيوانات البحرية.
ميزة عجيبة أخرى وضعها الخالق في رئتي الدلفين هي أن هذا الكائن الرشيق عندما يغوص في الأعماق، يزداد وزن الماء عليه ويتكاثف الضغط، ولموازنة هذا الضغط، يزيد الدلفين تدريجيًّا من ضغط الهواء داخل رئتَيه، ليصل هذا الضغط الهوائي تدريجيًّا إلى مستوى عالٍ جدًّا، وهنا يكمن العجب العجاب، إذ لو أن رئة الإنسان تعرضت لهذا المستوى من الضغط لتمزقت وتحطمت مباشرة، لكنَّ شيئًا من هذا لا يحصل مع الدلفين أبدًا. نعم، لقد جُهّز جسم الدلفين بآلية خاصة تحميه؛ حيث تكون القصبات الهوائية والحويصلات الهوائية في رئتيه محمية بحلقات غضروفية شديدة المقاومة للضغط.
ومن العجائب البديعة الأخرى في جسم الدلفين حصانته ضد خطر انخفاض الضغط، في حين أن الغواصين من البشر غالبًا ما يتعرضون لهذا الخطر الناجم عن اختلاف الضغط أثناء الصعود السريع إلى سطح الماء. سبب انخفاض الضغط هذا، هو الاختلاط المفاجئ للهواء المسحوب إلى الرئتين مع الدم، مما يؤدي إلى تكون فقاعات هوائية في الأوعية الدموية، حيث تعطل هذه الفقاعات النظام في الدورة الدموية، وتعرض صاحبها للموت.
الدلفين وطائرة الكونكورد
ماذا لو قلت لكم إن تصميم مقدمة الدلفين كان مصدر إلهام لمصممي طائرة الكونكورد؟ بالفعل، لقد تأثر المهندسون بشكل أنف الدلفين المغزلي في جهودهم، لتقليل احتكاك الهواء بالسطح الخارجي لطائرة الكونكورد. وعندما لاحظوا أن زعنفة الذيل الأفقي للدلفين تعمل كمحرِّك فعَّال في الماء، قرروا وضع محركات الكونكورد في الجزء الخلفي من الطائرة، محاكاةً لمحرك الدلفين، وحققوا بذلك نتائج ممتازة في تحسين أداء الطائرة.
تطوير تكنولوجيا الغواصات
يمنح الجسم الشبيه بالمكوك لدى الدلفين القدرة على الحركة بسرعة كبيرة. ومع ذلك، اكتشف العلماء أن هناك بنية أخرى تلعب دورًا رئيسيًّا في قدرة الدلفين على التحرك بهذه السرعة، وهي جلده الذي يتكون من ثلاث طبقات: الطبقة الخارجية رقيقة ومرنة للغاية، والطبقة الداخلية سميكة ومكونة من شعيرات مرنة تمنحها مظهر فرشاة ذات شعيرات بلاستيكية، والطبقة الثالثة في الوسط مصنوعة من مادة إسفنجية. عند تعرض الدلفين لضغط مفاجئ أثناء السباحة السريعة، يتم امتصاص هذا الضغط من قبل الطبقات الداخلية مما يخفف تأثيره.
بعد أربع سنوات من الأبحاث، نجح مهندسو الغواصات الألمان في تطوير طلاء اصطناعي يحاكي خاصية جلد الدلفين. يتكون هذا الطلاء من طبقتين من المطاط مع وجود فقاعات بين الطبقات تشبه خلايا جلد الدلفين. وقد أدت هذه التقنية إلى زيادة سرعة الغواصات التي استخدمت هذا الطلاء بنسبة 250٪.
الدلافين والسونار، ما العلاقة؟
هل تعلم أن الدلافين تعتمد على الصوت كوسيلة رئيسية للتواصل بينها؟ وهل تعلم أن سرعة انتقال الصوت في الماء أسرع بكثير منه في الهواء؟ يعتقد العلماء أن لدى كل دلفين صافرة صوتية فريدة تمثل هويتها الفردية، وتصدر الدلافين موجات صوتية بمعدل يصل إلى ٢٠٠ ألف ذبذبة في الثانية من عضو خاص أمام رؤوسها، وبفضل هذه الاهتزازات، لا تكتفي بتحديد العوائق في مسارها، بل يمكنها أيضًا تحديد اتجاه ومسافة وسرعة وحجم وشكل الجسم المعني بالتفصيل، باستخدام خصائص الصدى.
هذا وإن مبدأ السونار الذي ابتكره الإنسان، يشبه بشكل كبير الطريقة التي تعتمدها الدلافين في التواصل والاستكشاف تحت الماء، فكلاهما يعتمد على إرسال موجات صوتية واستقبال الصدى الناتج عن تفاعل تلك الموجات مع الأجسام والعوائق، فالدلافين تستخدم هذه التقنية لتحديد المواقع والأشياء تحت الماء وللتواصل مع بعضها البعض، بينما يستخدم الإنسان نفس المبدأ في أنظمة السونار لاكتشاف الأهداف تحت الماء، مما يعزز فهمنا للعالم البحري ويساهم في تطوير التقنيات البحرية.
أجل، عندما يقرأ الإنسان هذا الكون بتمعن، ويتأمل أسرار الوجود بعمق، يرى هداية كاملة تشمل الجميع بعنايتها، ويشاهد الحكمة المبثوثة في كل جنباته، من أبسط الأشكال إلى أكثرها تعقيدًا، فيفيض قلبه بالتعظيم للذي “أعطى كل شيء خلقه ثم هدى”.
(*) كاتب وباحث تركي.