جوجل: هل يعيد تشكيل الأدمغة البشرية؟

من الواضح أن محرك البحث الشهير (جوجل)، قد أحدث ثورة مهولة في الوصول للمعلومات، واعتنى بكل مجال تقريبًا، إذ يمكن من خلاله معرفة أي معلومة بأي وقت، ورغم ذلك هناك خطر ينتظر مستخدمي ذلك المحرك، بل وينتظر البشرية كلها، لأنه عندما تصبح إمكانية الوصول للمعلومات أسهل، فإن جودة الأسئلة المطروحة تقل، وبالتالي تصبح قدرة الفرد على طرح الأسئلة خاملة وباهتة.

جعل العقول كسولة

ووفقًا لعلماء النفس فإن جوجل يخلق مزاجًا هادئًا للمستخدمين، وهذا يزيد الرغبة في التعلم، حيث يقول الاقتصادي وعالم النفس الأمريكي (جورج لوينشتاين) من كلية (ديتريش): إنه عندما تصادف شيئًا لا تعرفه، أو تدرك أنك لا تعرف كل شيء عنه، فإنك تشعر بالحاجة إلى التعلم، فالفرق بين قراءة كتاب والبحث على جوجل واضح تمامًا، حتى إذا وجدت المعلومات التي بحثت عنها بالكتاب، فإن فضولك لا يزال حيًّا، لأنك لم تقرأ بقية الكتاب، بينما بعد الوصول للمعلومات على جوجل، يتم إغلاق علامة التبويب عادة وتعتبر المهمة مكتملة.

والمعلوم أن العقل البشري يفضل دومًا اختيار العمل السهل، ولكن عندما يكون من الصعب الحصول عليه، فإنه يصبح أكثر قيمة، فكلما كان الوصول للمعلومات أسهل بهذا المجال يتم تنشيط آلية المكافأة بالدماغ، كلما قل إفراز الناقلات العصبية (الدوبامين) وقل التعلق والاهتمام بتلك المعلومات.

وقد لوحظ أن الدماغ يعمل بكفاءة أكبر، ويعالج المعلومات بشكل أفضل بالظروف التي يصعب فيها التعلم، والتي يطلق عليها عالم النفس المعرفي الأمريكي روبرت بيورك (الصعوبات المرغوبة) لأن محركات البحث ليس لها ذات التأثير، لوجود اختلافات خطيرة بين استخدام القاموس الرقمي والقاموس المطبوع، كما يؤكد الخبراء أنه أثناء البحث عن لفظ (مكافأة) بالقواميس المطبوعة، نتعلم العديد من الكلمات المختلفة عن ذلك اللفظ، وأثناء البحث عن إجابة سؤال إذا كان البحث يستغرق وقتًا كما هو الحال بالكتب المطبوعة، فسوف تعمل الأدمغة كمنارة خارج هذا السؤال، وتركز على الأفكار المختلفة حول هذا الموضوع.

وذلك هو الموقف الذي يسمح للأفراد باستكشاف المعلومات، ولأن الوصول للمعلومات سيكون سريعًا ودقيقًا جدًّا في جوجل فسيتم منع هذا الاستكشاف، وتأكيدًا على ذلك أفاد (آلان إيجل) أحد كبار المديرين بشركة (جوجل) بأنه لم يرغب في أن يستخدم ابنه محرك جوجل قبل وصوله للمرحلة الثانوية، لإدراكه تمامًا كيف يمكن للتقنية أن تجعل العقول كسولة، بعد أن أعاد محرك البحث الشهير تشكيلها.

بين الخبراء والجهلاء

في معهد سميل لعلم الأعصاب والسلوك البشري بجامعة (كاليفورنيا) بلوس أنجلوس قام دكتور (غاري سمول) مع مجموعة منتقاة من زملاءه، بإجراء العديد من دراسات الرنين المغناطيسي التي كانت مثيرة للاهتمام، للبحث عن تأثير التقنية على الشبكات العصبية، ومن بين تلك الدراسات كانت هناك دراسة بدت رائعة بالنسبة للخبراء القائمين بها، كونها نظرت في كيفية تنشيط البحث عبر الإنترنت لأجزاء مختلفة من الدماغ.

وقد أجريت الدراسة مع مشاركين كانوا أكبر سنًّا، لمعرفة ما إذا كان يمكن استخدام الإنترنت كوسيلة من بين وسائل تمرين الأدمغة، ما يؤدي لإبطاء التدهور العقلي، ولم تكن إحدى النتائج الباهرة تكمن بعدم وجود أي أجزاء من الدماغ تضيء عند البحث، ولكن الاختلافات بمستوى النشاط العقلي بين الباحثين الممارسين، ممن يطلق عليهم (خبراء الإنترنت) والمبتدئين ممن يطلق عليهم (جهلاء الإنترنت).

ويشرح دكتور (مودي) زميل سمول في الدراسة بأن الدافع الأصلي من الدراسة كان لتوفير التمارين الذهنية لكبار السن، وأن الأدمغة يمكنها تقييم ما نراه على صفحات البحث، مؤكدًا على أنه يوجد هناك موقف يمكن فيه لكل شخص تقريبًا الوصول إلى جهاز كمبيوتر، وذلك يمكن أن يجعل الأمر عالميًّا تقريبًا وبالأخص مع تقدم العمر، كما أضاف (مودي) بأنه نظرًا لوجود بعض الأشخاص لا يملكون القدرة على الذهاب للمراكز العليا والتفاعل مع أشخاص آخرين، فقد ساعد محرك البحث جوجل على القيام بأشياء مثيرة جدًّا بالمنزل دون الحاجة إلى التنقل المثير.

وأشار (مودي) أيضًا إلى أن الهدف الرئيسي من الدراسة، كان يكمن بمعرفة الفرق بنشاط الدماغ، مع مجموعتين مختلفتين بين قراءة النص والبحث المحدد بالويب، وأراد الفريق معرفة أي أجزاء من الدماغ تضيء عند تنفيذ مهام البحث، واستخدام القراءة باعتبارها مهمة مقارنة، لأن لكل من القراءة والإنترنت والبحث بجوجل، استخدمنا أساسًا مختلفًا، فقد كان لدينا خط أساسي للضغط على الأزرار، حيث ظهرت أشرطة بيضاء على الشاشة وضغطوا فقط على الزر عند ظهور شريط أبيض للموقع على الشاشة.

وبمقارنة نمط النشاط عندما كانوا يقرؤون ويختبرون فصولاً مختلفة، أو عندما كانوا يختارون جوجل من شاشة البحث وقراءة الإنترنت لهذا النمط من النشاط، لذلك كانت سيطرتنا أكثر من خط أساس تحكم منخفض المستوى، وبعد ذلك وبتحليل عالي المستوى تمت مقارنة نمط النشاط أثناء قراءتهم لنمط النشاط عند قيامهم بالبحث على الإنترنت، لذا كان لكلتا المهمتين عنصر تحكم أساسي منخفض المستوى.

كما وجدوا أيضًا أن نمط النشاط كان متطابقًا تقريبًا، وقد فاجأنا ذلك بصراحة في البداية لاعتقادنا أن الإنترنت حتى بالنسبة للمشاركين الجهلاء يتطلب مناطق إضافية، لأنه عندما يبحث شخصا ما بالإنترنت فهو يصبح منخرطًا بصنع القرار، لذلك يجب عليه قمع المعلومات الدخيلة، وقد فوجئنا عندما اكتشفنا أنه بكل من مهمة الإنترنت ومهمة القراءة، فإن الموضوعات تتفاعل فقط مع مناطق لغتهم ومناطقهم المرئية، وهناك بعض مناطق التكامل الحسي أيضًا، لكن يبدو أنهم يقرؤون بكليهما حالات، وليس من المستغرب أبدًا مناطق معينة، لأنها مناطق لغوية ومناطق ذاكرة ومناطق تركيز بصري.

تحيز وعدم تقييم الحقائق

نتيجة طبيعية لوسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد العديد من تفاعلاتنا اليومية وجهًا لوجه، لكنها باتت من شاشة إلى شاشة، توفر لنا الملفات الشخصية عبر الإنترنت إمكانية الوصول الفوري إلى مخزن لا نهاية له من المعلومات حول أي شخص على وجه التقريب، ما يعني أنه حتى لو أجرينا محادثة مع شخص ما شخصيًّا، فقد نقوم بإهمال الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من المعلومات عنه، علمًا بأنه يمكننا العثور عليها بسهولة فيما بعد، وهناك تأثير آخر لجوجل معروف بـ(فقدان الذاكرة الرقمي) وهو الميل إلى نسيان المعلومات المتوفرة بسهولة عبر محركات البحث مثل جوجل، فنحن لا نحفظ هذه المعلومات بذاكرتنا، لأننا نعلم سهولة الوصول لتلك المعلومات عبر الإنترنت.

وذلك الموقف يصف تأثير جوجل، فعندما تكون المعلومات متاحة بسهولة عبر الإنترنت، فإننا لا نحفظها بالذاكرة، ولقد أصبح جوجل جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وهذا التحيز لا يوجد فقط فيما يتعلق بالأشياء التي نبحث عنها بمحركات البحث، ولكن بالنسبة لمعظم المعلومات التي يمكن الوصول إليها بسهولة على أجهزة الحاسوب أو الهواتف لدينا، كما يؤثر جوجل على الطرق التي نتعلم بها ونحل بها المشكلات ونتذكر بها.

بينما فتح الإنترنت عالمًا جديدًا من الاحتمالات، وبخصوص المعلومات التي يمكننا الحصول عليها، فإن تفاعلنا مع العالم يمكن أن يصبح سطحيًّا عندما لا تكون هذه المعلومات متأصلة كمعرفة دائمة، على الرغم من أن بعض الناس يعتقدون أن تأثير جوجل هو علامة على التفوق التكنولوجي، لكنه لا يوجد دليل على أننا نتحسن في البحث عن المعلومات، ورغم ذلك هناك أدلة متزايدة على أننا لا نقيم الحقائق التي نواجهها عبر الإنترنت، وذلك يمكن أن يكون خطيرًا، لأن الإنترنت الذي ابتلي بكم هائل من المعلومات الخاطئة، وبدلاً من ذلك يُظهر تأثير جوجل كفاءتنا الكبيرة عندما يتعلق الأمر بتحديد أولويات المعلومات.

صعوبة حفظ المعلومات

لقد تعلمنا استخدام جوجل باعتباره مستودعًا شخصيًّا للمعرفة، وتقسيم عبء التشفير والتخزين، ورغم أننا نبذل جهودًا حثيثة لمعالجة المعلومات الجديدة، إلا أننا نعتمد على جوجل للاحتفاظ بتلك المعلومات، وذلك يسمى (المقايضة بالذاكرة التبادلية) فلم نعد نضيع الجهد لتذكر شيء يمكن البحث عنه بسهولة عبر الإنترنت، ومع ذلك إذا كانت جودة تلك المعلومات رديئة، فإن الإنترنت في الواقع لا يفعل الكثير لتحسين ذكاء الفرد وإنتاجيته، كما يشير تأثير جوجل إلى أن العالم الرقمي يغير الطريقة التي نفكر بها، ومن ثم أصبحنا أقل ميلاً لاستيعاب المعلومات أو تشفيرها بعمق، لأننا نعلم أنه يمكننا دائمًا البحث عنها بجوجل.

وكل ذلك يبين أن اعتمادنا الرقمي يمتد من محرك البحث للتعلم الآلي لاعتيادنا على الاستجابات الآلية لتخزين المعلومات، بدلاً من اعتمادنا على عقولنا، وعن النماذج اللغوية فيمكنها أيضًا زيادة تضخيم ذلك التأثير، لأننا لم نعد ننسى الكتابة الأخرى، بل ننسى كتابتنا الخاصة، وبينما نقوم بتشفير عملنا بسهولة فإننا ننسى بسهولة عمل الآخرين، وتلك تصبح مشكلة بحصولنا على الفضل في الكلمات المكتوبة بواسطة الروبوتات.

ولا يعني كل هذا أنه لا ينبغي لنا استخدام التعلم الآلي لتجاوز المهام القصيرة، لكن فقط التأكد من قراءة وتذكر استجابة ربوت المحادثة (شات جي بي تي) قبل إرسالها إلى العالم، وذلك قد يحدث لأن أدمغتنا تواجه الكثير من المعلومات الجديدة يوميًّا، ما يعني أنه من الصعب علينا حفظ كل هذه المعلومات بالذاكرة، وبالتالي قد يتعين علينا تحديد أولويات المعلومات التي نختار أن نتذكرها، على الرغم من أن تأثير جوجل يتعلق بنسيان المعلومات.

لكن الدكتورة (جينيفيف بيل) عالمة الأنثروبولوجيا الأسترالية، تشير إلى أنه قد يكون في الواقع علامة على الكفاءة، لذلك فإن معرفة كيفية ومكان الوصول إلى المعلومات دومًا ما تكون أكثر أهمية من معرفة الأجزاء الصغيرة من المعلومات نفسها، ورغم أن تأثير جوجل يعتبر وسيلة فعالة لتحديد أولويات المعلومات التي نحتفظ بها بالذاكرة، لكن ذلك يقودنا للأسف إلى الاعتماد بشكل مفرط على العالم الرقمي.

وتأثير جوجل يدفعنا للتعامل مع الإنترنت باعتباره مخزونًا دائمًا للذاكرة، لاعتقادنا التمكن الدائم من الوصول إليه، وهذا يمكن أن يكون مفيدًا للحصول على معلومات عامة أو حقائق، إلا أن ذلك الأمر ليس مفيدًا جدًّا عندما يتعلق الأمر بتعلم المعلومات الشخصية وتخزينها، وزادت (جينيفيف) بقولها لنا: تخيلوا أنه بإحدى الحالات التي تؤكد أن جوجل له تبعات سلبية على الأدمغة البشرية، أن امرأة شابة تدعى كريستينا كانت بإحدى الليالي في إحدى الحانات وفقدت هاتفها، وكأمر طبيعي حاولت العودة إلى منزلها، ولكنها أدركت أنها لا تعرف كيفية الوصول إليه، فهي تستخدم دومًا خرائط جوجل، وحاولت استدعاء سيارة أجرة أو إجراء اتصال ليأتي والداها لاصطحابها، لأنه من الخطورة العودة لمنزلها ليلاً وهي بمفردها، وعند رؤية كريستينا هاتفا عموميًّا هرولت إليه لإجراء الاتصال، لكنها تيقنت من عدم تذكر أرقام شركات سيارات الأجرة، بل ولم تتذكر حتى أرقام والديها، عند ذلك وجدت كريستينا نفسها بموقف محرج جدًّا لا تستطيع الخروج منه، وذلك كله نتيجة اعتمادها بشكل كبير ومن خلال جهازها الرقمي على جوجل.

المصادر

(1) هل يجعلنا جوجل أغبياء؟، موقع (dw) 2/9/2018م

(2) هل تغير الأجهزة الرقمية أدمغتنا؟، إيلينا باسكينيلي، موقع المجلة العلمية الأمريكية 11/9/2018م.

(3) فوضى الإنترنت.. هل يجعلنا جوجل وفيسبوك أغبياء؟، إبراهيم فريد، (الجزيرة نت) 26/8/2018م.

(4) الإدمان عبر الإنترنت، اضطراب العصر، حمودة سليمة، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، عدد (21) ديسمبر 2015م.