من جميل ما توارثناه عن لغتنا العربية الإيجاز وروعة التعبير. فمن قديم والعرب يرون بلاغتهم في الإيجاز، وروعة تعبيرهم في الكلام القليل العامر بالمعاني والدلالات. ويتجلى جمال العربية من خلال ردودهم البليغة المسكتة الموجزة؛ لأن سامعها يُرمى بها فلا يجد جوابًا ولا يملك نطقًا، لأن إحكامها وصياغتها وطريقة صكها بهرته فأخرسته، ولأنها عادة تجيء على غير توقع من متقبلها، فكأنه أصيب في مقتل فابتلع دهشته وصمت، ويطلق عليها “الأجوبة المُفحمة”، لأن قائلها يضع بها في فم من يسمعها فحمًا فلا يحير جوابًا. والأجوبة المسكتة، أجوبة على أسئلة جاءت بعضها من نية الاختبار المنطوي على هدف التعجيز، مع الأمل في أن يكشف هذا عن علم السائل وسعته، وقصور علم المسؤول لغرض السائل في التباهي بعلمه.

وقد تنبه العرب القدماء إلى مكانة الأسلوب في الحديث، وأشادوا باللسان القادر على تطويع الكلام والوصول إلى المآرب في يُسر، وتجاوز الأذن بلا إذن، وأسْرِ القلب دون عسر، وذموا اللسان الذي يرمي بصاحبه في المهالك، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كثيرًا ما يتمثل بقول الشاعر:

احذر لسانك أن تقول فتُبتلَى      ***      إن الـــبلاء مـــوكل بالمنطــقِ

ويقول الشاعر المخضرم الأعور الشنّي:

ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه          ***      إذا هو أبدى ما يقول من الفم؟

ويقول حكيم الجاهلية زهير بن أبي سلمى في معلقته:

وكائن ترى من صامت لك معجبٍ       ***      زيـــادتــه أو نـقـصـه فــــي التــكــلمِ

لسان الفـــتي نصف، ونصف فـــؤاده   ***      فلم يبق إلا صورة اللحم والدمِ

ولما كان العرب يؤثرون من القول ما جاء وجيزًا بليغًا مركزًا، لذا نراهم ينفرون من فضول الكلام وحواشيه، واشتهر عنهم قولهم: “خير الكلام ما قل ودل”.

يقول الفراء: “وجدنا  للغة العرب فضلاً على لغة (لغات) جميع الأمم، اختصاصًا من الله وكرامة أكرمهم بها. من خصائصها أنه يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات، ومن الإيجاز الواقع فيها أن للضرب كلمة واحدة فتوسعوا فيها، فقالوا للضرب في الوجه: لطم، وفي القفا: صفع، وفي الرأس إذا أدمي: شج، فكان قولهم: لطم أوجز من ضرب على وجهه”.

وقيل لأبي عمرو بن العلاء: “لم كانت العرب تطيل؟ قال: ليسمع منها، قيل: فلم توجز؟ قال: ليحفظ عنها”. وقال جعفر بن يحي: “إذا كان الإيجاز كافيًا، كان الإكثار هذرًا. وإذا كان التطويل واجبًا كان التقصي عجزًا”.

ويقول امرؤ القيس:

أفـــاد وجـــاد وســاد وقاد          ***       وزاد وعاد وزاد وأفضل

كلمات قليلة لمعان كثيرة، معان تحتاج عند غير ناطقي اللغة العربية إلى مجلد يشرح مراميها.

الجواب المسكت

في تعريف الأجوبة المسكتة يقال: “هي مجموعة من الأجوبة الحاذقة الذكية، يردُّ بها المسؤول على من سأله ليفحمه بالجواب المسكت”. والجواب المسكت: “قول بليغ مرتجل يعتمد على المشافهة، يقصد به تصحيح الكلام، أو إثبات حقيقة، أو دفع شبه مع الإصابة والسرعة في الإجابة.

أما سمات الجواب المسكت فهي كالتالي:

أ- السرعة في الرد: وهي السمة الأبرز، فالجواب المسكت هو وليد لحظته، لأن الجواب بعد نظر وتفكر لم يكن بشيء وعد عيًّا لا يعتد به.

بـ- الإصابة في القول: من أهم مميزات الجواب المسكت، وهي سبب الإسكات والإفحام فيه.

جـ- الإيجاز في التعبير: هذه السمة لا تقل حضورًا وأهمية من سابقتيها، لأن السرعة في الرد تتطلب تكثيفًا للمعاني وتقليلاً للألفاظ، حتى يستطيع المتكلم أن يصل إلى خصمه بأسرع الطرق وأنجعها.

د- حسن البيان: وذلك باختيار الأسلوب البلاغي الأنسب لأدائه، والموازنة بين الألفاظ وانتقاء اللائق منها.

هـ- إفحام الخصم: وهي نتيجة للسمات الأربع السابقة، وهي قطع الطريق على المخاطب للرد أو الاستعداد للرد. فالأجوبة المسكتة تشبه الضربة القاضية.

هذه هي السمات الخمس للأجوبة المسكتة، وهي كما أجملها أبو حيان التوحيدي في قوله: “أحسن الجواب، ما كان حاضرًا مع إصابة المعنى، وإيجاز اللفظ وبلوغ الحجة.. أما حضور الجواب فلِيكون الظفر عند الحاجة، وأما إيجاز اللفظ فلِيكون صافيًا من الحشو، وأما بلوغ الحجة فلِيكون حسمًا للمعارضة”.

وباختصار، فإن الأجوبة المُسكتة تأتي ردًّا على خطأ أو تعدٍّ في القول، والبادئ أظلم.

وفي الأجوبة المسكتة نجد المتعة والتسلية، بالإضافة إلى الحكمة والبديهة لكثرة ما تضم من أجوبة هزلية وفكاهات طريفة ونكات ظريفة، مما يدور في مجالس أنسهم ومنتدياتهم الخاصة والعامة.

وهذه باقة من أجوبة الأعراب والمتكلمين والفلاسفة والحكماء والزهاد والشعراء، تدل دلالة قاطعة على البلاغة في التعبير، والسعة في الفكر، والقوة في الحجة، والفصل في الخطاب.. ومع هذه الفصاحة والبلاغة والحكمة التي تبدو في كثير من الأجوبة، نجد أدبًا وطرافة ودعابة وظرفًا وخلطًا بين الفكاهة والجد.

  • قيل إن رجلاً سأل العباس رضي الله عنه: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر، وأنا ولدت قبله.
  • لما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوجه إلى الشام، قال له رجل: أتدع مسجد رسول الله؟ قال: نعم، أدع مسجد رسول الله لصلاح أمة رسول الله.
  • قال ابن الكواء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مستجابة.
  • كان حويطب بن عبد العزى قد بلغ المائة والعشرين، وقد تأخر إسلامه، فقال له مروان بن الحكم: تأخر إسلامك يا عماه حتى سَبَقَكَ الأحداث. فقال: والله يا ابن أخي لقد هممت بالإسلام غير مرة، كل ذلك يردني أبوك يقول: أتترك دين الآباء والأجداد؟! فأفحمه.
  • سأل رجل الأحنف بن قيس فقال: بم سُدْتَ قومك؟ فقال: بتركي ما لا يعنيني من أمرك كما عناك من أمري.
  • دعا عبد الملك بن مروان رجلاً إلى غدائه فقال له: قد تغديت. قال عبد الملك: ما أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا تكون فيه بقية للطعام. فقال: يا أمير المؤمنين بي فضل، ولكني كرهت أن آكل فأصير إلى ما استقبح أمير المؤمنين.
  • لما ولّى “المأمونُ” “يحيى بن أكثم” قضاء البصرة، وكان من أبناء نيف وعشرين سنة، أراد بعض أهل البصرة أن يعيِّره بذلك ويضع منه. فقال: كم سن القاضي؟ فقال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة.
  • جاء رجل إلى ابن سرين فقال له: إنك نلت مني، فقال ابن سيرين: نفسي أعز علي من ذلك.
  • قيل لرجل: إنا نرى بعض الناس يقول فيك سوءًا و لا نراك تقولُ فيهم إلا خيرًا. فقال: إنما أُعطيهم مما عندي.
  • قال رجل للشعبي: ما كان اسم امرأة إبليس؟ فقال الشعبي: إن ذلك نكاح ما شهدناه.
  • تكلم شاب يومًا عند الشعبي، فقال الشعبي: ما سمعنا بهذا. فقال الشاب: كُلّ العلم سمعت؟ قال: لا، قال: فشطره؟ قال: لا، قال: فاجعل هذا في الشطر الذي لم تسمعه.. فأفحم الشعبي.
  • حُكي أن غلامًا لَقيَ أبا العلاء المعري فقال: من أنت يا شيخ؟ قال: فلان، قال: أنت القائلُ في شعرك:

وإني وإن كنت الأخير زمانه           ***      لآت بما لم تستطعه الأوائل

قال: نعم، قال: يا عماه إن الأوائل قد رتبوا ثمانية وعشرين حرفًا للهجاء، فهل لك أن تزيد عليها حرفًا، فدهش المعري ولم يحر جوابًا.

  • جعل ابن السماك يومًا يتكلم، وجارية له حيث تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده، قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه، قالت: إلى أن يفهمه من لا يفهمه، يكون قد ملَّه من فهمه.
  • رُئِي أحدهم يسأل في قرية، فقيل له: ما تصنع؟ فقال: ما صنع موسى والخضر (يعني أنهما استطعما أهل قرية).
  • ولي العلاءُ بن عمرو بلاد سارية، وكان جائرًا، فأصاب الناس القحطُ وأمسكت السماء قطرها، فخرجوا يستسقون.. صعد العلاء المنبر فقال: اللهم ارفع عنا البلاء والغلاء.. فوثب معتوهٌ كان بها فقال: والعلاء؟ فإنه شر من الغلاء، وأغلظُ من البلاء. فضحك الناس، وخجل العلاء وانصرف.
  • رأى الحسن على مالك بن دينار كساء صوف يختال به، فقال: أيعجبك هذا الطيلسان؟ قال: نعم، قال: إنه كان على شاة قبلك!
  • ضم مجلس سفيان الثوري عددًا كبيرًا من العلماء وطلبة العلم، فبكى طالب وقال: بعد مجالستك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تجالس إيانا، فما أعظم مصيبتك! فنظر له سفيان وقال: يا غلام سيحتاجك السلطان!
  • قال مقاتل بن سليمان وقد دخلته أبهة العلم: سلوني عما تحت العرش إلى أسفل من الثرى، فقام إليه رجل من القوم فقال: ما نسألك عما تحت العرش ولا أسفل من الثرى، ولكن نسألك عما كان في الأرض وذكره الله في كتابه، أخبرني عن لون كلب أهل الكهف، فأفحمه.
  • سأل رجل الفضل بن عياض وقد كف بصره: كيف وجدت ذهاب بصرك؟ فقال: أصبت فيه راحتين؛ عصمهما عن محارم الله، ولا أنظر إلى ثقيل.
  • قالت زوجة يحيى بن خالد لزوجها: ما رأيت ألأم من أصحابك! إذا استغنيت لزموك وإذا أعسرت تركوك. فقال: هذا من كرم أخلاقهم يأتوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال الضعف منا عنهم.
  • قال المنصور لبعض أهل الشام: ألا تحمدون الله إذْ دفع عنكم الطاعون منذ ولينا عليكم؟ فقال الشامي: إن الله أعدل من أن يجمعكم والطاعون علينا.
  • جاء رجل يمتحن الخليل بن أحمد الفراهيدي بمسألة، فجعل يفكر ويطيل التفكير وأبطأ في الجواب، فأعجب الرجل بنفسه وقال للخليل متفاخرًا متباهيًا: لِمَ تكثر التأمل؟ فليس في هذه المسألة من الصعوبة ما يستدعي إطالة النظر، فقال الخليل: لقد عرفت مسألتك وجوابها، وإنما أفكر في جواب أسرع لفهمك، فأبقيت نفسي بما قصدت إراحتك به، فخجل الرجل وانصرف.
  • جاء رجل إلى وجيه من وجهاء بلده فقال: أنا جارك وقد مات أخي فأْمر لي بكفن. قال: لا والله ما عندي شيء، ولكن عد إلينا بعد أيام فسيكون ما تجد. قال: أصلحك الله فهل نُملِّح الميت إلى أن يتيسر عندك شيء؟!
  • أتى أبو موسى المكفوف مؤدب الحسن بن رجاء نخاسًا فقال له: اطلب لي حمارًا ليس بالصغير المحتقر ولا بالكبير المشتهر، إن خلا الطريق تدفق وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري ولا يدخلني تحت البواري، إن كثر علفه شكر وإن قل صبر، وإن حركته هام وإن ركبه غيري نام. فقال النخاس: يا عبد الله، اصبر قليلاً فإن مسخ القاضي حمارًا أصبت حاجتك.
  • قال رجل لصاحب المنزل: أصلح خشب هذا السقف، فإنه يقرقع، قال: لا تخف إنه يُسبِّح، قال: إني أخاف أن تدركه رقة فيسجد.
  • قدم إلى أبي الحازم القاضي سكران ليمتحنه فقال له: من ربك؟ فقال السكران: أصلحك الله ليس هذا من مسائل القضاة، إنما هو من مسائل منكر ونكير!
  • دخل أحد اللصوص بيت أحد الزهاد، فسأل صاحب البيت أين متاعك؟ قال: بعثت به إلى الدار الآخرة.
  • قيل لرجل: امض معنا إلى السلطان والبس ثيابك، فقال: هذه ثيابي التي أناجي فيها ربي.
  • قيل للخليل بن أحمد: من الزاهد؟ قال: من لا يطلب المفقود حتى يذهب الموجود.
  • تأخر أبو الفدا الكوفي عن أصدقاء له بينه وبينهم موعد، فقال له أحدهم: ما الذي أخرك عنا؟ قال: سرق اللصوص حماري، فسأله: كيف سرقوه؟ فأجاب: وهل كنت معهم فأعرف كيف؟
  • وقف سائل بقوم فقال: إني جائع، فقيل له: كذبت! فقال: جربوني برطلين من الخبز ورطلين من اللحم.

وبعد أن طوَّفنا مع نماذج مشرقة من الأجوبة المفحمة المسكتة، والخصبة الغنية من أجوبة الأعراب والمتكلمين والفلاسفة والحكماء والزهاد والشعراء، بها ما يدل دلالة قاطعة على بلاغة التعبير وسعة الفكر وقوة الحجة وفصل الخطاب.. ومع هذه الفصاحة والبلاغة والحكمة التي تبدو في كثير من هذه الأجوبة، نجد أدبًا وطرافة ودعابة وظرفًا وخلطًا بين الفكاهة والجد. 

(*) باحث في التراث العربي والإسلامي / مصر.