السعادة الزوجية بين الواقع والمثال

السعادة التي نعنيها، هي رابطة تنشأ بين الزوج وزوجته على نحو خاص وبشروط خاصة، وهذه الرابطة تسمى “الرابطة الزوجية”، التي صارت مشروعة بالعقد، وهي ما عبَّر عنه القرآن الكريم بـ”الميثاق الغليظ”، قال تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)(النساء:21).

قال صاحب “الكشاف”: “الميثاق الغليظ هو حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغليظ لقوته وعظمه، وقد قالوا صحبة عشرين يومًا “قرابة”، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج”(١).

ويرى الطاهر بن عاشور، أن الميثاق الغليظ هو عقد على نية إخلاص النية ودوام الألفة، أي كنتم على حال مودة وموالاة كالميثاق على حسن المعاملة(٢).

وللشيخ محمد عبده كلام نفيس في هذا المعنى يقول: “إن المرأة لا تقدم على الزوجية وترضى بأن تترك جميع أنصارها وأحبائها لأجل زوجها، إلا وهي واثقة بأن تكون صلتها به أقوى من كل صلة، وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة، وهذا ميثاق فطري من أغلظ المواثيق وأشدها أحكامًا(٣).

وكلمة الميثاق الغليظ، كلمة موجزة لكنها موحية ومعبرة، لأن السعادة الزوجية لا تتم إلا بتوافق متناغم بين الزوجين. وبعبارة أخرى تعني: التآلف والتكاتف والتعاطف والتناغم والأشواق والتضحية والنصيحة والصحبة.. وعند هذه النقطة تحديدًا، فثمة أمور تدرك ولا تقال للوصول إلى درجة التوأمية، وهي شعور الفرد بنفس إحساس الآخر، وهي درجة راقية في تنامي السعادة المطّردة، حتى إذا أصيب أحد الطرفين بصداع -مثلاً- شعر الآخر مثله بنفس الأعراض، وإذا جاع طرف أحس الآخر بالجوع أيضًا، وإذا ظهر البشر والسرور بأحدهما ابتهج الآخر حتى وإن لم يره. ولقد اشتكت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فقالت وا رأساه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم على الفور “بل أنا وا رأساه” (رواه البخاري).

ضوابط السعادة الزوجية

١- تحقيق الرضا التام بين طرفي العلاقة الزوجية؛ أو بمعنى آخر قبول كلا الطرفين لصاحبه قبولاً وجدانيًّا، فتقوي تلك الأرواح بعضها البعض فتكون كالجند المجندة تتعارف فيما تحب، وتتناكر فيما تكره.

وفي الحديث النبوي الشريف: “الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف”(رواه مسلم). حدث ولا حرج إذا ما اختلفت تلك الأرواح وأنكر بعضها بعضًا، ولكن هل الرضا المطلوب هنا هو الرضا التام الذي لا تشوبه شائبة، أم أنه قد ينوب عن المرأة وليها مما يدريه عنه بواقع خبرته الحياتية؟

الصحيح في المسألة أن الرضا هو المطلوب (أيْ الرضا النفسي)، أو بمعنى آخر الارتياح الداخلي، وهو رضا قلبي وجداني محض لكون الأرواح جنودًا مجندة.

٢- إيجاد موضوع مشترك بين  الطرفين سلفًا؛ وهو هنا الزواج، وهذا بدوره يحتاج إلى تخطيط مسبق، بأن يسأل كل طرف من أطراف العلاقة، عددًا من الأسئلة التي يستوضح بها كنه ما يريد، سيما وأن عقد الزواج كما يقول الفقيه “الكاساني الحنفي”: “عقد عمري يدوم”، أي يأخذ مساحة كبيرة من عمر الإنسان، لكون الأصل فيه على التأبيد فيسأل كل منهما نفسه قبل الارتباط وتوريط النفس والأهل بما لا ينبغي أن يكون: ما هي حاجتي النفسية لهذه الزوجة أو هذا الزوج؟ ولماذا أنا مشدود إليها أو إليه دون غيرها؟ وهل ثمة ارتياح لخلقها وخلقتها؟

٣- الإلزام؛ بمعنى أن الإنسان كان قبل ارتباطه بزوجته حرًّا مختارًا، يملك وقته بطوله وعرضه ولا ينازعه فيه أحد، كما أن كدّه وكسبه يصرفه كيفما شاء وحيثما أراد من غير أن يسأله أحد.. لكنه بعد ارتباطه بمن يشاركه حياة زوجية مشتركة، صار ملزمًا بما يمليه عليه الشرع والعرف والذوق الإنساني العام؛ فلم يعد حرًّا ولا مختارًا أن يسهر خارج البيت لغير حاجة، أو يسافر بغير ضرورة، أو ينفق ماله في غير موضعه، وإنما أصبح هناك من تشاركه أفكاره وأمواله وحياته ومستقبله، وعواطفه.. بمعنى آخر فإن مراعاة شعور الزوجة، هو جزء من التزام غير مكتوب يقع بالدرجة الأولى على عاتق الزوج، وما عقد الزواج إلا صورة رمزية، وقرينة على الوفاء بهذا النوع العظيم من الإلزام.

٤- وجود هدف مشترك يحيون به معًا؛ فمثل هذا الهدف يبقى على ديمومة الحياة واطراد النظام بين الطرفين، وهل هناك قاسم مشترك أعظم من الدين والخلُق؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن جاءكم من ترضون دينه وخلُقه فزوِّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”(رواه الترمذي).

٥- الملاطفة من جانب الزوج؛ لأن المرأة تذبل كالوردة إذا لم تُسق بالماء، وسقي المرأة هو الاهتمام بها، وملاطفتها والثناء عليها، ما يجعلها تتحول مائة وثمانين درجة لصالحك ولصالح بيتك. بعض الأزواج إذا مرضت زوجته يرسلها إلى بيت أهلها، وعندما تتعافى يأتي بها، وهو أسلوب مملوء بالقسوة. لقد تغيب عثمان رضي الله عنه عن غزوة بدر؛ لأنه كان يمرّض زوجته “رقية” بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في البخاري: وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه”.

أهمية السعادة الزوجية

لقد ثبت أن السعادة الزوجية ترفع مناعة الجسم وتقويها. وأثبتت الدراسات أن السعادة الزوجية تؤثر على زيادة نسبة الكولسترول الجيد بين الأزواج، وأن هرمون الكورتزون مرتبط بالضغط العصبي، وأن السيدات اللواتي يرتفع عندهن نسبة هذا الهرمون، يتعرضن للطلاق بعد مرور عشر سنوات من الزواج.

وصدق الله حيث قال: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا)(البقرة:35)؛ وفي الآية إشعار بأن السعادة والرضا لا تكون في وحشة الانفراد، وإنما تكون في التوافق والتآلف بين الزوجين لقضاء حياة مشتركة مملوءة بالمودة والرحمة.

نقاط على الحروف

إن كثيرًا من الزوجات ترغب في الحد الأدنى من الاحترام، وقد يفضلنه على الحب إن غاب هذا الأخير، لأن الحب يصبح مزيفًا عندما تهدر المشاعر وتصادر الأحاسيس، وتنتهك الخصوصيات ونتعدى الخطوط الحمراء. وإذا سألنا جمهرة من النساء منذ أن خلق الله الدنيا: ماذا تريد المرأة؟ أي ماذا تريد امرأة من زوجها؟

ورغم اختلاف المشارب والثقافات والأولويات، تبقى الإجابة مسطرة في قلوبهن، وهو “جانب الاهتمام بها”؛ لأن المرأة تحب من يسمعها ويصغي إلى همومها واهتماماتها ويضمد جراحها.

والمرأة أيضًا، تسعد بالعطاء والحب المتبادل الطبيعي والفطري غير المتكلف أو المصنوع، أي إن المرأة تحب أن تشعر بالأمان النفسي والحياتي، ولا يتحقق هذا الأمان إلا بالمعاملة الصادقة، لا بتغاضي الزوج عن زلاتها وهفواتها، حتى يصل به التغافل إلى عدم الاستماع لها أو رؤيتها.. والنبي عليه السلام قدوة لنا في هذا الجانب: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)(التحريم:٣)؛ لقد أخفى النبي عليه الصلاة والسلام كلامًا أسرّ به إلى السيدة “حفصة”  رضي الله عنها، ولكنها أخبرت به عائشة رضي الله عنها، فعرّفه الوحي بذلك، فعرض النبي بعضه لـ”حفصة” وأعرض عن بعض. قال السمرقندي: “أي سكت عن بعض لأن الكريم لا يبالغ في العتاب”(٤). إذا استطاع الرجل أن يعظم من الجوانب الإيجابية لدى زوجته ويشجعها ويدفع بها ويكافئها، انطلق إحساسها المتدفق بالحب والعطاء، والتشبث بالحياة الجميلة الراقية التي هي جزء منها.

ومن المهم أن نعلم أن بعض الرجال يسيطر عليهم شعور سلبي هو من مدد الشيطان؛ بأن كل نساء الأرض يفضلن زوجه أو العكس.. وتشعر بعض النساء أن كل رجال الأرض يفضلون زوجها، وأنها قد دلس عليها في زواجها، فأعطوها المتردية والنطيحة وما أكل السبع.. هذا الشعور يقتل الحياة الزوجية ويهدمها، وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة، بل إن الرجل لو اطلع على نساء محلته ممن يتوقع أنهن يفضلنها، لرجع عن رأيه، ولأدرك أن زوجته تفوق الكثير منهن فطنة وجمالاً، وتتبدد وساوس نفسه ويخنس شيطانه، فيجد نفسه في حالة من الوفاق الأسري والتناغم العاطفي، فتنقشع الغشاوة من على عينه فتعظم زوجته عنده، ويتسع قلبه الكبير لأن يضمها إليه حبًّا ورغبة ومودة.

احتياجات المرأة من الرجل

ثمة مثلث لا تستغني المرأة عنه، وحينما يوجد في بيت من البيوت فهو الجنة الدافئة الوارفة، التي تظلل بأغصانها كل من في البيت، وهذا المثلث يتمثل في الأمن والاستقرار والحب. ومتى فقدت واحدة من هذه الثلاث، بدأت رياح القلق وبوادر الشقاق.. وعندما يغيب هذا السكن المعنوي، يبرز ضعف الترابط الأسري والاجتماعي، وتبرز وجوه كالحة عليها غضب الرحمن؛ فإذا بالأزواج يهربون من السكن ولا يعودون إلا للنوم (مصالح مؤقتة)، والأولاد يقهر بعضهم بعضًا، وينحرفون في غير ما رقابة من أحد لأن الأبوين قد انشغلا بمشاكلهما الخاصة، وصارت البيوت خالية من المودة والرحمة، كانها بيوت العنكبوت: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(العنكبوت:41)؛ لم يقل أوهن الخيوط، فقد ثبت علميًّا أن خيط العنكبوت أشد من خيوط الفولاذ، لكن الوهن هنا، هو وهن العلاقات الاجتماعية ليكون البيت المملوء بالصخب والصياح والجدال بيتَ عنكبوت.حتى وإن شيد بالحديد والحجارة والفولاذ، يبقى بيت العنكبوت هو أبعد البيوت عن صفة البيت بما يلزم من أمان وسكينة وطمأنينة، حيث يخيم عليه الخوف والتربص والقسوة وانعدام أواصر القربى.. وهذه البيوت كما حدثنا عنها القرآن، هي بيوت خربة غير عامرة.

إذن على الزوجين أن يدركا أهمية المودة والرحمة، والحب والتفاني في تقوية الروابط الأسرية، والتخطيط بالعقل الجمعي والمشورة، ومعرفة خطورة ضياع مملكة الأسرة وهدمها. ولن تتحقق الرعاية والعناية والاهتمام والاحترام، إلا في مناخ من الحب والتسامح والصفح.

ولا تنس أنك أخذت امرأة مختلفة عنك في أمور كثيرة، فليس المطلوب منك أو منها أن يغير أحدكما الآخر، بل المطلوب التأثير في الآخر؛ بأن يمتلك كل طرف طاقة إيجابية بناءة تؤثر في الروح المقابلة، حتى تصبح كالجند المجندة؛ لأن تغيير الآخر يعني إعادة تربيته من جديد فيما يحب ويكره، وفي عاداته وتقاليده، وبيئته وتفكيره وأسلوب عيشه.. لكن يمكن للمرأة -بقوة إقناعها- أن تحبب نفسها لدى زوجها، لينقلب الحال من نفور منها إلى حب وشغف إليها.

(*) دكتوراه في الشريعة الإسلامية، جامعة طنطا / مصر.

الهوامش

(1) تفسير الكشاف، الزمخشري، ص:٢٢٨.

(٢) التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، ٤/٢٩٠.

(٣) الأعمال الكاملة، الإمام محمد عبده، ص:١٨٧، دار الشروق، القاهرة.

(٤) بحر العلوم، السمرقندي، ج٣، ص:٣١٠٩.