لقد كان عالمنا يومًا، معرضًا من الجمال لا تَشبع العينُ من مشاهدته بألوانه وأنواره وأعماقه العجيبة، وموطنًا لثقافة فريدة وحضارة عظيمة. لقد كانت الحياة في هذه الديار دافئة ناعمة، تخلب الألباب وتجتذب القلوب، وتَشدُّ إليها الرِّحالَ من كل أرجاء الأرض قوافلُ كقوافل الحجيج للتنزه في سفوحها الجميلة. كان أولئك الذين لم يحظوا برؤيتها من قبل، يعيشون بهجة المفاجأة ونشوة الانبهار في كل بقعة أو زاوية يحلوُّن فيها، أما من نالوا حظوة التعرف على آثار عظمتها وبدائع جَمالها من قبل، فقد كانوا لا يريدون مبارحة هذا الجو الآسر أبدًا.

في هذا العالم، كانت المدن والقرى مترابطة بوشائج مادية ومعنوية معًا، وكانت المعمورة كلها بقراها وبلداتها وحواضرها كمدينة كبيرة واحدة. كان كافة أبناء هذا المجمَّع المثالي يمتازون بنقاء أخلاقي عميق، ووعي ديني قوي، ووحدة وطنية لا تتزعزع، كانوا ينعَمون بسلام وسعادة لا توصف، كانت الحياة في كل ركن من هذه الديار خالية من أي نزاع أو صدام أو اعتداء أو اقتتال، مما دفع المنصفين من الرحالة الأجانب إلى أن يفسروا ذلك بأن يد الإعجاز هي التي تحرك خيوط الحياة فيها.

كان سكان هذه الديار يفيضون بمشاعر الخير والجمال؛ يبتغون البر والإحسان لبعضهم، ويرون أنفسهم أمناء على شرف بعضهم البعض وسمعتهم وكرامتهم، يبدون أقصى درجات النبل والحساسية من أجل سعادة المجتمع بصدق خالص ينبعث من أعماق قلوبهم. كان ذوو المال والثراء قد سخَّروا إمكاناتهم لخدمة الدولة والمجتمع، وكان الفقراء لا يُضطرون إلى إذلال أنفسهم أو إهدار كرامتهم بالطلب أو السؤال. أجل، لا يُضطر المعوزون إلى ذل السؤال، ولا يقع الميسورون في إثم المنّ والافتخار بالنوال.

كانت أصناف الخير والإحسان والجمال هنا قد تحولت إلى مؤسسات، وكان أبناء هذه الديار رموزًا للعناية الربانية، يشملون الفقير واليتيم والمسكين بالرعاية في مناحي الحياة كلها، ويمدون أيديهم إلى العليل والبائس وكل من تقطعت به السبل. حسبُك أن تلقي نظرة خاطفة على المساجد العريقة والمدارس العتيقة والمشافي القديمة والتكايا والزوايا، التي يشير كل واحد منها إلى معان دقيقة وأعماق روحية بأناقته الأخاذة ورقته البديعة. فأكرِمْ بها من بيان يفوق كل بيان في التعبير عن عمق الفكر ورحابة الرحمة التي بلغها أجدادنا الأماجد!

ليتنا استطعنا أن ننقل تلك الأمجاد إلى عصرنا -ولو إلى المتاحف- دون أن نفسدها أو نضيعها أو نعرّضها لظلم من لا يعرف قدرها! هيهات، لقد ضاعت تلك الكنوز التاريخية العظيمة، واندثرت معارض الجمال البديعة التي تعدُّ كل قطعة منها متحفًا مفتوحًا وحده، وذلك على يد جيل احتقرها وقلل من شأنها ولم يقدِّرها حق قدرها.

هذه الحضارة العظيمة، التي صارت -حتى- مقابرها لسانًا يعبر عن رقي فنونها بفصاحة بليغة، وغصنًا زاهي الألوان يمتد إلى عالم الماوراء، لا تزال هذه الحضارة تنبض بحضور باهر وأثر ساحر في نفوس أصحاب القلوب الحية والوجدان اليقظ، بخرائبها التي تنافس المدن العامرة، ونقوشها التي تضاهي المكتبات الثرية، ومقابرها التي تُسابق المتاحف الضخمة في إشعاعها.

اليوم، ينظر كثير من الناس إلى بقايا تلك الحضارة العظيمة على أنها أَشْلاء جثة هامدة متناثرة -فليفرح من يتوهم أنه لن يموت ولن يتلاشى أبدًا!- الحضارات، مثل البشر الراقدين في القبور، فانية. تولد واحدة تلو الأخرى، وتحيا واحدة بعد أخرى، وترحل واحدة تلو الأخرى. لا يمكن منع القادم من القدوم، ولا إيقاف الراحل من الرحيل.

بيد أن الحضارات التي تنبع من فكرة الخير والجمال، وتنمو بمعاني الخلود والماوراء، إنما هي هذه الحضارات التي تصبح مصدر إلهام للأجيال القادمة، كما تبقى مناظر بديعة يقبل على مطالعتها أهل السماء والملأ الأعلى. أفلا نرى أشعة النجوم التي تبتعد عنا ملايين السنين؟ بل نراها حتى بعد أن تنطفئ، كما تراها الأجيال القادمة، وتظل تنعكس أنوارها على مدى آلاف السنين القادمة. وهكذا، تظل هذه الحضارة التي نشأت وتطورت في بعدٍ أخروي، مشرقة ومشعة، مهما ابتعدت بها الأزمان وتقادمت بها العصور، يُقبل أهل السماء عليها يتأملون بدائعها ويطالعون دقائقها كما يطالع القارئ كتابًا مشرقًا جميلاً، وتتردد أنغامها عند أبواب السماء كأحلى ما تكون الأنغام.

إن تجاهل هذه العظمة، ومحاولة مقارنة شموع زائفة لا يعلم أحد ماهيتها وكم ستظل مضيئة، مع فترة عظيمة من الحضارة والإشعاع، بل وتجاوز ذلك إلى تصوير الشموع على أنها نجوم، والنجوم على أنها شموع.. إنَّ ذلك إن لم يكن نوعًا من الحمق والضلال، فإنه عداءٌ صارخٌ للتاريخ.

ليتنا استطعنا أن نُري هؤلاء الذين بَخَسوا الأمجاد قدرها حقيقة تلك الأعمار المباركة التي عاشها أهل تلك الحقبة العظيمة. لقد انساب الزمن نحو السماء في سيمفونية من السعادة، وتدفقت الفصول والأعوام بنشوة غامرة، حيث سبحت الحياة ببهجتها على أمواج الفصول والأعوام، زاخرة بأجمل الألوان والأنغام. وعمق السكينة والطمأنينة الذي فاض من قلب إلى قلب وانتقل من روح إلى روح، كان يحوِّل هذا الجمال إلى لغة فريدة، وتركيب عجيب، ونمط متفرد، وأسلوب بديع.. وصولاً إلى قمة الكمال، ومن ثم ملامسة هذا الكمال أفق الجماليات المجردة السامية.

في الواقع، لم نعرف تلك الحضارة العظيمة إلا بعد أن تحولت إلى كومة من الأنقاض، نعم، بعدما أصابتها زلازل متتالية. والحال أننا متساوون مع هؤلاء الجاحدين في الحرمان من رؤية تلك العظمة. ليتنا أدركنا ذلك العالم الجميل، ليتنا أدركناه عندما كانت أنظمته الفريدة تعمل بأداء باهر، قبل أن تَعصفَ برياضه العواصفُ، وتَذبلَ أزهارُه، وتحترقَ غاباتُه، وتَجرفَ السيولُ مزارعَه. نعم، قبل أن تَنفق جيادُه الأصيلة، وينخدع فرسانُه بفتنة السلطانة “مَهْلِيقَا”(١)، قبل أن يُعدَّ الجهاد بغيًا، ويُسقى الأبطالُ خمرًا فيترنحون سُكرًا، قبل أن تُرفَع طبولُ النصر إلى المتاحف، وتَخمدَ هتافاتُ الأبطال، قبل أن تُغمَض الأعينُ على الحقيقة، وتَغيبَ الشمسُ ويخيِّم الظلام على كل مكان، وتَجِفَّ الجداولُ، وتغورَ العيونُ، قبل أن تَصمتَ الأناشيدُ الإلهية وتختفي الأنفاس الربانية، قبل أن تتحول ربوعنا إلى مقابر وتتحول المقابر إلى مزابل.. باختصار، لم نسعد، لا نحن ولا هؤلاء البؤساء، برؤية ذلك العالم عندما كان كل شيء فيه على أفضل ما يكون جمالاً وكمالاً وبهاءً.

ترى، هل كان أبطال الأمس الذين حلَّقوا بالأمة من ذروة إلى أخرى، يتوقعون أن يحلَّ بأحفادهم ما حلَّ من كوارث متتابعة؟ أبدًا، بل ما كانوا يتصورون تلك المأساة حتى في أعمق أحلامهم. كيف، وقد كانوا يملكون من القوة والإيمان ما يمكِّنهم من منازلة العالم ومقارعة الجبابرة والقبض على مقاليد الأرض كافة. ولكن ها هم أولاء، وها هي ذكرياتهم الحلوة والمريرة، تعيش معنا في كل حين.

الكل سيرحل حين يحين موعد رحيله. إنه لمن الوهم تَصوُّر سيادة خالدة لتلال صغيرة في عالم تفنى فيه الجبال الشامخة. نعم، كل آتٍ راحل لا محالة، ولكن البعض سيرحلون وقد تركوا في قلوبنا أحلى الذكريات -كأسلافنا الأمجاد- والبعض سيرحلون ويبقون ذكريات ملوثة في ضمير الأمة، تذكرنا بما كان وما يمكن أن يكون لو لم تضعف الهمم وتخبو العزائم.

(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:١٣١ (ديسمبر ١٩٨٩)، تحت عنوان “Dün ve Bugün”. الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.

الهامش

(1) إشارة إلى قصيدة “سبعة فتيان عشقوا السلطانة مَهْلِيقَا” للشاعر التركي الشهير “يحيى كمال بياتلي” (١٨٨٤-١٩٥٨م). السلطانة مهليقا حسناء جميلة تعيش وراء جبل قاف، وبمجرد دخولها في حلم فتى فإنه يقع في حبها، ولا يشفى من ذلك الحب أبدًا، وينطلق إلى جبل قاف بحثًا عنها. إنه حب يائس. تحكي القصيدة قصة سبعة فتيان رحلوا إلى ما وراء جبل قاف، بحثًا عن أميرتهم وأملاً في اللقاء بها، في إشارة إلى المثقفين العثمانيين الذين انبهروا بالحضارة الغربية في أواخر الدولة العثمانية، وهاموا بها ورحلوا إليها، وآمنوا بأن المخرج من التخلف الذي وقعت فيه الأمة هو التماهي في الغرب بالكامل. والأميرة مهليقا تشير إلى تلك الرمزية.