لقد عُني علماء النفس الاجتماعي منذ أمد بعيد، بقضية الأسباب الكامنة وراء “العدوان” بين الناس (أو العدوان البين الشخصي Interpersonal Aggression). ويدور الجدل منذ سنين حول دور الوراثة مقارنة بدور البيئة في العدوان، وفيما إذا كان السلوك العدواني لدى البشر يتحدد بيولوجيًّا، أم أنه ينشأ عن التعلم ويتأثر بمؤثرات بيئية. فثمة اتجاه يرى الكائن الآدمي “مسالمًا” في طبيعة تركيبه، كل ما في الأمر أن “البيئة” -بما فيها من “ثقافة” منحرفة- هي التي تنمّي لديه نزعة العدوان.
وثمة اتجاه ثان يرى الكائن الآدمي “صفحة بيضاء” من الممكن أن تحوّلها “التنشئة” إلى “مسالم أو عدواني”.
واتجاه ثالث يرى أن “الإحباط” هو السبب في إنماء النزعة “العدوانية”؛ فما دامت حاجات الإنسان لم “تشبع” بشكل يحقق توازنه الداخلي، فإنه مضطر إلى أن يستجيب للظواهر استجابة “عدوانية” ما دامت تقف حائلاً دون الإشباع.
ويواكب هذا الاتجاه، اتجاه لا يقصر الأمر على الإحباط أو عدمه أو درجته وصلة ذلك بالعدوان، بل يجد -أساسًا- أن عجز الإنسان عن إشباع حاجته في التخلص من حالة “الإحباط”، يضطره إلى العدوان بصفته استجابة حتمية للإحباط. على أن أشد الاتجاهات مفارقة، هو الاتجاه الذاهب إلى أن العدوان يمثل حاجة أو دافعًا فطريًّا يرثه الكائن الآدمي بـ”الفعل”. وهذا يعني أن الإنسان يعيش في عالم متغير، ويسيطر على سلوكياته من خلال أفعاله ومن خلال تعرفه بمحيطه، وهو قابل بصورة إيجابية للتغيرات المذهلة، بحيث يكتسب الإنسان قوة خارقة تؤهله لممارسة عنف يفوق عنف كل حيوانات الطبيعة والبحار. وتتجلى هذه القدرة بصورة فردية وجماعية عبر التاريخ البشري الذي هو في جانب منه سلسلة جرائم ومحاولات لتفجير الكرة الأرضية وإفناء الإنسان نهائيًّا، كما يكتسب قوة خارقة لإعادة بناء ما دمرته الحرب في الطبيعة والإنسان نفسه. وهكذا يلبث يدور بين ثنائية الخير والشر، الدمار والعمار؛ الشر المتمثل بالجانب الأبرز منه في الحروب الفردية والجماعية، العالمية والإقليمية، السيكولوجية والميتافيزيقية، والخير المتمثل في صناعة كل وسائل البناء.
أما التصور الإسلامي للظاهرة، فإنه من الوضوح بمكان كبير أن الكائن يرث بـ”القوة” مبادئ “الشهوة والعقل” أو “الذات والموضوع” أو “الخير والشر”، وإلى أن عملية “التأجيل” التي يمارسها في بحثه عن اللذة هي التي تترجم “القوة” إلى “فعل” إيجابي هو “المسالمة”، وعدمه (أي عدم التأجيل) هو الذي يترجم “القوة” إلى “فعل” سلبي هو “العدوان”.
وبإمكاننا أن نتعرف على هذه الحقيقة إذا أدركنا أن إيذاء الآخرين هو المظهر الأشد بروزًا لكل سلوك “شهوي”. فالممارسات “الشهوية” الفردية مثل الشراهة في الطعام، أو المال، أو الجنس، أو اللهو… إلخ، إنما تعكس آثارها على “الذات” الشخصية دون أن تمتد إلى إيذاء الآخرين. أما الممارسات الشهوية المرتبطة بالآخرين، فإن انعكاسها عليهم يظل أمرًا من الوضوح بمكان كبير. فالقتل، أو التجريح، أو السب، أو الإهانة، بل والحقد على الآخرين بعامة والحسد، تظل أنماطًا “عدوانية” أشد بروزًا من الأنماط الأخرى المتصلة بالبحث عن “التفوق” أو “الاستطلاع”… إلخ.
جذور العنف
يرى الدارسون أن العنف ظاهرة لها جذور سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية، وهي ترتبط -مثلها مثل أي ظاهرة أخرى- بالعديد من العوامل المتداخلة والمتشابكة مع بعضها البعض. وبدون قراءة صحيحة لهذه العوامل، ستبقى كل المعالجات قاصرة ولا تمثل حلولاً ناجعة لها، ومهما تم من تغطية أمنية مكثفة -على أهميتها- فإنها ستبقى دون تحقيق النتائج المطلوبة للمعالجة، ذلك أن الإجراءات الأمنية تحاول منع العنف المدفوع بالكثير من العوامل. ولما كان العنف سلوكًا، فإنه يحتاج لضمان تواصله واستمراريته، طاقةً تكمن في دوافعه. ومن ثم فإن أي تعامل مع ظاهرة العنف لا يأخذ بعين الاعتبار عوامله الأساسية، سيكون تعاملاً مُجتزَأ لا يؤدي العلاجَ المطلوب، وربما أطال عمر الفيروس الحامل لممانعة المودة وجذره.
فلم يكن الإنسان عنيفًا يوم ولدته أمه، بل إن عنف الطبيعة وعسر الحياة والتربية وعنف الآباء، هو الذي يغرز العنف في خلايا الدماغ حتى حملته صبغياته الوراثية فكاد أن يكون موروثًا.
وهنا تظهر أهمية دروس التربية لتعريف النشء بالمبادئ الإنسانية النبيلة التي تحث على الود والتواصل، والعدالة والأخوة، والتفتح على الرأي الآخر، وعدم نصب العداء للمعتقدات الأخرى.. وبذلك نصون المراهقين والشباب، ونحصنهــم ضد المفاهيم المتطرفة -التي تزرع الكراهية لكل من يخالفنا الرأي والمعتقد- وبذور الفتنة والقسوة والعنف. ويرى الباحثون في هذا المجال أن أسباب هذه الظاهرة عديدة نلخصها في الأنواع الآتية:
الأسباب التربوية
قد تحدث بعض المشكلات التي تسبب ضررًا نفسيًّا أو ماديًّا على أفراد المجتمع، أو جماعة محددة منه، فيتولد من خلال ذلك شعور بالإحباط، ورغبة في الانتقام عن طريق استخدام العنف. ويعد التفكك الأسري من أبرز تلك المشكلات الاجتماعية، لأن التفكك الأسري يعني انهيار الدور الأساسي للأسرة، الذي من أبرز معالمه التنشئة الاجتماعية السليمة، وتقوية أواصر العلاقات الاجتماعية المهمة. فالأسرة تشكل تلقيح ممانعة ضد أمراض نفسية فتّاكة تتحول بفعل الزمن إلى ممارسات عدوانية، إذ تعد الأسرة النواة الأساسية للمجتمع، والتي في أحضانها ينعم الطفل بالعناية والرعاية والحب والأمان. فهي الوعاء الطبيعي الذي يحتضن الفرد في طفولته وحتى شبابه، بحيث يتم تزويده إما بالعطف والاحترام فينمو نموًّا سليمًا صحيحًا يتميز بالقدرة على التكيف مع محيطه، أو بالقسوة والإحباط أو التدليل الزائد، مما يعرقل نموه الطبيعي ويخلق لديه مشاعر القلق وعدم الطمأنينة.
فالأسرة كالجسر الذي تعبر عليه خصائص الثقافة لأية أمة إلى أفرادها، في حين أن أساليب المعاملة والتنشئة الأسرية هي تلك العربة التي تسير على هذا الجسر، وتنتقل القيم والاتجاهات والمعتقدات للأفراد. وإضافة إلى سوء المعاملة الأسرية اتجاه الأبناء، فإن المشكلات الأسرية كالطلاق والغياب الطويل للأب عن البيت، والمعاناة الاقتصادية للأسرة، لها علاقة في انحرافات الأبناء الفكرية والسلوكية العدوانية.
الأسباب الاقتصادية
تنتشر في بعض دول العالم اليوم، حالة من انعدام العدالة في توزيع الثروات الاقتصادية، فتظهر فئة أو فئات من المجتمع تنهج سياسة الاحتكار، الأمر الذي يولد العديد من المشكلات الاقتصادية المسببة للأعمال العدوانية بقصد تحقيق غايات اقتصادية، وإشباع حاجات مادية ونفسية، فتفشي البطالة، وتدهور القدرة الشرائية لسوء الأوضاع الاقتصادية. وانخفاض مداخيل الدولة، تجعل نفوس الشباب مرتعًا خصبًا لكل الأفكار المغرية، وعرضة لكل إغراء مادي يستعمل مصيدة لهؤلاء لتوريطهم في أعمال العنف بطعم إخراجهم من وضعيتهم الصعبة، التي تتطلب منهم أحيانًا بيع أعضائهم بأثمنة بخسة، أو القبول بدخول سوق الاتجار بهم في مزاد النخاسة العالمي.
الأسباب الاجتماعية والإحباط النفسي
يترتب عن الأسباب الاقتصادية السالفة الذكر أسباب اجتماعية، إذ بتدهور الاقتصاد تتدهور الأوضاع الاجتماعية، وتفكك الأواصر الأسرية نتيجة استفحال مشكل الأمية والبطالة والفقر والفاقة والتهميش الاجتماعي والمحسوبية والرشوة والفساد الإداري، فيجد الشباب نفسه -في عمر العطاء- يفقد إنسانيته وكرامته، ويحرم من فرص تقديم كفاءاته، ويخنق إبداعه.. فيجد الشباب نفسه في الثلاثين من العمر يعيش مرحلة التقاعد المبكر، لكن من دون شروطه، لا عمل ولا أسرة ولا أطفال ولا استقرار مادي ونفسي.
ومن هنا يتكون الشعور بالتهميش وفقدان الثقة، ويزداد قوة بعد طول انتظار، فتصبح النفوس مهيأة لتقبل أي فكرة تنادي لتغيير الأوضاع -مهما كانت وسائل هذا التغيير- لأن الهدف هو تحطيم الأوضاع التي فرضت عليه العيش في هذه الظروف القاسية وجعلتهم طبقة منبوذة مهمّشة، فتكون الاستجابة تلقائية لدعوة التغيير بالعنف. ومن أهم نظريات علم النفس الاجتماعي، نظرية تفسر السلوك العدواني وتربطه بالإحباط.
ففي حالة اليأس والإحباط من تغيير الواقع، يتعرض الفرد إلى تغيرات سلبية في التفكير والشعور. ففي مجال التفكير، تقل أمام العقل الخيارات والمحاولات والحلول للتغلب على العوائق، أما في جانب الشعور والإحساس، فإن الفرد في حالة اليأس والإحباط، يغلب عليه التشاؤم والشعور بنقص الكفاءة والانهزامية، فينخفض مستوى الروح المعنوية، وينعدم الأمل في المستقبل، وقد يتجه الفرد -بناء على ذلك- إلى التفكير العدواني المنحرف لعلاج المشكلات.
الأسباب الفكرية
تعود الأسباب الفكرية للإرهاب والعنف والتطرف في أغلبها، إلى معاناة العالم الإسلامي اليوم من انقسامات فكرية حادة بين تيارات مختلفة، فمن تيار علماني يدعو إلى بناء الحياة على أساس مفاهيم حداثية دنيوي وغير مرتبط بالأصول الشرعية ولا بالتقاليد والعادات والموروثات الاجتماعية الأصيلة، إلى تيار متعصب منغلق يعارض المدنية الحديثة وكل ما يتصل بالتقدم الحضاري. ومن الأسباب الفكرية الأخرى، تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وضآلة الاهتمام بالتفكير الناقد والحوار البناء من قبل المربين والمؤسسات التربوية والإعلامية، وسوء الفهم والتفسير الخاطئ لأمور الشرع والدين.. والمشكلة أن الجيل الحالي يفتقد العمق الثقافي بعد أن فشلت المؤسسة الأسرية والتربوية والتعليمية في دورها التوجيهي والترشيدي وأصبح التليفزيون والإنترنت هو الموجه والمربي، فأصبح عند المتلقي استعداد فطري لتقبل كل ما تمليه عليه هذه الوسائل من ألوان الفكر العبثي السطحي التمييعي لمدركاته ومعارفه، أو الفكر الأيديولوجي الموجه لتعبئة وشحن العقول بأفكار متطرفة.
الأسباب السياسية
تقف البواعث السياسية خلف الكثير من العمليات الإرهابية وأعمال العنف التي ترتكب في أنحاء عديدة من بلدان العالم، من بينهما الحصول على حق تقرير المصير لشعب، أو مقاومة الاحتلال، أو تنبيه الرأي العام العالمي إلى مشكلة سياسية أو اجتماعية، أو الاحتجاج على سياسة يتبعها بلد ما، أو الرغبة في إنزال الضرر بمصالح دولة معينة وإرباك وسائل نقله الخارجة، أو الرغبة في إنقاذ حياة بعض المناضلين من الرفاق المعتقلين.
وسائل الإعـــلام
تلعب وسائل الإعلام دورًا لا يستهان به في تكوين الاتجاهات والأفكار والتطرف، فهي تؤثر بما تقدمه من برامج وأفلام وأخبار عن الأشخاص والأحداث. وتنبع أهمية المؤسسات الإعلامية من أنها أصبحت الصوت المسموع لدى جميع أفراد المجتمع. والأثر الذي تتركه المؤسسات الإعلامية لا يقتصر فقط على ما تبثه خلال ساعات البث، بل يتعدى ذلك إلى ممارسة دور الموجه، حيث تحاول كل جهة غرس قيمها ومفاهيمها وأفكارها ونظرياتها في عقول المتلقين، وصولاً إلى أهداف مبرمجة سلفًا.. وليس غريبًا أن يكون من بين تلك الأهداف، الإضرار ببعض الأنظمة والدول عبر برامج سافرة أو مستترة تسعى إلى تقويض الأمن والأمان والاستقرار الاجتماعي بها.
وتبرز مساهمة وسائل الإعلام في تكوين الانحرافات الفكرية عند الأفراد والجماعات في ما يظهر في التغطيات الإعلامية لبعض الحوادث الإرهابية التي تقوم بها بعض الجماعات المتطرفة، حيث تقارن وسائل الإعلام بمبالغة مفرطة بين أفراد تلك الجماعات وبقية أفراد المجتمع، وتصوير الدولة والمجتمع في “صورة ملائكية” وإنكار أخطاء أفراد المجتمع وتعظيم أخطاء أفراد الجماعات المعتدية، مما يحدث فكرًا منحرفًا مضادًّا، وفجوة هائلة بين الواقع والمثال، يستغله أصحاب الفكر المنحرف من متطرفين وغيرهم في برنامجهم القائم في الأساس على المقارنة بين مثال خيالي والواقع الموجود، وهي مقارنة تثير الإحباط واليأس والاستفزاز عند بعض الأفراد.
وتنمي بعض وسائل الإعلام مشاعر الكراهية والعدوانية التي تولد بدورها أفكارًا تبرر العنف وتكفر الآخر وتحرض على الانتقام، وذلك عندما تستفز بعض تلك الوسائل المشاعر الدينية للأمة بتجاوز الثوابت العقدية، والاستهانة بالأحكام الفقهية الراسخة، أو تزييف وتحريف النصوص الشرعية لغايات معينة، وكذلك استهداف الأشخاص باتهام النوايا والتهكم والسخرية.
ومن جانب آخر، ساعدت شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) كوسيلة إعلامية عالمية، في نشر الأفكار والأيديولوجيات المتطرفة والمنحرفة، من خلال بروز فقه جديد عبر هذه الشبكة وهو ما يسمى فقه الإنترنت، بما يحتويه من فتاوى فردية مشحونة بالانفعال والكراهية والتحريض على العنف.
ويحدونا الأمل باتجاه أن تتبنى المؤسسات الثقافية والإعلامية الوطنية هذه المسألة، وتقود الحملة الإعلامية والتثقيفية لتأكيد خيار الاعتدال والوسطية في الأمة.
(*) كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل بـ”القنيطرة” / المغرب.