تعد علوم المعادن ذات منشأ إسلامىٍ صرف. حيث إن تحديد درجة صلابة معدنٍ أو صلاحيته في صناعةٍ ما، أو حتى استخدامه في أغراضٍ طبيةٍ أو علمية. إنما تم بفضل علمائنا القدامى، ويمكن القول أيضًا إن القوانين الـ 15 المؤسسة للهندسة الفراغية تأسست على فهم قواعد علم المعادن، بما يمكن القول معه أن معادلة الصناعة هي نفسها حركة جزيئات المعدن أو “علم هندسة الجزيئات”، وهو المرتكز على تحقيق التوافق بين طبيعة المعدن المنبثقة عن خصائصه الجيولوجية وفيزياء الكم المنبثقة عن حركة جزيئاته المتفقة في تركيبها، والمختلفة في حركاتها.
ويمكن القول أيضًا إن الربط ما بين “الجيولوجيا” ودقائق الحياة البشرية قد تم على أيدي علمائنا القدامى، بمعنى أن الاستفادة من الخصائص المتنوعة للمعادن المختلفة في مجالاتٍ دقيقةٍ كالطب والكيمياء، والصناعات التحويلية كتكرير النفط نجحت جميعها على أيدي علماء المسلمين، الذين استخدموا الرقائق النحاسية الدقيقة الصنع والمطلية بماء الذهب في صناعة آلات الجراحة، ويذكر أن مؤسس علوم الجراحة “الزهراوي” صمم 15 آلة جراحية من النحاس المطلي بالذهب بناءً على فهمه لخصائص النحاس، إذ إنه لتساوي عدد البروتونات والنيوترونات داخل نواة ذرته يعادل بالتالي ضغط الدم، وبالتالي فإن تصميم آلات الجراحة منه يساعد على معادلة فسيولوجيا الجسم، بما يؤدي لاستقرار حالته العامة خلال إجراء الجراحة، وهو ما يفسر نصح أطباء فرنسيين منذ عدة أعوام بتكثيف جرعات سوليفات النحاس لمرضى القلب الذين ستجرى لهم جراحات القلب المفتوح، لأن سوليفات النحاس تساعد على معادلة فسيولوجيا الجسم خلال إجراء الجراحات، كما وثبت حديثًا أن تصنيع الآلات الجراحية من النحاس يساعد على تليين الشرايين وسهولة فتحها، وهو ما أثبته أطباء أمريكيون في سبعينيات القرن الماضى بالموافقة لما قال به “الزهراوي” قبل اثني عشر قرنًا. كما وأن تعريف علماء المعادن المسلمين للنحاس على أنه “المعدن المحايد” كان مما ساعد على جعله أساس الصناعات التحويلية في عصرنا الحاضر، ونقصد بتلك الصناعات مشتقات البترول تحديدًا، حيث إن استخدام نترات النحاس منذ العصر العباسي في تكرير النفط وتقطيره قد ساعد خبراء أمريكيين منذ ثلاثينيات القرن الماضي على استخدام ذلك المركب في تكرير النفط . حيث يعد النحاس العامل الرئيس في فصل تركيبات النفط الخام عن بعضها تمهيدًا لتكريره، بفضل حياديته التي تعادل عنصري الكربون والهيدروجين المكونين الرئيسين للنفط الخام وفصلهما عن بعضهما.
البيروني فيصل المعادن
اكتشف ” البيروني” أن المعادن الثمينة تختلط في أحايين كثيرة بتركيبات النحاس، وبما أنه كان المكتشف والمحدد الأول لخصائص “الزبرجد”، و”العقيق”، فإنه اكتشف أيضًا تلبس تلك الأحجار الكريمة حال استخراجها بأتربة النحاس، والذي حفظ الخصائص التي جعلت من هذين المعدنين أحجارًا كريمة، حيث إن اعتبار الحجر الكريم إنما يقوم على الصلابة والشفافية في آنٍ واحد، كما وأن “البيروني” قد توصل لسر التلازم بين اختلاط ترسيبات النحاس بتلك المعادن الثمينة، والذي لم يكن سوى تماثل العدد الكتلي للنحاس مع العدد الكتلي لكلٍ من الزبرجد والعقيق، وهما الحجران الكريمان اللذان يعدان أغلى المعادن الكريمة وأندرها وجودًا. واللذان اكتشف علماء أمريكان منذ عدة أعوام تأثيراتهما الكبيرة على انضباط ضغط الدم لمن يتقلد أحدهما، بفعل تنظيمهما المذهل للطاقة الكهرومغناطيسية داخل الجسم بفعل الحساسية الشديدة لكليهما.
وانفرد علماء المسلمين أيضًا باكتشاف أكثر من 15 معدنًا مختلفًا، وأيضًا تحديد خصائصها وجدواها الاقتصادية. ومن هذه المعادن: الكوبالت، والذي اكتشفه تلميذ للـ “بيروني” ويدعى “محمود ابن حسين الغزنوي”، واستخدم الكوبالت على ذلك في صناعة سبيكة بالغة الصلابة جرى استخدامها منذ 1000 عام في صناعة “قاذفات اللهب”، وهي الشكل الأول للمدفع، وكان مسلموا الأندلس أيام الموحدين قد استخدموا تلك القاذفات بنجاح لصد هجمات فرنجة الشمال الإسبانى المستمرة ضد معاقل المسلمين هناك. وكان استخدام الكوبالت في صناعة سبيكة “القاذف” يرجع إلى تحديد خصائصه ، حيث إنه يستطيع احتمال درجات الحرارة العالية، إضافةً لتماثل عدده الكتلي مع العدد الكتلي للحديد (235)، وكانت إضافة الكوبالت للحديد والنحاس في تلك السبيكة تدعيمًا لصلابتها وتسهيلاً لتشكيل تلك الآلة، التي أخذت الشكل الأسطواني كالمدفع.
واكتشف المسلمون أيضًا أملاح الفوسفور واليوريا المتعددى الاستخدامات، واللذان لايخلوا مكون تصنيعي في البتروكيمياويات حاليًا منهما. وكان اكتشافهما الأول في جزيرة صقلية الإيطالية على يد أحد تلامذة “أبي الوليد ابن رشد”، الذي اكتشف تلك الترسيبات الملحية في جبال “بالرمو” عاصمة صقلية، واكتشف أن الفوسفور ذا خاصيةٍ مذيبةٍ لترسيبات الأسيد والأوكسيجين المسببة للصدأ، وصنع طلاء لقضبان الحديد من ملح الفوسفور الخام هذا مضافًا إليه ملح أوكسيد الحديد الأحمر، بما أدى لإطالة عمر القضبان الحديدية وتنوع استخداماتها.
فكرة وادي السيليكون
أصل علماء المسلمين لـ “علم المعادن” في الإطار الذي تعرفه الحضارة الأوربية حاليًا. وذلك باكتشافهم أغلب المعادن المعروفة لنا الآن، وكان اكتشافهم لخصائص تلك المعادن رافدًا بحثيًّا كبيرًا لعلوم الكيمياء، والتي صارت مع “علم المعادن” أساس الثورة الصناعية الأوربية فيما بعد، والتي ابتدأت بتركيب “جيمس وات” الإنجليزى للآلة البخارية عام 1743 م، ووصلت حاليًا لدمج 70 معدنًا في سبيكةٍ واحدة تستخدم وحدها في تصنيع ألياف السيليكون الداخلة بدورها في كل صناعات “الهاي تك”، إضافةً لدخولها أيضًا في صناعة منظومة الليزر، والتي تعني الأنبوبة التي ينطلق منها شعاع الليزر عبر هدفه، وهي تلك المنظومة / الأنبوبة التي تتكون من سبيكة السيليكون، والتي تحوي تلك الـ 70 معدنًا المسبوكين مع بعضهم، وهي تلك المعادن التي اكتشف علماء المسلمين القدامى 55 منها، نذكر منها القصدير والمنجنيز والياقوت، والذي يدخل في تصنيع تلك الأنبوبة / المنظومة بنسبة 35.%، ويكفي علماؤنا القدامى الأفذاذ من فضلٍ في الوصول أخيرًا لتصميم تلك السبيكة السليكونية أنهم اكتشفوا أن الياقوت مخزن حرارة فطري ومنظم أيضًا لإطلاقها، بمعنى أنه إذا وضعت قطعة منه تزن 6 جرامات في ضوء شمس الصيف لمدة 15 دقيقة، فإن درجة حرارتها تصبح 650 درجة مئوية، أي إن لها قدرة هائلة على خزن الحرارة، وهو ما أفاد في تصنيع سبيكة السيليكون، حيث إن تلك الخاصية في الياقوت تجعله قادرًا على احتمال الحرارة الهائلة المنبعثة من انطلاق أشعة الليزر من تلك الأنبوبة، والتي تزيد على ألفي درجة مئوية، ثم إن سبيكة السيليكون –بفضل كمية الياقوت الضئيلة الداخلة في تركيبها – تبرد لحظيًّا بفضل الياقوت، الذي يملك عددًا كتليًّا هو الأعلى من بين كل المعادن “1582”، بمعنى أنه يفقد الحرارة بسرعة كبيرة تعادل سرعة اكتسابه لها، ويسجل هذا الكشف للعالم المسلم في القرن السابع الهجرى “زين الدين محمد الغزنوي الحنفي“.
مستقبل المعادن
وينبغى التنويه بتعلق علوم المعادن بكافة العلوم الهندسية من حسابٍ للمثلثات وهندسة فراغية، وهما العلمان التطبيقيان الأكثر تعلقًا بصناعات الهاي تك في عصرنا، ولولا خصائص المعادن وكيفيات تشغيلها لما تعاظمت الحاجة للعلوم والقوانين الرياضية المتعلقة بتطبيقات التكنولوجيا الرقمية في أيامنا، لأن تلك التكنولوجيا تقوم على توظيف القوانين الـ 15 المؤسسة لعلم الهندسة الفراغية في تقطيع وتشكيل الشرائح الإلكترونية المصنوعة غالبًا من التيتانيوم أو النحاس، بما يعد أساسًا لتعاظم قيمة علوم المعادن في عصرنا، وهو عصر الطاقة الكهرومغناطيسية بامتياز، حيث ثبت لعلماء المايكروويف أخيرًا أن الكهرومغناطيسية هي صمام أمان الطاقة في المستقبل، ليس لأنها مجرد طاقة متجددة، ولكن لأن فهم الخصائص المختلفة للمعادن الحساسة تم بالتبحر في علوم المعادن، وحيث إن أغلب الصناعات في العالم حاليًا تعتمد على أجهزة الذكاء الاصطناعى التي تعتمد تشغيل التيتانيوم والنحاس اعتمادًا على فهم خصائصهما، فإن المايكروويف بأشكاله المختلفة، والتي تتعدد بين أفران تسخين الطعام وصناعة أنظمة الدفاع الجوي المتطورة، تعتمد أيضًا على فهم خصائص المعادن المختلفة الداخلة في “صناعات المايكروويف”، التي تتفرع لأكثر من 180 صناعة مختلفة. وينتظر أن يدخل المايكروويف في صناعة الخشب الحبيبي السهل التقطيع والطلاء، حيث إنه في مراحل تصنيعه من لحاء أشجار متوفرة كالصفصاف والسنط يحتاج للضغط والمعالجة بالطاقة الحرارية العالية لـ “تكنولوجيا المايكروويف”، والتي نشأت من فهم خصاص المعادن الداخلة في تصنيع أفران وأسطوانات المايكروويف، كالحديد والقصدير والكوبالت، وهو ما يبشر بتحقيق اكتفاء ذاتي من الخشب للدول الفقيرة في مواردها منه كـ”مصر” ودول الخليج.
المراجع :
الجماهر في أحوال الجواهر – لأبى الريحان البيروني.
كتاب “قانون القوة” لـ سيباستيان مالابي، عن الدور الذي لعبه أصحاب رؤوس الأموال في تشكيل وادي السيليكون وصناعة التكنولوجيا بشكل عام.