إذا أحبَّ المرء شخصًا أحبَّ كلامه، وإذا أحبَّ كلام شخص أحبَّه بالضرورة. أمّا مَن فصل بين الشجرة وثمرها، وفرَّق بين الإنسان ومنطقه، ثم ادّعى هوىً للأصل دون الفرع أو للفرع دون الأصل، فقد ناسب أن يسمّى “دعيًّا” لا “حبيبًا”.
القرآن الكريم كلام الله تعالى، هذه حقيقة بديهية لا غبار عليها ولا تحتاج إلى دليل. والمسلم السوي بطبعه يحرص على إظهار معاني حب الله لينال رضاه ورضوانه، غير أن المفارقة أنَّ قلة من الناس مَن يرتبط بكلام الله برابطة “الحب والعشق”؛ فكثير منّا يتلوه، ويصلّي به، ويختمه، ومنّا مَن يحاول فهمه وتدبُّره وتفسيره، وقد يغوص في معنى من معانيه، أو قد يُنجز بحثًا أو بحوثًا تحوم حوله.. غير أن كل هذا قد لا يعني بالضرورة أننا نرتبط بهذا الكتاب “بقلوبنا ووجداننا” ارتباط الحبيب بمحبوبه، ونتعلَّق به تعلُّق العاشق بمعشوقه.
إذا أحبَّ المرء شخصًا أحبَّ كلامه، وإذا أحبَّ كلام شخص أحبَّه بالضرورة.
إذا غابت محبوبةُ هائمٍ اسودَّت الدنيا أمامَه، وإذا تمنَّعت وهجرتْ ضاقت عليه الأرض بما رحُبت، وإذا بدَّلت به غيره تمنى الموت وضجرَ مِن الحياة، وإذا ماتت وانتقلت إلى باريها لازم قبرها باكيًّا مُبكيًّا؛ وهو لا يهجرها ولا يتنكر لها إلا إذا انصرف قلبُه عنها وصادف حبًّا آخر غير حبِّه الأول، أو إذا وجد من يُنسيه في حبيبه المألوف ويغريه بتجربة جديدة وأمل حقيق. أمّا إذا اعتاد صاحبُنا تغيير الحبيب على وقع المواسم والتقلبات، فذاك المخادع الكذَّاب، وذلك هو الأفَّاك المبين.
الآن أسألُ نفسي: هل أحبُّ القرآن الكريم؟
ثم أسألها ثانية: وهل يحبُّني هذا الكتاب العظيم؟
قد أستعجل الجواب، وقد ألقي به باردًا دون تفكُّر: نعم، لا شكَّ في ذلك.
وقد أسوق بعض الأدلة وبعض الأمثلة على قربي من كلام ربي وارتباطي به.
غير أن الخبر اليقين مخبَّأٌ هنالك، في قرارة قلبي، وفي أغوار وجداني، واضحٌ لي وضوح الشمس في رابعة النهار، صريح عندي صراحة القمر حين اكتماله بدرًا، لا تخفى الشمس ولا يخفى القمر إلا لمن أغمض عينيه أو أدار ظهره لمصدر النور.
ولذلك، كانت حقيقة الحب ذاتيةً خفيَّة مكنونة، وكان أثر الحب ظاهرًا بيّنًا صدّاحًا، بل فضّاحًا.
لو أنك وضعتَ نسخة من المصحف الشريف بين يدي عجوز أعجمية لا تعرف من العربية شيئًا إلا ما تصلّي به، ثم رأيتَها جالسة بوقار، تضمُّه إلى صدرها وهي تبكي بعيون منهمرة، لا تلوي على أحد ولا تأبه لما حولها ولا لمن حولها، تيقَّنتَ أن المرأة تتفنَّن في معاني الحب للكتاب الحكيم، وتمارس لوازم الحب لهذا الكتاب الكريم.
أمّا إذا رأيت منغمسًا في تفريع ألفاظ القرآن إعرابًا وبلاغة وبيانًا، أو مَن يحيط به بعلوم مختلفة مما تخصَّص فيه، ثم هو -مع ذلك- لا يتحرك قلبُه قيد أنملة ولا يعبِّر عن هواه هنيهة، فهمتَ أن المسكين ابتُلي بجفاء القلب وهُزمَ بجفاف الوجدان.
لكن، إذا أبصرتَ مَن يصل القلب بالعقل فهمًا وقراءة وتفسيرًا لكلام الله سبحانه، ثم إحساسًا ووجدانًا وتمثُّلاً وإدامة وصلٍ بكلام الله جل شأنه، فلم يقطع ما أمر الله به أن يوصل، ولم يجعل القرآن عِضين، ولم يفرِّق بين قول وفعل، ولا بين فهم وحب، وهو فوق ذلك يحمل كلام الله إلى مفاصل الحياة لينيرها ويرشدها، وهو مع ذلك يجذِّر كلَّ حركية ومشروع وفكرة ومؤسِّسة واختيار، وكلَّ إقدام أو إحجام، بجذور غائرة في تربة كلام الله تعالى الطيِّبة الحيَّة المحيية المعطاء.. إذا رأيت أحدًا من هؤلاء فاعلم أنه من “الكمَّل”، وهو محسوب في عداد “المؤيَّدين”، حُقَّ له أن يكون للمتقين “رائدًا وإمامًا”، وهو -ولا شك- عند الله محبوبًا: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ((آل عمران:31)، (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ(المائدة:54).
حاجتُنا اليوم، إلى السمو بالقرآن نحو مقام الحب، والعلو به إلى مقام العشق، موصولاً بالفكر الصريح والفهم الصحيح، أي إن الحاجة ماسّة إلى منعَّمين يصدق فيه قوله : •وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا((مريم:58).
(وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) هو شطر التوفيق والتمكين والعمارة والعقبى فيهم.
(خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) هو شطر الحب والعشق والصدق والعرفان في حقهم.
أمّا (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ) فهو عنوان المنهج، ودليل الطريق، ووصفة الانعتاق من الدائرة المغلقة، ومن أسباب الوهم والادعاء المعرفي والوجودي على السواء.
فلا يقوم معنى من هذه الآية مقام آخر، وإنما هي شروط ثلاثة حتى يواتينا الحبُّ صدقًا لا ادعاء:
– تلاوة ومداومة
– اهتداء واجتباء
– سجود وبكاء
اللهم ارزقنا حبك، وحبَّ كتابك، وحبَّ نبيك، وحبَّ من يحبُّك، وحبَّ عمل تحبُّه، يا عزيز يا حليم يا حكيم.
(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.