مع أنماط العيش المتسارعة والمختلفة عن بعضها البعض، أصبحت مباهج الحياة ومغرياتها بلا نهاية تحت سعي الإنسان في الاستمتاع بنهمٍ بكل ما تصل إليه يده. ولكن فضلاً عن كل تلك التطورات، راحت الأمراض تتفاقم وتزداد شراستها؛ الأمراض التي ركز الطب الحديث في علاجها على الأدوية والجراحات والعلاج الجيني ومضادات الميكروبات، وغيرها من وسائل العلاج المختلفة. وأمام كثرة التحديات في مواجهة الأمراض، بدأ الطب الحديث يبحث في الإنسان نفسه من خلال نمط حياته. وقد أسفر هذا البحث عن ميلاد فرع جديد من فروع الطب أُطلق عليه “طب نمط الحياة”، الذي يستخدم أساليب علاجية قد لا تكون جديدة على الإنسان، وإن كان هذا الإنسان قد تناساها تحت وطأة التكنولوجيا الحديثة، من تناول الغذاء الصحي المتوازن، والنشاط الجسدي المنتظم، والنوم الجيد والتحكم في درجة التوتر، والتواصل الإنساني الجيد مع الآخرين، وغير ذلك من أنماط الحياة الإنسانية المعتدلة، التي تمثل طريق الوقاية من الأمراض المزمنة وعلاجها دون أضرار جانبية.. حيث يتزايد الآن الوعي بأهمية هذا التخصص الطبي، الذي يشهد اليوم نموًّا متسارعًا حول العالم، وبدأ الاعتراف به كطريقة علاجية أفضل وأقل تكلفة من تناول الأدوية والجراحات إذا ما التزم الإنسان بنمط حياة صحي.
فكرة طب نمط الحياة
وطب نمط الحياة -بحسب رأي أطباء هذا الفرع- ليس طبًّا بديلاً أو مكملاً، بل إنه طب عام، فعلاجه لا يعني تغذية الجسد فحسب، بل مساعدة الإنسان على إيجاد هدف في الحياة ومحاربة العزلة المسببة للأمراض، وإحداث تغييرات مستدامة في رتم حياة الإنسان من خلال طرق وتقنيات إدارة تغيير سلوكي في أسلوب حياة الإنسان نفسه. فهو دعوة للحد من انغماسنا اليومي في الجزئيات والثانويات، بحيث أصبح الإنسان غارقًا في شبكة من العلاقات السطحية، ومستهلكًا في ممارسات هامشية لا معنى لها. ومما أثبتته دراسة طبية أجريت على 23 ألف شخص، أن التغيير في أسلوب الحياة يمكن أن “يقي من 93% من أمراض السكر، و81% من الأزمات القلبية، و50% من الجلطات، و36% من السرطانات”(1).
طب نمط الحياة وضريبة التكنولوجيا
وجَّه طب أسلوب الحياة مجالات اهتمامه، إلى التكنولوجيا التي أصبح يستخدمها الإنسان بدون ضوابط أو روابط، فعلى الرغم من مساعدة التكنولوجيا الإنسانَ في الوصول إلى ما يحتاج إليه في أي وقت وفي أي مكان، فإن هذه المساعدة قد أوجدت نوعًا من الضبابية، فلم يعد هناك حد فاصل بين حياتنا المهنية وحياتنا الشخصية، حتى باتت متطلباتنا المهنية تتبعنا في أوقات فراغنا، وتضغط على أعصابنا، وتخل بالتوازن المفروض بين الحياة والعمل، فتتطاير الساعات من بين أيدينا ونحن مستغرقون في استخدام الأجهزة الإلكترونية معظم ساعات اليقظة.. ومن هنا يجيء طب نمط الحياة، ليساهم مساهمة فاعلة في تخفيض تكاليف التكنولوجيا الباهظة التي أصبح إنسان هذا العصر يدفعها من صحته، والتي تمثلت في قلة الغذاء الصحي، واضطرابات النوم، وقلة النشاط الحركي والسمنة المتزايدة، والشعور بالاكتئاب والقلق واعتلال السلامة النفسية، والشعور بالوحدة وضعف الروابط الاجتماعية، وغيرها من الأمراض الأخرى، التي فرضها نمط الحياة السريع، وباتت مع انتشارها تتعالى الصيحات الطبية، بأن الحل يكمن في تغيير الإنسان لأسلوب حياته. فهو دواء كبير وبلسم فعال وعامل رئيسي يكمل دور العلاج، بل ويزيد من فاعليته، خاصة مع تبني العادات الصحية السليمة في كل جوانب حياتنا، وهو ما يساعدنا على الوقاية من الإصابة بالأمراض المختلفة، التي جاءت مرتبطة بأنماط الحياة الجديدة التي يعيشها إنسان هذا العصر، مثل السكري وأمراض القلب وبعض أنواع السرطانات.
وتشير الدلائل إلى أن التغيرات الإيجابية في أنماط الحياة، قد يستخدم في الكثير من الأحيان كطرق علاجية فعالة لبعض الأمراض المزمنة؛ حيث أكدت إحدى الدراسات في مجال طب نمط الحياة “أن اتباع أسلوب حياة صحي يقي مرضى القلب من الأزمات القلبية والسكتات الدماغية أكثر من تناول الأدوية، وأضافت الدراسة أنه يمكن تجنب الإصابة بنصف أمراض القلب والأوعية الدموية، وحالات الوفاة الناتجة عنها من خلال تعديل أسلوب الحياة لأسلوب صحي ودون تناول قرص واحد من الأدوية”(2)، ويرى طب أسلوب الحياة، أن اتباع الإنسان الأساليب الصحية المتعارف عليها في حياته، هي طريق الوقاية والحماية له من العلل والأمراض، وتتمثل هذه الأساليب فيما يلي:
الغذاء الجيد والمتوازن
في ضوء مقولة “عندما يكون الخطأ لا ينفع الدواء، وعندما يكون الطعام الغذائي صحيحًا لا حاجة إلى الدواء”، يقدم طب نمط الحياة روشتة لحياة صحية سليمة تقوم على أساس تناول الغذاء الصحي -خاصة مع انتشار ما عُرف بالوجبات السريعة- وتنظيم الإنسان لأوقات تناوله للطعام.. إلا أن طب نمط الحياة يرى أن تناول الإنسان الطعام الصحي من الحبوب والخضراوات والفاكهة بأنواعها بشكل يومي، يُعد مفتاحًا هامًّا لحياة صحية سليمة توازن بين ما يدخل الجسم من مواد، ومدى قدرته على تحويلها إلى طاقة نشيطة. وإذا كان بعض الناس يشكون من الشعور بالإجهاد والتعب والإرهاق وفقدان الطاقة والحيوية، وفي أحيان كثيرة يتهمون أجسادهم بالتخلي عنهم في أوقات الحاجة، فطب أسلوب الحياة يرى في ذلك أن أجسامنا لا تبخل علينا بما نقدمه لها ونختزنه فيها من ثروات غذائية متعددة الأشكال والأنواع، وإنما يبقى المهم في ذلك أن يتم إمداد الجسم بما يفيده، بما يمكن أن يعيد الجسم تقديمه لصاحبه مرة أخرى من طاقات تساعده على ممارسة الأنشطة المختلفة.
وينصح طب نمط الحياة الإنسان إذا ما أراد أن ينعم بحياة صحية سليمة، بتوزيع الأغذية التي يتناولها على مدار يومه، فإن ذلك يزيد من كمية الطاقة التي يستفيد بها جسمه من تلك الأغذية، فخمس أو ست وجبات يوميًّا أفضل بكثير من وجبة أو وجبتين. ويعزي ذلك طب نمط الحياة إلى أن انضباط مستوى الأنسولين في الدم، هو ما يوفر للجسم إمكانية الأداء على أكمل وجه. كذلك يؤكد طب نمط الحياة على أهمية وجبة الإفطار، باعتبارها أهم وجبة على مدار اليوم؛ فهي تمد الجسم بطاقته وشحنته التي تحافظ على معدلات أدائه طول اليوم، حيث يتمتع متناولو الإفطار الجيد بمعدلات جيدة من الفيتامينات والمعادن التي تتشوق إليها أجسام البشر وعقولهم أيضًا لأداء مميز، وكلما زادت الوجبة في محتوياتها من الألياف والمعادن زادت مثاليتها. وفي مقابل ذلك ينصح طب نمط الحياة بتجنب تناول الكميات الكبيرة من الدهون وخصوصًا في وجبات الغداء، مع تجنب النوم بعد الغداء لتفادي الشعور بالإجهاد والإرهاق والخمول، أما للعشاء فينصح بتناول المأكولات الخفيفة والابتعاد عن الوجبات الدسمة والسكريات والحلو، والإكثار من الفاكهة والخضراوات.
تنظيم ساعات النوم
من المعروف أن اضطراب ساعات النوم له تأثير سلبي على الصحة، ويرى طب نمط الحياة أن النوم ضروري لرفع مستوى الصحة البدنية والعقلية، وهو أحد أهم العوامل المسؤولة عن الحفاظ على كائن حي صحي، وعيش نمط حياة صحية سليمة. كما يؤكد طب نمط الحياة على “أن الحصول على ساعات قليلة من النوم وبصورة منتظمة يمكن أن يعوق الكثير من عمليات الجسم الحيوية، مثل عمليات التمثيل الغذائي والإفراز الهرموني بطريقة تشبه ما تسببه الشيخوخة في أعضاء الجسم المختلفة”(3)، ويشدد على ضرورة إعطاء الجسم قسطًا كافيًا من النوم، خاصة مدة الليل ما بين 5-9 ساعات، وأن ذلك يقلل من احتمالات الوفاة المبكرة، ذلك أن إعطاء الجسم والدماغ فترة كافية من النوم في ساعات الليل -وليس النهار- فرصة كبيرة لكي تعيد خلالها خلايا الجسم من أجهزة وأعضاء الجسم المختلفة، لترتيب قدراتها لأداء وظائفها الطبيعية بكفاءة. كما نشر باحثون في مجال طب نمط الحياة بحثًا حول العلاقة بين وقت النوم والاستيقاظ واحتمالات الإصابة بمرض السكري، ولاحظ الباحثون أن المتأخرين في وقت الخلود إلى النوم، والمتأخرين في الاستيقاظ منه، هم أعلى عرضه للإصابة بمرض السكري وارتفاع ضغط الدم مقارنة بمن ينامون مبكرًا.
دعوة لممارسة النشاط البدني
من السلوكيات الأساسية التي يتبناها طب نمط الحياة في الوقاية من الإصابة من الأمراض، دعوة الإنسان إلى ممارسة النشاط الحركي والرياضي بصفة يومية، حيث يرى أن ممارسة النشاط البدني كالمشي والهرولة والسباحة، وركوب الدراجة، وغيرها من ألوان الأنشطة البدنية والرياضية المختلفة، تعد خير وسيلة لتعزيز نمط حياة صحية يومية. وقد توصل طب نمط الحياة إلى هذه النتائج، من خلال أبحاث ودراسات قام بها باحثون في مجال طب الحياة في عدة دول أوروبية، حيث شملت نحو 130 ألف شخص، وتم متابعتهم لمدة تفوق 10 سنوات. وقد تم نشر نتائج هذه الأبحاث في المجلة البريطانية للطب الرياضي، حيث أكدت النتائج أن ممارسة جرعة منخفضة من الجهد البدني الرياضي المتوسط الشدة، أي أقل من 150 دقيقة في الأسبوع يقلل من الوفيات بنسبة 22%، وأن ممارسة 150 دقيقة من تلك النوعية من الجهد البدني الرياضي يقلل من احتمالات الوفاة المبكرة بنسبة 28%، وأن ممارسة أكثر من تلك الجرعة من الجهد الرياضي تقلل من احتمالات الوفاة المبكرة بنسبة 35%.
التواصل الإيجابي مع المحيط الاجتماعي
هناك مقولة لأحد الفلاسفة أن “الإنسان لا يكون إنسانًا إلا بين الناس”، وبالتالي فاجتماعية الإنسان هي خاصية أساسية وجوهرية من خصائصه الإنسانية، كما أن الفرد الذي ينمو خارج المنظومة الاجتماعية، يفقد خاصية أساسية من خصائصه الإنسانية، أي إن الإنسان لا يمتلك أهم خصائصه الجوهرية، إلا عبر انتمائه الاجتماعي عبر كينونته الاجتماعية وما يلحقها من علاقات وممارسات اجتماعية في محيط المجتمع الذي يعيش فيه.
ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي من فيسبوك، وتوتير، وإنستجرام، وواتساب وسواها، تغيرت طريقة التواصل الاجتماعي، وإن كان في ظاهرها التواصل، ففي باطنها العزلة والانغلاق والتباعد التي زادت أخطارها على صحة الإنسان بقدر يفوق أخطار التدخين والسمنة لا سيما بالنسبة للأطفال. ومن هنا يرى طب نمط الحياة، أن هذه الوسائل التكنولوجية، أوجدت نمطًا من العزلة المقنعة التي نتج عنه آثارٌ سلبية على صحة الإنسان -الذي من المفترض أن يعيش بين الناس ويتفاعل مع المجتمع- بأن يكون له تأثير ودور في حياة الآخرين، وأن يحب ويعطي بحب ورضا لمن يحتاج عطاءه.. فهذا التواصل الاجتماعي الحقيقي في نظر طب نمط الحياة، هو الضمان لجودة الحياة وطريق الرضا والسعادة والوقاية من القلق والاكتئاب، بحيث يكون له آثارٌ إيجابية على صحة الإنسان؛ فهو ينبه المخ إلى التفاعل على كُرُوب الحياة، كما أنه يزيد من خلايا المخ والموصلات العصبية المسؤولة عن اللذة والسعادة، في حين أن العزلة والوحدة تؤثران على عضلة وشرايين القلب، الأمر الذي يزيد من كثافة الدم والتصاق الصفائح الدموية ويضعف جهاز المناعة، مما يجعل الفرد أكثر عرضة واستهدافًا للأمراض المختلفة. كما ثبت خلال تصوير المخ أن العزلة والكروب والاكتئاب، تسبب ضمورًا في خلايا المخ، خاصة في الفص الخاص بالمزاج والتعلم والذاكرة والتكيف مع الحياة (4)، وينصح طب نمط الحياة في النهاية، بضرورة التواصل الحقيقي مع العائلة والأصدقاء مرتين على الأقل أسبوعيًّا، فإن ذلك يساعد على الحفاظ على ذاكرة الإنسان، ويقلل من خطر الإصابة بمرض الخرف.
إن طب نمط الحياة، دعوة لإعادة النظر في حياتنا اليومية، استنادًا إلى معطيات علمية موضعية، أفرزتها حياتنا اليومية بإيقاعها اللاهث وراء ما يستحق وما لا يستحق من الأمور، فهل ينجح هذا النوع من الطب في إعادة حياتنا إلى مسارها الطبيعي؟
(*) كاتب وباحث مصري.
الهوامش
(1) علاج بلا دواء، د. أمنية التيتون، مجلة العربي، الكويت، العدد:732، نوفمبر 2019.
(٢) موقع الجزيرة نت، بتاريخ 3/4/2013.
(٣) قلة النوم تسبب الشيخوخة، د. محمد ثروت، مجلة طبيبك الخاص، العدد:424.
(٤) الرضا النفسي الباب الملكي للصحة والسعادة، د. أحمد عكاشة، كتاب اليوم، ص:8-9 العدد:260.