إن عُمَّالَ الفكر الذين سيبنون المستقبل ويُشيِّدون صرحه، هم سعداء الطالع الذين بلغوا مستوى عاليًا من الوجود في عمق أرواحهم. إن أبطال الحقيقة هؤلاء قد أسلموا زمام كيانهم المادي إلى وجدانياتهم، فبدوا باهتين في منتهى البساطة في مظهرهم الخارجي.. فمن توقَّع أن يراهم في أبّهة من الدنيا فقد خاب ظنه وخدعه حدسه.
وهم مع شكلهم الخارجي الباهت البسيط، فإنهم يَنثرون مِن صدورهم أنواعًا شتى من أريج البخور. من الصعب أن نَشرح لمن لم يخالطهم أجواءهم النيلوفيرية ورائحتَهم الياسمينية، فشرح الحال لغير العارفين أثقل من جبل “قاف”، فمن لم يذق لم يدر، ومن لم يعاين لم يعرف.
إنهم لا يهتمون بالشهرة والنياشين، ولا يأبهون بالمنصب والمقام، بل قد أغنتهم شعلة الأبدية التي أوقدوها في دواخلهم عن كل شيء.. وإذ تذوب أحشاؤهم ذوبان الشمعة تستضيء العوالم بنورها، فإنَّ أحداق عيونهم لا تريد أن تستخدم ذرة من ذلك النور لشخصها، بل لسان حالهم يهتف قائلاً:
لا تصنع لنا طريقًا،
دَعْ راحة المسير لغيرنا،
فليكن الكدّ والمثابرة منَّا،
والمغانم لغيرنا..
ولست أدري هل من الممكن أن نشرح في بضع كلمات ماهيتهم التي هي من الألغاز؟!
إنهم ينأون بأنفسهم عن الأبهة والتباهي، ولا يحسون بالحاجة إلى محافل ضخمة ولا منصات راقية للتعبير عن أفكارهم، بل إن انعكاس مشاعرهم العميقة على وجوههم لهو مِن أخلص وسائل التعبير عن أنفسهم.
إنهم ذوو ماهية سامية تمتزج فيها المادة مع المعنى، وهي مادة رقيقة شفافة تنصاع للمعنى وتأتمر بأمره، ولا تعارُض في عالمهم مع قوانين الفطرة وسننها ألبتة.
يتحملون المشاقَّ ولا يعرفون سخطًا ولا قطيعة. إذا ارتطمت شهبُ العداوة والبغضاء بأجوائهم المشحونة بروح التسامح، احترقت وتلاشت دون أن تترك أثرًا. إنهم على حد تعبير يونس أمرَه:
لا يد لهم تجاه من ضربهم،
ولا لسان لهم حيال من شتمهم..
ولا يظننَّ أحد أنهم لا يحملون قلبًا، بل إنهم ينطوون على ألف لغز من الأحزان وألف لغز من الأفراح.
إنهم متجاهلون لسعادتهم الشخصية، متشبِّعون بروح الإيثار.. هؤلاء قد اقتبسوا من مشكاة النبوة وروحها، فأصبحوا في معظم أحوالهم مفعمين بمشاعر الاهتمام بأفراح غيرهم وأتراحهم.
إنهم أصحاب عزيمة لا تلين ومثابرة لا تفتر، فلو عرض لهم في طريقهم آلاف من مظاهر الربيع، فلن يغيروا مسارهم ولن ينحرفوا عن وجهتهم. ليس المنصبُ في نظرهم إلا أرجوحةً خادعة، ولا المقامُ إلا كتابةً على لوح من جليد، ولا الثروةُ إلا ريشة تتقاذفها الرياح.
إن تلك القامات السامقة قد علّقوا قلوبهم بجمال لا يذبل أبدًا، فلن يصرف عيونهم عن ذلك الجمال شيء حتى ولو كان في استقبالهم حور الجنان، فكيف لأشياء تتقلب في مهب الزوال والفناء؟!
إن أبغض ما يبغضه هؤلاء الأطهار هو الصيت والشهرة، إذ يرون كل مكافحة في سبيل الشهرة مسرحية كوميدية، وكلَّ مبارزة من أجلها نوعًا من مبارزات “دون كيشوت” الساخرة. وبما أنهم تلقَّوا من عالَم الماوراء لفتة ربانية في قوله تعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج:٧٨)، فلن يحتاجوا بعد هذه التسمية الربانية إلى جوائز نوبل ولا إلى إعلانات في الجرائد، بل إنهم ينظرون إلى كل جهد يُبذَل في سبيل السمعة والنياشين على أنه محاولةُ اغتيال للماهية الإنسانية وإهانةٌ لها.
إنهم رجال قلب حقًّا؛ ضمائرهم مضيئة، ومشاعرهم صافية، وأفكارهم كخلية شهدٍ تتوهج بالمعرفة الربانية، وأجواؤهم جنة يعمها الأمن وتسودها الطمأنينة. من لازمهم نال السعادة، ومن نأى عنهم حُرِم السكينة والسلام.
إنهم أحرارُ القلوب، مرفوعو الرؤوس إلى أبعد الحدود. لم يتمكن أي فانٍ من تطويق أعناقهم الأبية، في حين أن العبودية للحق تعالى أسمى شعائرهم، إذ يرددون دومًا:
“عبدًا صرتُ! صرتُ عبدًا!
العبد يفرح إذا تحرر،
أما أنا ففرحتي وفخري في عبوديتي” (جلال الدين الرومي).
أجل، هذه العبارة هي ملحمتهم في موضوع “الحرية والعبودية”. الأطماعُ لا تُلوِّث آفاقَهم، والشهواتُ لا تَجد في عالمهم مكانًا لها، لياليهم مشرقة إشراق الصباح، ونهارهم كأنه الجِنان.
لقد أتى على أبناء هذه الأمة حين من الدهر لم يزالوا ينتظرون “مهندسي القلوب” هؤلاء بأفئدة محترقة وخواطر منكسرة. ومن يدري كم لهم من قوة الصبر على الانتظار؟! ومع ذلك سنظل نتطلع إلى الأفق الذي ننتظر منه بزوغ الفجر، ونواصل التضرع إلى صاحب الرحمة اللانهائية دون أن نفقد شيئًا من آمالنا.
فيا رب عجِّل بترميم أسوار قلوبنا المتهدمة.
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:20 (سبتمبر ١٩٨٠)، تحت عنوان “Geleceğin Mimarları”. الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.