الخلية هي أصغر كتلة من المادة الحية “البروتوبلازم”، تعيش منفردة مستقلة بذاتها، وتتكاثر من مثيل لها، فالحياة لا تنشأ إلا من حياة. وتتباين المخلوقات في ثروتها من الخلايا، فمنها ما هو خلية واحدة، ومنها من يكنز تريلونات منها (جسم الإنسان يتحلى بنحو 100 تريليون خلية)، كلٌّ منها وحدة منسجمة وكيانٌ مستقل. يتراوح قطر الخلية من 7-20 ميكرونًا، وتزن جزءًا من مليار من الجرام تقريبًا، ويمكن رؤيتها بالمجهر الإلكتروني بعد تكبيرها من 300 إلى 600 ألف مرة. يمكن تشبيه الخلية بمصنع كبير أو مَرْكبة فضائية؛ لها مدير إدارة، ومركز قيادة، ومشرف عام، وبنية تحتية، وخطوط إنتاج وماكينات دقيقة معقدة، وعمال إنتاج، ومولد طاقة، وقسم تعبئة وتغليف، ومكب نفايات وإعادة تدوير، وتشفير، وبريد المعلومات.
مدير الإدارة
تتجمع في نواة الخلية، مكتبة قيّمة وأرشيف كثيف المعلومات (المادة الوراثية) التي تحدد صفات الكائن الحي وتهيمن على حياته كلها. وهي تنظم الأنشطة الخلوية، وتتخذ القرارات والتوصيات، وتوجه الأنشطة والتعاملات، وتقنن مواصفات المنتجات، وتهيمن على عملية الانقسامات.. وهذه النواة تتكون من غشاء نووي، وأجسام كروماتينية، وكروموزومات نووية، وسائل نووي. فالغشاء النووي الرقيق -في المخلوقات ذات النواة الحقيقية ومتعددة الخلايا كالإنسان والنبات، ووحيدة الخلية كفطر الخميرة- يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، ليحفظ ويحافظ على هويتها الوظيفية المتفردة، وهو يتشكل من طبقتين، وفتحات نافذة، وثقوب صغيرة، إنه ضابط المرور المُنظِّم لحركة المواد بين النواة ومحيطها الهلامي (السيتوبلازم). لكن التنوع داخل الوحدة وارد، فنواة بعض خلايا المخلوقات (كالبكتريا) غير محتجبة عن سيتوبلازمها بأي غشاء (خلايا ذات نواة أولية). وأما “النوية” (Nucleolus) مجموعة من الخيوط الدقيقة ذات الشكل الدائري، وليس لها غشاء يحيط بها، وتسبح وسط السائل النووي. وقد تحتوي النواة على أكثر من نوية.
أما الأجسام الكروماتينية، فحبيبات دقيقة أو شبكة الشبكة الكروماتينية. وهذه الحبيبات/الشبكة تتواصل في مجموعات (الصبغيات/الكروموزومات). وتتجلى الكروموزومات بتميز واضح المعالم أثناء الانقسام خيطية الشكل، وتحتوي جينات الوراثة (Genes) للكائن الحي. ومن الكروماتين نوعان: المختلف، والحقيقي الذي تتصل به الجينات. أما السائل النووي فمواد بروتينية تسبح فيه مكونات نووية، ويلعب دورًا أساسًا في ضبط الوسط المناسب لمكونات النواة، وفي توفير مُغذيات النواة. كما يوجد بالسائل ما يلزم (نيوكليوتيدات وأنزيمات) لتكوين الحامض النووي (دنا DNA) والأنواع المختلفة من الحامض (رنا RNA). وتحتوي النوية كمية كبيرة من RNA، وتلعب دورًا أساسًا في إنتاج “الرايبوسومات” وفي تنظيم إنتاج البروتينات. كما يوجد في النوية حامض RNA فإنها تحتوي أيضًا على DNA الذي يحدد تركيب آلاف خمائر توفير الطاقة الضرورية للخلية، وتزودها بالنموذج الوراثي لتنسخ نسخًا نموذجية من خلايا متولدة تورثها نسلها.
المشرف العام: الغشاء العاقل
يحدد الغشاء الخلوي بنية الخلية الداخلية (السيتوبلازم، والعضيات) ويفصلها عن وسطها الخارجي، وهو حصن حصين وقلعة منيعة تحمى الخلية من الغزو الخارجي. كما أنه غشاء عاقل له ذاكرة قوية ووعي وإدراك، ينظم مرور (دخول/خروج/ضخ) المواد عبر الخلية، ويصدح بالتأكيد على هوية أي مادة/جسم يمر، ويحسن استقبالها ونقلها. كما يُخرج نواتج عملية الاستقلاب (الأيض). وهو يتكون من طبقتين من الدهن الفسفوري يرتبط بهما جزئيات من البروتينات والكربوهيدرات المخاطية. ومن المعلوم أن الدهون الفسفورية لا تذوب في الماء، فتشكل حاجزًا مستقرًّا فعالاً بين داخل وخارج الخلية. وعبر طبقة الدهون المفسفرة يتم تجويد النقل التلقائي والفعال للأيونات والنواقل والأنزيمات والهرمونات والمواد الذائبة في الدهون، أما تلك التي لا تذوب في الدهون (لكن تذوب في الماء) فتمر عبر قنوات في بروتينات الغشاء، وبعض الخلايا كخلايا الدم البيضاء (WBC) تميز -ومن ثم بلعمة/تبتلع- الأجسام الغريبة بواسطة هذه البروتينات.. وينمو غشاء الخلية مع نموها، ويزداد حجمه مع كبر حجمها، بل لديه المقدرة على التجدد في المناطق التي قد تتمزق، وذلك عبر بناء/إضافة وحدات دهنية وبروتينية.
البنية التحتية
هي هلام “السيتوبلازم” (يشكل الماء نحو 80٪ منه)، وما يسبح فيه من عُضَيّات الخلية. ومكونات “السيتوبلازم”: عصارة خلوية “سيتوسول”: مادة شبه هلامية تمثل المكون السائل للسيتوبلازم، و”مُكْتَنَفات سيتوبلازمية” بُنى صغيرة تمثل ترسبات سكرية ودهنية وأصبغة وأملاح وبروتينات، و”عُضَيّات”: تراكيب خلوية وظيفية متخصصة كالمتقدرات/الميتوكوندريا، وأجسام جولوجي. وهما محاطتان بأغشية تهيئ لهما بيئات مستقلة لتأدية وظائفهما. وعلى النقيض هناك عضيات غير محاطة بأغشية كالريبوسومات (تقوم بتخليق البروتينات)، والجسيمات المركزية.
خطوط الإنتاج والماكينات
تشكل “الشبكة الإندوبلازمية” أرضية الخلية، ومنطقة خطوط الإنتاج والماكينات شديدة التعقيد ضئيلة الحجم. والشبكة تجاويف محاطة بأغشية رقيقة تصل ما بين النوة وغشاء الخلية. وهي نوعان، شبكة “خشنة محببة” بها حبيبات دقيقة غنية بحامض الريبونيوكليك والربيوسومات، وشبكة أخرى “ملساء” وهي خالية من الحبيبات يقتصر وجودها على الخلايا الصبغية الطلائية لشبكية العين، والخلايا العضلية الخيطية الإرادية (تسحب أيونات الكالسيوم لإرخاء العضلة أو تطلقها لتنقبض). وعند سطح الشبكة الملساء تتكون الدهون والبروتينات الدهنية والمركبات المشتقة من الكوليسترول (الكورتيزون، والهرمونات الجنسية). كما أن للشبكة الملساء دورًا في أيض الجليكوجين بالكبد، حيث توجد أنزيمات تكوينه وتكسيره عند الحاجة لتوفير الجلوكوز (عند الصيام). وتسهم في إزالة سمية العقاقير، فتكثر في خلايا الكبد (“المصفاة” للتخلص من النفايات كالأمونيا “النشادر”). كما تساهم الشبكة في تكوين حمض الهيدروكلوريك (Hcl) في المعدة (لهضم الطعام) بتنشيطه أنزيم “الببسين” ومساعدته في تحليل السكريات والدهون وإذابة الأملاح لتكون قابلة للامتصاص، وقتل الميكروبات التي قد تصاحب الغذاء.
عمال الإنتاج
لمعت الخلية لأول مرة تحت عدسة مجهر العالم الإنجليزي “روبرت هوك” (1635م-1703م). ثم ألف كتابه الشهير “ميكروغرافيا: بعض الأوصاف الفسيولوجية لأجسام دقيقة شوهدت عبر عدسات معظمة مع ملاحظات وتساؤلات” (1665م). ومن بين صور النمل والبراغيث والقمل، ظهرت رسمة مُكبرة لقطعة نباتية لاحظ فيها “وفرة من غرف صغيرة” أسماها “الغرف الصغيرة/صوامع الأديرة”، أو “الخلايا” (Cells) مشتقة من اللاتينية “سيلا”. ولا شك أن بالصوامع نشاطًا كثيفًا وعمال إنتاج. وتمثل “الربيوسومات” عمال تصنيع وتخليق البروتنيات (خصوصًا في خلايا الكبد والبنكرياس). وتتوفر بكثرة على الشبكة الإندوبلازمية المحببة (تُنتج بروتينات لغشاء الخلية أو للتصدير الخارجي)، أو معلقة حرة في السيتوبلازم (تُنتج بروتينات محلية للاستخدام الداخلي). و”الربيوسومات”: حبيبات كروية الشكل تتكون من وحدتين من الحمض الريبوسومي (وحدة كبيرة، وأخرى صغيرة) ومحاط بغلاف بروتيني.
مولد الطاقة
المتقدرة/الميتوكوندريا (Mitochondria) محطة/بطارية إنتاج الطاقة، متنقلة سابحة في سيتوبلازم الخلايا الحيوانية والنباتية حقيقية النواة. وتكثر في الخلايا ذات النشاط الحيوي الكبير كالخلايا الجنينية والغددية. وتتلف في الخلايا السرطانية، مما يؤدي إلى قلة نشاطها الأنزيمي وقلة الأيض حولها. وتبدو “الميتوكوندريا” بالمجهر الإلكتروني على هيئة حبيبات دقيقة، أو عصى قصيرة، أو خيوط رفيعة (اكتشفها العالم “فلمنج” عام 1882م، وأسماها “فيلا”). ويتدرج شكلها من الكروي إلى المتطاول، وتتركب من طبقتين من الدهون، وغشاء مزدوج من البروتين (خارجي أملس، وداخلي كثنيات متعرجة تزيد من مساحة السطح)، ذي نفاذية خاصة، ويبلغ طولها بضع ميكروميترات، وعرضها ما بين 0,5-1,5 ميكرومترًا. وعدد الميتوكوندريا ثابت في النوع الواحد من الخلايا، وحسب احتياجها للطاقة (يتراوح بين بضع مئات وآلاف)، وتكثر في الأعضاء الأكثر تخصصًا، كخلايا الكبد، والكلي، والقلب. ففي أكبر الأعضاء الغدية بالجسم؛ هناك حوالي 2500 متقدرة في الخلية الكبدية الواحدة، وحوالي 500 ألف متقدرة في الأميبا. تبني المُتقدرات نفسها وتنقسم بشكل مستقل عن الخلية، وهي مستودع رئيس لأنزيمات أكسدة المواد الغذائية، واستخلاص الطاقة (البطاريات الأنزيمية). وترتبط بالنشاط الأيضي للخلايا فيما يتعلق بأيض الدهون والأحماض الأمينية، ويتم فيها إنتاج المركب الكيميائي “ثلاثي فوسفات الأدينوسين” (ATP).
قسم التعبئة والتغليف
اكتشف العالم الإيطالي “كاميلو غولجي” (Camillo Golgi) (حاز نوبل عام 1906م) “جهاز جولجي” عمدة قسم التعبئة والتغليف. فهو القائم بتكوين المواد الإفرازية والمخاطية، والمواد الخام للأنزيمات (الزيموجين)، وإفراز الصفراء، والهرمونات، وفيتامين ج. ويواصل تعديل/تهيئة/تصنيف البروتينات القادمة من الشبكة الإندوبلازمية المحببة (وتطعيمها بمجموعات سكريات وكبريتات وفسفور). ثم يجود عمله بتركيز وتخزين وتعبئة المواد المفرزة، وتكوين المركب النهائي ثم “استعماله محليًّا أو تصديره خارجيًّا” عبر الحويصلات الواصلة مع السطح. ويشارك الجهاز في تجديد غشاء الخلية، وتكوين الأجسام الحالة/الهاضمة. ويبدو الجهاز -تحت المجهر الإلكتروني- من ثلاثة أجزاء: حويصلات محدودة رقيقة الجدران، وتجاويف كبيرة مستديرة مغلفة بأغشية رقيقة، ومجموعة صغيرة من التجاويف الدقيقة.
مكب النفايات وإعادة التدوير
كان يُظن أن الأجسام الحالة/الهاضمة أو “الليسوسومات” (Lysosomes) هي “سلة مهملات، ومكب نفايات الخلية”، لكن تبين -حديثًا- أن هذه الحويصلة المليئة بالأنزيمات والأحماض الهاضمة أكثر نشاطًًا وحيوية. إنها “المفتاح الخلوي الرئيس للتبديل بين تحلل الأشياء أو بنائها”، و”مركز صنع القرار والتحكم في الأيض الخلوي”. ودورها غير منكور في التحكم في نمو الخلايا واستمرارها. ففي الالتهام الذاتي تأخذ المكونات الخلوية العتيقة والجزيئات كبيرة الحجم -كالبروتينات والأحماض النووية والسكريات- وتهضمها. وعندئذ توظف هذه القطع المتحللة كوقود أو كوحدات بناء جزيئات جديدة. وهي تستشعر بكفاءة جودة تغذية الخلية، بالتالي الكائن الحي؛ فعندما يصوم أو يتضور جوعًا، تدفع الخلية لتخليق مزيد منها لهضم احتياطي دهون الجسم كمصدر للطاقة. وفي المقابل، عندما يحصل الكائن الحي على تغذية جيدة، ترسل “رسالة ود” للخلية، بأن الموارد متاحة للنمو أو التكاثر. ونظرًا لقدرتها على التحكم في أيض الدهون، قد تصبح هذه “الليسوسومات” أهدافًا علاجية لأمراض الأيض كالسمنة.
تشفير وبريد المعلومات
لكل خلية ذاكرتها، وبنواتها مادتها الصبغية الورائية الحاملة صفات المخلوق وبرمجته، وتنقلها بالتزاوج والتكاثر من جيل لآخر داخل النوع نفسه. بنيت جميع المادة الوراثية من أربعة أحرف. وتلعب الشبكة الإندوبلازمية وأجسام جولجي دورًا هامًّا في ترجمة الشيفرات المحمّلة على الجينات إلى بروتينات وأنزيمات. وتقترب البروتينات من جدار الخليّة، وتبحث عن منفذ مناسب لحجمها الكبير الذي يمنعها من التسرُّب من الغشاء الخلوي. ويُعِير جدار الخلية المرسِلة البروتينات مراكب تحملها إلى خارجها، وتبرز من جدار الخلية حويصلة يتجمَّع البروتين داخلها، ثم تنفصل عن الجدار مبحرة إلى غايتها. وفي الخلية الجديدة التي تصلها الرسالة تلتحم الحويصلة بالجدار، وتتلاشى فيه مفرغة حمولتها في سيتوبلازم الخلية الجديدة، لتقرأ الرسالة وترتلها ترتيلاً. وهكذا، تصل الرسائل من خلية إلى أخرى داخل كل مخلوق بعينه.
رحلة علمية معرفية كبيرة وطويلة قطعتها الخلية في وعينا العلمي والبحثي والفلسفي.. ولقد تغيرت النظرة إليها من شيء ضئيل مثير للفضول، إلى كونها تشكل وحدة وظيفية وذاكرة برمجية ومرجعية مركزية في دراسة بيولوجيا الإنسان، وعلوم الحيوان والنبات، والكائنات الدقيقة، ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، والأمراض (الباثولوجيا)، والطب والجراحة.. وتبين أنها “كائنٌ حي مستقل”، ووحدة بناء أساس خلقت مع كل مخلوق، وتتكاثر وتورث صفاتها -الشكلية والفسيولوجية- من جيل لآخر. وهي تشكّل جزءًا أساسًا من كل، وما الكائنات الحية إلا مجموع تلك الأجزاء المستقلة.
(*) كاتب وأكاديمي مصري.