في أحلك أركان بيت طيني مهجور وسط أنقاض قرية غادرها الإنسان منذ عقود طويلة، اختارت السيدة العنكبوت إقامة مكتبها الوظيفي. مكتب السيدة العنكبوت الوظيفي عبارة عن هيكل خنفساء ضخمة مشدود إلى السقف بأجزاء بعوضة اصطادتها في موسم الصيف، وسيقان جراد، وبعض حبال من شعر طويل يشبه شعر قطة أليفة لأحد سكان القرية الغابرين.
بدأت تفاصيل هيكل الخنفساء تختفي بعدما صار ملطخًا بالتراب المتساقط من جدران المنزل الطيني، وبدأ شكل الهيكل ومظهره يصدران الخوف والذعر للمكان، ليرسما لوحة فريدة يصعب إيجاد نظير لها من شدة قبحها واتساخ شكلها. الهيكل رغم شكله السيئ، تلحُّ السيدة العنكبوت على جعله مكتبًا وظيفيًّا خاصًّا بها. وقد اختارت له موقعًا مميزًا وإستراتيجيًّا في قلب بيتها المظلم المترامي الأركان والشباك. دعم الهيكل مؤخرًا بجزء متين من عمود فقري رقيق يعود لسمكة رمتها طيور قادمة من إحدى مدن الساحل البعيدة.
لا أحد يعرف إلى حد الآن، كيف تمكنت السيدة العنكبوت من تثبيت ذلك الهيكل الذي يكبرها حجمًا ويفوقها ثقلاً ووزنًا. ربما رأت السيدة، نور الحياة داخل الهيكل نفسه أو بالجوار منه، فظلت وَفيَّة لذكرى متعة الولادة في المكان ومحيطه. لكن بمجرد اشتداد عودها ومرارة أحماضها وفعالية سمومها، قررت تحويل متعة المكان إلى فصول جديدة تؤرخ لتاريخ جديد للمكان ككل.
كبرت السيدة العنكبوت، وصارت قادرة على اصطياد أعداد هائلة من الحشرات. حكاية تؤرخ أحداثها ومشاهدها وتفاصيلها وفصولها السيدة العنكبوت بين صفحات سجلاتها المحفوظة في هيكل الخنفساء، وهوامش بيتها المنتشر في أحلك أركان البيت الطيني المهجور. مكان بفصول جديدة، عمران جديد، بيت عنكبوتي بهوامش مرتبكة، هيكل تلاشت ملامحه الأصلية.
في سقف مكتب السيدة العنكبوت، تظهر بعض الثقوب هنا وهناك رغم محاولة تغطيتها بقطع جلد نفيس لفراشات ويرقات مزركشة مستوردة من منازل عناكب في أماكن بعيدة. عند مدخل الهيكل، تتحرك هياكل الذباب الأخضر النادر والصغير، تم اختيار مواضعها بعناية فائقة بعد رحلة بحث وترصّد وصيد مضنية. يخيل للناظر أن تلك الهياكل الصغيرة، أجراس تذكّر السيدة العنكبوت بأوقات الصيد والأكل والاستراحة والتداريب اليومية. وقد يعتقد البعض الآخر، أن وظيفتها أمنية أو إنذارية أو استخباراتية بامتياز، لأنها تصدر صوتًا وضجيجًا عند دخول -أو خروج- كل جسم أو كائن، ليثير انتباه العنكبوت لشحذ أسلحتها ومخالبها وأحماضها، لاعتقال وتكبيل المتسللين، وذلك قبل انطلاق طقوس الفتك والإذابة والامتصاص، ورمي الهياكل أرضًا.
قطع جلدية وهياكل صغيرة جوفاء هنا وهناك. فبالإضافة إلى الطابع الجمالي والتزييني الذي تضفيه هذه القطع على مكتب السيدة العنكبوت، وبالإضافة إلى أدوارها الإنذارية الأمنية التي تلعبها، فهي أيضًا، تمنع تسلل البرد والرياح إلى أعماق ودهاليز المكتب الوظيفي، خاصة في فصل الشتاء.
باب مكتب السيدة العنكبوت صغير لا يكاد يخول ولوج السيدة نفسها إذا أسرفت في الأكل، أو افترست ما يستوفي حجم أكثر من ذبابتين. وقد نقش هذا الباب على الجهة اليسرى لبطن الخنفساء ليخصص ما تبقى من الفضاء الداخلي لهيكل الخنفساء، خاصة بعد تزويده بعدة رفوف من عظام سيقان النمل الكبير وبعض بقايا أجنحة الجراد، لحفظ السجلات من التطاير بسبب الريح، ومن النهب عبر بعض الحشرات المتسللة، مثل النمل الصغير الذي يساعده حجمه على اختراق شبابيك البيت وشقوق المكتب الوظيفي للعنكبوت.
ملفات كثيرة وسجلات قديمة وحديثة، كلها تحمل طابعًا وتوقيعات الافتراس، التي قد تتباين نوعًا ما حسب مزاج ونفسية السيدة العنكبوت. ملفات وسجلات غير مرتبة وضعت عليها بعض جماجم حشرات ثقيلة، للحد من تحركها أو تطايرها إذا تسربت ريح قوية، أو تحرك بيت السيدة إبان كل وقوع فريسة ضخمة في شراكها، أو كلما لاقت مقاومة شرسة من فريسة غير عادية وهي تصارع السيدة العنكبوت من أجل النجاة والتحرر والبقاء.. كم مرة لم تكمل السيدة العنكبوت مراسيم اصطياد فريسة وقعت بين مخالبها، لتنكب على جرِّ أخرى وقعت في شراكها إلى غياهب ومتاهات المكتب، والاحتفاظ بأجزائها غير الصالحة للأكل، لتكون شواهد وآثارًا مدوّنة ضمن ملفات وسجلات السيدة العنكبوت.
وتظل جمجمة الخنفساء الصلبة التي تم إفراغها من كل بقايا المخ والشحم والعظام الداخلية، المكانَ الحساس في مكتب السيدة العنكبوت، لأنها تضم سجلات بأسماء كل الحشرات التي فرَّت من قبضتها بعد صيدها، وأسماء الحشرات المبحوث عنها، لأنها استوفت السن القانونية للافتراس، أو الشروط الموضوعة للوقوع في المصيدة. كما تضم رفًّا بالغ الأهمية أقيم على الفك السفلي لجمجمة الخنفساء، وفيه وضعت أنواع المحاليل والسموم والأحماض المُعدَّة للقضاء على كل أنواع الفرائس، مع دليل مرفق لدرجة الفتك والفعالية وآجال الصلاحية.
ويبقى هناك ملف ثانوي قلما تطلع عليه السيدة العنكبوت خلال يومها، وربما يمتد إغفاله لشهور، وهو ملف سجلت فيه بعض أنواع الحشرات ذات الجلد الفخم، والشكل الجميل، والألوان الجذابة، التي تقوم السيدة بالإرسال في طلبها أو شرائها مقابل بعض الجماجم والهياكل غير المستعملة لزخرفة مكتبها بشكل دوري، وكلما تبين لها ضرورة إعادة تهيئة فضائها الخاص والسري، خاصة في فترات ازدهار الصيد والإيقاع بالفرائس. ملف لم ينل سوى حيز صغير من فضاء المكتب، ورغم ميول السيدة العنكبوت في لحظات معدودة ومواسم محددة لبعض الجمال والزينة والزخرفة، يضم بين وثائقه بنود وشروط اختيار معدات التزيين والتجميل والزخرفة، ومواقعها وأصنافها، وكيفية جلبها والاحتفاء بها.
في مكتب السيدة العنكبوت، لا يسمح للضيوف بالدخول أو إلقاء نظرة أو طلب زيارة ولو كانت قصيرة أو في غاية الأهمية، إلا من تسلل من الحشرات الصغيرة دون علم السيدة. في الواقع، لا أحد من الحشرات التي سمعت أو شاهدت قوة وعنف السيدة، تجرأ يومًا على ولوج ذلك المكتب أو حتى المنزل وإن علمت بغياب مالكته، أو دخولها في قسطها اليومي من النوم، أو السبات الشتوي الموسمي.
حشرات صغيرة فقط في عمر مبكر هي مَن تجرأت على اختراق مكتب السيدة العنكبوت، لعدم نضجها وغياب خبرتها في الحياة ومخاطرها الكثيرة، بعضها دخلت المكتب دون علم أسرتها وإخوتها الكبار من الناجين من شراك السيدة العنكبوت.. حشرات صغيرة في عمر اليرقات أو أدنى من ذلك بكثير، دخلت فضاء الانقضاء وهي لا تدري، وظلت تلعب وتمرح، بينما خيوط السيدة العنكبوت تنسج على أجنحتها، لتصير بعد أيام هياكل من دون روح، معلقة على جنبات المكتب والمنزل، ليصير اسمها مسطَّرًا في سجلات السيدة العنكبوت المتراكمة.
(*) كاتب وباحث مغربي.