“جابر بن حيان” أول من وُفِّق لابتكارات في صناعة الدواء. فقد كان مصطلح “الترياق” الذي هو الدواء قبل جابر بن حيان، مقصورًا على تلك السموم التي تعطى للمريض بكميات معينة تكفي لشفائه. وكان أغلب تلك السموم يؤخذ من دهن الثعبان، وتعطى للمرضى بكميات مقننة لعلاج بعض أمراض المعدة والقلب، كتلبك الأمعاء، وعدم انتظام عمليات الهضم، وضعف الدورة الدموية.
كان ابن حيان أول من ركب الدواء وفق منظومة تعتمد شفاء المريض بمادة فعالة مأخوذة من عناصر وتركيبات لا يشترط أن تكون سامةً بطبيعتها. وكان إجمالي العقاقير التي ركبها ذلك الكيميائي المسلم وجربها بنجاح، أكثر من ١٣٠ مستحضرًا طبيًّا، لا يزال بعضها يستخدم حتى اليوم بتركيبته التي صنعها ابن حيان، مثل “مرهم الريح الأحمر” المعروف حديثًا بـ”التيراميسين”، الذي لا يزال العلاج الفعال والأكثر شيوعًا على مستوى العالم، لعلاج التهابات الجلد السطحية الناتجة عن الجراثيم التي تعلق به وتسبب التهابات وتقرحات، والذي ركبه ذلك البيطار الصيدلاني المسلم من معجون مستخرج من لحاء شجرة الصفصاف، مضافًا إليه زيتٌ مستخرجٌ من أوراق شجر السرو. ولا يزال ذلك الدهان الشافي يصنع فقط من هذين العنصرين الطبيعيين كما كان يصنعه ابن حيان قبل أحد عشر قرنًا، ودون إدخال أي تطويرات أو إضافات عليه.
كما كان لـ”ابن حيان” أيضًا الفضل في تركيب “عقار ترياق الدماغ ” الذي يعرف حديثًا بـ”الأفلاتوكسين”، الذي صنعه ابن حيان من تركيب بروميد البروم ذي التأثير المهدئ مع كميات محسوبة من اللحاء الرقيق لزهرة الخشخاش “الأفيون”. وقد اكتشف أطباء أمريكيون في عقد السبعينيات من القرن العشرين، التأثير الكبير للأفلاتوكسين في علاج أخطر الأمراض العصبية كـ”الفصام”، والذهان الهذياني” (البارانويا)، وبعض حالات الوسواس القهري. وكان جابر بن حيان اكتشف فائدة “الأفلاتوكسين” هذا، في علاج حالة “الماليخوليا” التي شخصها “أبو بكر الرازي” على أنها فقدان للوعي يعقبه نوبات من الهلوسة والهذيان، تحدث بتأثير تدافع الوساوس والأوهام إلى العقل.
كما كان لـ”ابن حيان” -أيضًا- الفضل في تركيب “عقار المحاياة المحايد”، الذي كان الشكل الأولي لـ”البنسلين” الذي ركبه “ألكسندر فيلمنج” عام 1954م، والذي كان اكتشافه ثورة في صناعة الدواء، لأن “البنسلين” يعد خافضًا للحرارة ومطهرًا عامًّا، بما يجعله الفيصل في علاج أغلب الأمراض الباطنية التي تشكل 70% مما يصيب الإنسان من أمراض. وكان ابن حيان في تركيبه لـ”عقار المحاياة المحايد” -كما سماه قبل أحد عشر قرنًا- ينطلق من نفس اعتبارية “فيلمنج” في تركيب “البنسلين”، وهي اعتبار أن “المضاد الحيوي” المناسب هو الفيصل في علاج أغلب الأمراض الباطنة، التي تحدث بتأثير الجراثيم والأجسام الغريبة المتسللة لجسم الإنسان. وكان “عقار المحاياة المحايد” هذا قد أفاد قديمًا في حصار وباء الملاريا.
كان نجاح الأطباء المسلمين المعاصرين لـ”ابن حيان” في تأسيس منظومة علاجية للأمراض الباطنية، الدور الأكبر في دفع ذلك البيطار لابتكار تلك الثلاثين والمئة مُستحضر الخاصة في أغلبها بعلاج أغلب الأمراض الباطنية، وهي التركيبات التي لا يزال أغلبها يُستعمل من جانب شركات الدواء العالمية حتى اليوم. إنها تركيبات منع وعلاج تليُّف الكبد التي صنعها ابن حيان من ثلاثة عناصر، هي ملح سوليفات الماغنيسيوم، وملح نترات الماغنيسيوم، وملح نترات الفوسفات. وإذا بحثنا عن أحدث عقار في العالم لعلاج تليُّف الكبد -وهو “ليزينوبريل”، نجده يتكون من مجموع تلك الأملاح الثلاثة، مُضافًا إليها فقط عنصر النحاس الطبيعي. كان لاكتشاف ابن حيان لخواص البلازما وتركيبها العضوي، دور كبير في تحديد الأطباء قديمًا لمُسببات سرطان الدم، حيث وجد ابن حيان أن زيادة أوكسيد الحديد في الدم عن 15 جزء في المليون، تؤدي إلى مُضاعفة فُرص الإصابة بسرطان الدم، ولذلك فقد حذر من الإكثار من تناول الدهون الحيوانية الموجودة في اللحم الأحمر، لأنها أكثر العناصر الحاوية لمعدن الحديد الذي يتأكسد داخل الجسم ليتحول إلى أوكسيد الحديد، الذي يزيد من فُرص الإصابة بسرطان الدم.
يقول ابن حيان في صفة “السيانيد”: “اعلم أنه أقتلُ شيء، وقد جعل الله من صفته أنه إذا رُكب مع النحاس كان سببًا في منع انسداد مجرى الدم، وإذا رُكب مع الحديد كان سببًا في نقاء الدم من السُم، وإذا رُكب مع الفوسفات كان سببًا في اخضرار الزرع وقتل ما يحوطه من آفات”.
وكان ابن حيان هو من أسس منظومة “الأقرباذين”، وهي تلك المتلازمة العلاجية الخاصة بعلاج ٢٤ مرضًا باطنيًّا، كأمراض كسل الكبد، وتقرُّحات المعدة، وارتجاع المريء. وكانت تلك المنظومة تشمل ١٣ عقارًا رُكبت جميعها من إضافة مُركب السليماني السام إلى عناصر المعادن المختلفة، كالحديد والنحاس والماغنيسيوم. وكان ابن حيان قد ركب السليماني من إضافة البروم إلى نترات النحاس بكميات محسوبة. وغنيٌّ عن البيان لدارسي الصيدلة، أن أملاح النترات التي يحويها السليماني، هي ما يعادل ضغط الدم ويمنع انسداد الشرايين، التي يحدُث انسدادها بفعل تراكُم الدهون في الشرايين نتيجة تناول اللحوم بكميات كبيرة، وكان الأطباء المسلمون قد التفتوا لخطورته، ونبهوا على الإقلال من تناوله، مع الإكثار من تناول الخضروات الطازجة.
أما فيما يتعلق بالمجالات البحثية الأخرى، التي أسس لها ابن حيان في الصيدلة، فيكفي تركيبه للأدوية المطهرة للجروح، بما مكن الطبيب الأندلسي الشهير “أبا القاسم الزهراوي” من التأسيس بدوره لعلم الجراحة، التي كانت “صبغة اليُود” التي ركبها ابن حيان أداته الرئيسية في تضميد الأعضاء التي كانت تخضع للعمليات الجراحية. وكان الزهراوي -طبيب الخليفة الأموي في الأندلس “عبد الرحمن الناصر”- أول من أشار بالبتر عند انتشار “الغنغرينا” في العضو المراد بتره. واكتشف أيضًا فائدة صبغة اليود التي سبق وركبها ابن حيان بغرض تضميد الجروح، وقد تمثلت تلك الفائدة في نظر الزهراوي، في ذلك الأثر المخدر لتلك الصبغة البسيطة التركيب، وهو الأثر الذي يجعل من صبغة اليود أساسًا في التركيبات المستعملة في العمليات الجراحية حتى يومنا هذا، والتي لا تزال تعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية، هي صبغة اليود، ولُحاء الصفصاف المضمد للجروح، والأفيون النقي بنسب متفاوتة.
ويبدو أن ابن حيان، كان أول من اكتشف التأثير المخدر لعنصر اليود الذي تُفرزه الغدة الدرقية في الجسم. وكانت إضافة ابن حيان الموفَّقة لعنصري البروم والنحاس إلى اليود في صناعة تلك الصبغة، تأكيدًا على إلمامه بخصائص هذين العنصرين الطبيعيين في تلاشي الإحساس بالألم الناتج عن الجروح الغائرة الناتجة عن الجراحات.
وكانت دراسات الزهراوي في علم الجراحة، قد أثبتت نجاعة تلك العناصر الثلاثة المُسكنة للجروح. والعجيب في الأمر، أن عمليات القلب المفتوح تعتمد منذ بدايتها في سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، على صبغة اليود في تسكين آلام الشريان الأورطي الناتجة عن عمليات القلب المفتوح. ويظل تركيب ابن حيان لصبغة اليود، أساس صناعة مطهر “البيتادين” الأشهر في العالم حاليًّا، الذي كان تركيبه مقدمة لصناعة مطهرات أكثر حياطة للبدن من الجروح الغائرة، كمطهر “ميبو وفيسيدين” الذي لا يزال تصنيعه يعتمد على أبحاث ابن حيان في تطهير الجروح. وهي الأبحاث التي اعتمدت المزاوجة بين العناصر الثلاثة “اليود، والسوليفات، والنترات” في تضميد الجروح وتخفيف آلامها.
كانت “البيطرة” أساسًا من أساسيات العمل في تلك المارستانات (المشافي العامة)، التي أنشأتها الدول الإسلامية منذ عهد الدولة العباسية. وكان في كل من تلك المستشفيات قسم لتركيب الأدوية. ويذكر “ابن أبي أُصيبعة” صاحب “طبقات الأطباء”، أن “مارستان بغداد” الذي أنشأه “أبو جعفر المنصور”، كان يحوي قسمًا للبيطرة يحوي من المطهرات أكثر من مئة صنف، وأن الشبة والكلور ومستحضرات اليود وسوليفات الماغنيسيوم، كانت العناصر الأكثر استخدامًا فيما يتعلق بتطهير الجروح وعلاج الحالات الطارئة، كالجروح الغائرة الناجمة عن الحوادث الفجائية. وأضاف صاحب الطبقات، أن مارستان بغداد الكبير، كان يسع في زمن “هارون الرشيد” ٢٣٠ سريرًا، وأنه كان يحوي أيضًا قسمًا لعلاج الهلاوس والضلالات، التي كان الطبيب الفذ “أبو بكر محمد الرازي” قد شخص أكثر حالاتها شيوعًا، كـ”الماليخوليا، والوساوس القهرية”. ومن العجيب أن “الرازي” قد طور عقاقير مهدئة لكثير من الحالات النفسية المُستعصية. وكان إطاره العلاجي لتلك الحالات، قد أفاد كثيرًا من تطويرات جابر بن حيان. حيث اعتبر ابنُ حيان، أن عنصر البروم يعد ناجعًا في ارتخاء أعصاب المخ والبدن على السواء. وكان “الفخر الرازي” قد طور على أساس من أصالة أبحاث ابن حيان المادة المركبة من ثمانية عناصر طبيعية، وهي مادة “الأيدرو برومو سوليفيم البوتاسيوم”، وهي التي لا تزال مُعتمَدة حتى اليوم في علاج الكثير من أعراض الفصام والذُهان الهذياني (البارانويا)، أكثر الأمراض العقلية شيوعًا حتى يومنا هذا. وكانت تلك المادة التي ركبها ذلك الطبيب النابغة تحوي من الخصائص العلاجية ما جعل العلماء يحتارون في ميزاتها العلاجية حتى اليوم، حيث إن تلك المادة تفيد في ارتخاء أعصاب المخ، وتنشيط إشارات المخ العصبية، بل وتنظيم توارُد الإشارات المخية، بما يؤدي لتيسير علاج كثير من الحالات النفسية والعصبية المستعصية. ويكفي للتدليل على أصالة ونبوغ “الرازي” في علاج الأمراض النفسية المستعصية، اكتشافه لتلك المادة السالفة الذكر، التي لا تزال العلاج المعتمد لأكثر من عشرين حالة فصامية مستعصية في وقتنا الحاضر.
إن اجتهادات البياطرة المسلمين في صناعة الدواء، كانت تنبع من شموليتهم المعرفية؛ حيث كان “ابن حيان” كيميائيًّا وبيطارًا منعدم النظير، وكان “أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي” جراحًا وضع أصول الجراحة وبيطارًا في آن واحد، مثلما كان “أبو بكر الرازي” طبيبًا ومُعالجًا نفسيًّا وبيطارًا مع كل ذلك. وكان نبوغهم في البيطرة التي هي الصيدلة، قاسمًا مشتركًا في نجاح أبحاثهم الطبية التي شكلت أساس صنعة الطب في بلاد الإسلام. وهي الصنعة التي ازدهرت في مصر على عهد الفاطميين، حيث كانت مكتبة قصر الخليفة الفاطمي في القاهرة، تحوي ستة آلاف كتاب في العلوم الطبية. وكانت الحضارة الإسلامية بوجه عام، قد زاوجت بين مجموع العلوم الداخلة في البحث في الجسم البشري، التي ربت على ١٢ علمًا هي حسب المسمى العربي/الطبي: علم الطب الباطني، وعلم أمراض المعدة، وعلم وظائف الأعضاء (وكان المسلمون يسمونه قديمًا بعلم حركة البدن)، وعلم أمراض النفس، وعلم العين، وعلم سوائل البدن (الغدد)، وعلم حركة الأطراف (الأعصاب)، وعلم الدم الذي أسسه العالم “ابن النفيس”، وعلم خوارج البدن (الغدد الليمفاوية والأورام)، وعلم الحواس (طب الأنف والأذن والحنجرة)، وعلم تقيُّحات البدن (الأمراض الجلدية)، وعلم المُخرجات (أمراض الكُلى والمثانة).
(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(1) “الخمائر الصغيرة” والخواص”، لـ”جابر بن حيان”.
(2) “الحاوي في الطب”، لـ”أبي بكر الرازي”.
(3) “طبقات الأطباء”، لـ”ابن أبي أُصيبعة”.