(تدريب الروح على مكابدة الألم)
كتاب “علمتني المحن والابتلاءات” ألفه د. هاني درغام عندما كان هو في أوج المحن ومنتهى اليأس.. أخذت به الابتلاءات واحدة تلو الأخرى.. جعلته يفقد وعيه وثقته بربه أحيانًا، ولم يكن يتصور قط أنه يستطيع كتابة هذا الكتاب الذي يملأ القرّاء صبرًا وإيمانًا.. ويقلع من قلوبهم جذور اليأس والأحزان…
تجارب حياة مريرة.. هي تترى وتترى.. طالت به سبع سنوات فيها كل أنواع العذاب.. مرت به دون أن تبالي ببكاءه وآهاته.. وما رأى فيها يومًا بصيص رجاء.. ولم يكن يدري أن الدنيا دار ابتلاء واختبار.. يتقلب فيها المرء بين السراء والضراء.. وأنه لا ينبغي له أن يفرح في حالة النعم أو يحزن في حالة النقم إلا قليلاً.. ويجب أن يتحلى بالصبر في الأهوال.. ويشكر للرب في الأفراح..
نعم، هي طبيعة البشر أنه يميل إلى ما يسر قلبه ويروي هواه.. ولا يمكن أن يتعايش مع الشدائد مثل ما يتعايش مع اللذائذ.. ولكن التدريب المحض يمكنه لحد ما لا محالة أن يتماسك عند المنع والعطاء.. وذلك التدريب لا يمت بصلة للجسد بل للروح بكامل معناها.. الروح التي لا هلاك لها في دار الفناء والبقاء.. نفخها الله في بني آدم من روحه.. ليكون لها من الدوام نصيب ومن الهمة قسمة..
ولا شك أن الكاتب نجح في سرد الكتاب بطريقة توزن فيها حقيقة الحياة في ميزاني المنع والعطاء مع ترجيح العطاء على المنع، ولكن لا يميز تلك الحقيقة الربانية إلا من تذوق حلاوة الإيمان وتفكر في تدابير الله.. تلك الحقيقة التي عبر عنها القرآن في قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فالعسر هنا في الموضعين عسر واحد بعينه لأنه معرف بالألف واللام، وأمّا كلمة يسر وهي نكرة فإنها يسر بعينه في كل موضع.. ويمكننا التعبير عن هذا بشكل أكثر بساطة وذلك أن الله يخفي في الآيتين سريرة تُطمئن المهمومين ألا وهي أن العسر يغلبه يسران فمهما عانيت من آلام أو فقدان أو حرمان فثق أن من ورائها ضعف سلوان يأتيك ليلمس روحك وليذيب جراحك الذي كنت تظنها لا تلتئم..
والكتاب يوحي لكل قارئ أن المؤمن كلما يقع في بلاء أو هموم يذكر ربه ويتوكل عليه.. وحيث ينقطع رجاؤه من المخلوقات حوله يجعل كل رجائه في مولاه الوحيد.. وقد أتى الكاتب د. هاني درغام بهذه الحالة للروح في عبارته الصافية “أتظنين أن الملك – عز وجل – يتركِك فريسة لآلامك وأحزانك وهمومك، وأنتِ تتذلّلين على أعتابه وتنكسرين في محرابه!”
وفي موقف آخر قائلاً “أخي، هَبْ أن أسبابك انقطعت، ولم يبق لديك منها شيء، وبذلت قصارى جهدك في تحصيل مطلوبك، ثم لم تبلغ مرادك. فهل تعلم أن لك ربًّا قديرًا يخرق الأسباب، ويجبر كسر المؤمنين، ويسد خلل المتوكلين، فكيف يتسرَّب بعدها اليأس إلى قلبك، وكيف تذهب نفسك على جهدك حسرات؟”.
وهكذا يقترب العبد من ربه أكثر فأكثر فيعترف قلبه بجبروت سيده وخالقه اعترافًا لا يعتريه أي ارتباك، ويتفهم مع مرور الوقت أنه تعالى كان يعالج أمراض قلبه تارةً أو يغفر ذنبه أخرى، وأنه تعالى إنما يريد له الخير بذاك البلاء حالاً أو مآلاً.. وبالتالي وصف الكاتب هذه الحالة بين الرب والعبد بمعاملة الطبيب مع المريض أي “الولد المريض يرى الإبرة التي يدخلها الطبيب تحت جلده ظلمًا، وهي في رأي أبيه عدل كل العدل”.
فكل ما يقوم به الرب في عبده محض عدل لا ظلم ودواء لا داء حتى تعلمك أشياء كثيرة ومن بينها، أن التأخير قد يترتب عليه فوائد أكثر، وثمرات أغزر، مما كنت تتمنى أو تحلم، أن تعلم أنَّ الذي ابتلاك بها أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه سبحانه لم يُرسل إليك البلاءَ ليُهلكك به، ولا ليُعذبك به، ولا ليَجْتاحَك، وإنما افتقدك به؛ ليمتحن صبرك ورضاك عنه وإيمانك، وليسمع تضرُّعك وابتهالَك، وليراك طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعًا قصصَ الشكوى إليه..
كما يقول شاعر:
إني رأيت وفي الأيام تجربة | للصبر عاقبة محمودة الأثر |
وقل من جد في أمر يحاوله | واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر |
ومن جمال هذا الكتاب أيضًا أنه يثبت الحقائق بالمنطق والدليل حتى لا يشعر القارئ بأنه مجرد رواية عاطفية أو قصة خيالية.. ويسلط الضوء عليها قوله الممتزج بالعقل والمنطق: “النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة.. فلا فرحة لمن لا همّ له ولا لذة لمن لا صبر له ولا نعيم لمن لا شقاء له.. ولا راحة لمن لا تعب له.. صبر ساعة خير من عذاب الأبد”.
وكذلك المثال لما يثبته الدليل القاطع من قوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) حيث اقتبس منه علة لعبارته “للهمِّ ساعات، وللغم أوقات، ثم ينجلي بسرور لاحق، وفجر صادق؛ لأن الله – عز وجل – جعل لكل شيء قدرًا”.